بعد احداث الربيع العربي عام 2011، تعهد كل من احمد داود اوغلو ووزير خارجيته ورئيس الوزراء بان تركيا هي التي ستضع قواعد اللعبة في الشرق الاوسط. اليوم بدت فكرة العظمة هذه ضربا من الخيال. بعد تفجير ناقلة الجنود التركية في انقرة الشهر الماضي، والتي القت فيها الحكومة التركية اللوم على جماعة وحدة حماية الشعب الكردي، اعلن داود اوغلو ان الانتصارات الكردية الاقليمية الاخيرة في سوريا ضد المتمردين الاسلاميين كجبهة النصرة –التي تسميها تركيا معتدلة– يمثل تهديدا "لبقاء الدولة" التركية. ومنذ السنة الماضية، حوّل الجيش التركي المدن الكردية في جنوب شرق تركيا الى ساحة حرب في مسعى لطرد المسلحين الاكراد الذين تحصنوا في هذه المناطق. وفي الايام الماضية بدأت القوات التركية اطلاق النار على المسلحين الاكراد في شمال سوريا.
ان ادراك مخاوف تركيا وردود افعالها تجاه تلك المخاوف يتطلب النظر في التاريخ الطويل لأقاليمها.
تأسست الجمهورية التركية عام 1923، وكانت بُنيت على اساس ضعيف: طوال وجودها، كان سكانها منقسمين اثنيا وعلى خطوط طائفية. حين نتأمل الاناضول، شبه الجزيرة التي تغطي 97% من مساحة تركيا، نجد انها لم تكن يوما موحدة. انها امضت الفي سنة –من العصور القديمة الى العصر البيزنطي– قبل ان تتبنّي اللغة المشتركة: اليونانية. ثم امضت الف سنة اخرى قبل ان تتحول الاغلبية الهيلنستية الى اغلبية تركية (في اللغة) ثم تبنّت الاسلام كدين لها. هذه العملية بدأت في عام 1071 عندما دخلت القبائل التركية الى الاناضول بعد سحق الجيش السلجوقي للجيش البيزنطي في معركة مانزكيرت. وبعد عدة قرون، تحول المسيحيون الاصليون تدريجيا –مظهريا في اغلبهم– الى الاسلام، جاعلين من الاناضول اسميا اقليم الغالبية المسلمة.
الاّ ان الجماعات الاثنية والطوائف الدينية المعروفة في الاناضول قاومت محاولات الدولة المتعاقبة لفرض السيطرة المركزية والوحدة الثقافية من خلال الدين الارثودكسي. ولغاية تأسيس تركيا كانت هناك فقط دولتان اناضوليتان سيطرتا على اغلب الجزيرة: وهما الاولى كانت الامبراطورية الحثية في الالف الثاