بعد مضي أكثر من سبعة أشهر على التدخل الروسي المباشر في سوريا، قررت روسيا سحب جزء من قواتها المتواجدة في سوريا، إذ يعود التدخل الروسي المباشر إلى إعلان الكرملين في أيلول عام 2015 منح الرئيس (فلاديمير بوتين) تفويضا بنشر قوات عسكرية في سوريا، بناءً على طلب الرئيس السوري (بشار الأسد) المساعدة العاجلة من موسكو، فأرسلت الأخيرة عدة آلاف من الجنود والطائرات المقاتلة والأسلحة الأخرى واشتركت فعليا في القتال الدائر ضد المجموعات المتشددة في سوريا، إذ أعلن الرئيس الروسي عن رغبة بلاده في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا، داعيا لتشكيل تحالف حقيقي (سوري، عراقي، إيراني، روسي)، وموجها الاتهام للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية ودول الغرب وبعض الدول العربية "بتغذية الإرهاب".
على الرغم من إن لروسيا أهدافا عديدة من تدخلها في سوريا، باعتبارها أخر معاقل التواجد الروسي في الخارج، وأهميتها الاستراتيجية لروسيا باعتبارها قاعدة متقدمة لها، كذلك للبلدين علاقات تاريخية وثيقة وتحالف استراتيجي مهم، كما إن روسيا لا تريد لأمريكا إن تنفرد بقيادة العالم، ومن ثم محاصرة روسيا، إلا إن روسيا قررت إن تسحب بعض القوات شمل بعض الطائرات المقاتلة وبعض المعدات العسكرية، مع الإبقاء على جزء من هذه القوات في قاعدة طرطوس وقاعدة حميميم العسكرية، كما إن روسيا أعلنت إن عملها العسكري في سوريا ضد المجموعات المسلحة التي توصف بالإرهابية مستمر، وان هذا الانسحاب جاء بالاتفاق مع القيادة السورية كما أعلنت ذلك دمشق.
لقد جاء سحب روسيا لجزء من قواتها من سوريا وفي هذا التوقيت هو إرسال عدة رسائل إلى العالم، والى الداخل الروسي والمعارضة السورية والحكومة السورية على السواء، ومن هذه الأسباب هي:
1- إن سحب روسيا لجزء من قواتها من سوريا جاء مع انطلاق مفاوضات جنيف بين الحكومة السورية والمعارضة التي بدأت في 14 آذار برعاية الأمم المتحدة، فقد كان لها وقعا دوليا كبيرا، فقد رحبت اغلب الإطراف بهذه الخطوة الروسية، واعتبرتها خطوة بالاتجاه الصحيح، فقد رحب مجلس الامن بالانسحاب الروسي من سوريا، كما إن الوسيط الدولي إلى سوريا ( دي مستورا) هو الأخر أكد على أهمية هذه الخطرة، لهذا ومن اجل إنجاح مفاوضات جنيف وغيرها قررت روسيا الانسحاب الجزئي، وفي نفس الوقت إبداء حسن النية في المفاوضات، وعدم إعطاء إي ذريعة للمعارضة في حالة فشل المفاوضات، خاصة وان بعض التقارير تحدثت عن رغبة اغلب المعارضة السورية بإيجاد حل للازمة في سوريا، وإنها جاءت لجنيف لإيجاد حل للازمة وليس الانسحاب من المفاوضات، لهذا فان روسيا هي الأخرى قرأت هذه الصورة وعملت باتجاهها.
2- كثرة الانتقادات الموجهة لروسيا باستهداف المدنيين والمجموعات المسلحة المعتلة، والتي شملها وقف إطلاق النار، لأن ميادين القتال المتشابكة في سوريا غالباً ما تجمع المعارضة السورية متمثلة "بالجيش الحر" وعناصر المجموعات المسلحة الأخرى مثل "داعش" وقوات النظام السوري في ساحة واحدة، بحيث يقومون بتنفيذ عملياتهم بالقرب من بعضهم البعض أو ينخرطون فعلياً مع بعضهم البعض، وفي ظل الظروف الراهنة، قد تسبب العمليات الروسية الداعمة لقوات النظام بشن هجوم على القوات التي شملها وقف إطلاق النار، سواء عن قصد أو دون قصد، وقد تشكل محافظتا درعا وحلب منطقتين رئيسيتين لمثل هذه الاشتباكات، مما قد يؤدي إلى انهيار الهدنة بين الطرفين، وفي أحسن الحالات قد تقود العمليات الروسية في سوريا إلى زيادة التعاون السعودي التركي مع المعارضة السورية من خلال التسليح والدعم المباشر مما يعقد الحل في سوريا، ويزيد من اشتعال النار فيها.
3- وجود معارضة للتدخل العسكري الروسي المباشر من داخل روسيا نفسها، إذ إن بعض سياسات الرئيس (بوتين) لا تلقى القبول والتأييد داخل روسيا خاصة من قبل الأحزاب ذات التوجهات الغربية، وهذه المعارضة ترى إن مصالح روسيا مع الغرب هي اقوي من مصالحها مع الشرق، خاصة وان لروسيا روابط اقتصادية قوية مع الدول الغربية، وهي بحاجة إلى التكنولوجيا المتطورة في الصناعات المختلفة، كما إن الغرب هو السوق الرئيسي للنفط والغاز الروسي الذي يعد المصدر الرئيسي للعملة الصعبة في روسيا، كما إن روسيا وان كانت قوى كبرى إلا أنها بحسب نظر المعارضين لا يمكنها الوقوف بوجه الغرب لوحدها، وهم يتذكرون إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان بسبب العداء للغرب، وهم يخشون على روسيا من نفس المصير، لهذا فان القيادة في روسيا هي الأخرى تأخذ مخاوفه المعارضة الداخلية على محمل الجد، وتحاول إن تكسبها إلى جانبها، من خلال الموازنة بين امن الداخل ومتطلبات الخارج، لهذا فان سحب القوات جاء لإسكات هذه الأصوات وعدم توسعها في المستقبل خاصة مع قرب الانتخابات الرئاسية في روسيا.
4- على الرغم من إن المعلن من التدخل العسكري المباشر لروسيا لأكثر من سبعة اشهر ضد تنظيم "داعش والنصرة" والمجموعات المسلحة الأخرى،، إلا أنّ نيّة موسكو الأساسية من التدخل في سوريا تكمن، على أغلب الظن، في دعم مصالحها الإستراتيجية من خلال دعم النظام السوري وليس في محاربة تنظيم "داعش"، فالتهديد الرئيسي الذي يواجه النظام غير مرتبط بمعاقل "داعش" في شرق سوريا ووسطها، بل بالمجموعات المسلحة الأخرى التي تشكل خطراً متزايداً في المناطق الغربية الحيوية لاستمرارية النظام، لاسيما شمال اللاذقية وإدلب وشمال حماة وجنوب دمشق، لهذا وبعد إن حققت روسيا الجزء الأكبر من أهدافها وخاصة إبعاد المجموعات المسلحة عن تواجدها العسكري في اللاذقية وشمال سوريا، وتقدم الجيش السوري لمسافات كبيرة في حلب ووصوله إلى إعزاز قرب الحدود مع تركيا وتحرير اللاذقية بالكامل، لهذا فان تخفيض روسيا لقواتها جاء من اجل تخفيف الضغط عليها دوليا وإقليميا، وإبداء حسن النية تجاه الحل السلمي في سوريا.
5- ان هدف روسيا من التدخل العسكري كان تمكين النظام السوري من البقاء والاستمرار كلاعب أساسي على الأرض، واعتراف الأطراف الأخرى بكونه جزءاً من الحل السياسي، ثم دفع عجلة الحل السياسي، و"هذا حصل بالفعل، فبعد أن كانت المعارضة لا تقبل بالجلوس معه اصبحت العملية أكثر ديناميكية.
6- انطلاقا من بحث روسيا عن مصالحها الإستراتيجية في المنطقة وخاصة سوريا، والكل يعرف إن الدول العظمى تحاول دائما تعظيم الأرباح بأقل الخسائر من خلال إتباع اقصر الطرق واقل الخسائر في تحقيقها، لهذا فان من غير المستبعد لجوء روسيا إلى إتباع اسلوب التفاوض مع المعارضة السورية المعتدلة من اجل البقاء على مصالحها في سوريا بعد حل الأزمة فيها، خاصة وان وزير الخارجية الروسي (سيرغي لافروف) صرح يوم 15 آذار بان المعارضة السورية المعتدلة جادة في إيجاد حل للازمة في سوريا، وهذا حسب التحليلات يعطي انطباعا ايجابيا في نفسية المعارضة من إن روسيا توازن في علاقاتها مع جميع الأطراف، كما إن علينا إن لا نغفل إن معظم قادة المعارضة المعتدلة وخاصة الائتلاف السوري المعارض هم كانوا ضمن الحكومة السورية في السابق ومنهم المتحدث باسم الائتلاف الذي كان وزيرا للثقافة في حكم الرئيس السابق (حافظ الأسد)، وهذا يعني وجود روابط علاقة بين الطرفين لا تريد روسيا خسارتها، لهذا فان سحب جزء من هذه القوات سيكون بداية لاستمرار النفوذ وتحقيق المصالح، بدلا من التصادم غير محسوب العواقب.
7- إيصال رسالة إلى الحكومة السورية والنظام السوري بان دعم روسيا لهم ليس مطلق، وإنما هناك حدود لهذا الدعم، وان على النظام أن يقبل بأطر الحل السياسي، وإبداء مرونة في المفاوضات مع المعارضة السورية المعتدلة، لهذا كانت بعض تصريحات المسؤولين الروس من إن هدف الحملة الروسية في سوريا ليس الدفاع عن نظام الأسد وإنما حماية المصالح الروسية، لهذا فان اغلب التحليلات ترى إن تسوية قريبة قادمة في سوريا تحقق مصالح الكل من خلال تحديد فترة زمنية لرحيل الرئيس بشار الأسد، وتشكيل حكومة سورية جديدة.
8- هناك من يقول إن في السياسة لا توجد عداوة دائمة أو صداقة دائمة وإنما مصالحة دائمة، وهنا إن إي اتفاق روسي أمريكي في سوريا سيقود بالنهاية إلى التضحية بمواقف الاطراف الإقليمية وعلى رأسها إيران والسعودية التي دخلت الساحة السورية منذ أكثر من خمس سنوات، وقدمت هذه الدول الدعم المباشر وغير المباشر من أموال وسلاح ورجال للأطراف التابعة لها، وهنا يقول البعض إن التدخل الروسي لا يعني بالضرورة ان يكون متوافقا مع إيران، فلكل دولة مصالحها في المنطقة، إذ إن إي تغيير في شكل النظام السوري القادم بالتوافق الروسي والأمريكي سيكون في مصلحتهم هم فقط، ولن يكون هناك متسع لكل الاطراف، لهذا فان الاعتقاد السائد إن هناك اتفاق أمريكي روسي قادم سيكون الإطار للحل في سوريا.
خلاصة القول، أن موسكو فرضت على الأطراف الدولية والإقليمية القبول بالواقع الجديد الذي فرضته على الصراع السوري، ومنها منع التغول الايراني وإيقاف مشروع المنطقة الآمنة التركية في الشمال وغير ذلك، فروسيا قامت بعرض قوة مهم في الأزمة السورية، وأرسلت رسائل واضحة للعالم الغربي والدول الإقليمية بكونها قادرة على اتخاذ قرار التدخل العسكري الخارجي وتمتلك الإمكانيات العسكرية المطلوبة لدعم القرار، وعادت للقطبية من جديد كفاعل في القرار الأممي والدولي في مقابل عجز سياسي وعسكري لدول العالم الغربي، وحتى لو فشلت المفاوضات، يكون الروس اختاروا الخيار الأقل كلفة والأكثر ضغطاً على النظام.
إلا إن سحب جزء من هذه القوات هو قد يكون إجراء روتيني متبع في كل جيوش العالم من خلال استبدال هذه القوات بأخرى، لهذه فان روسيا قد تزامن سحب جزء من قواتها مع بدء المفاوضات، لهذا فان عودة هذه القوات ليس بالأمر الصعب، بل يمكن لروسيا خلال أيام ان تعيد انتشارها في سوريا بإضعاف هذه القوات، لهذا فان المهم هو ليس سحب القوات وإنما ما سوف تسفر عنه مفاوضات جنيف بين الحكومة والمعارضة، كذلك اتفاق الاطراف الإقليمية والدولية على إيجاد حل سياسي حقيقي في سوريا يحقق للشعب السوري الاستقرار ولسوريا وحدتها، بعيدا عن التدخلات الخارجية.
اضف تعليق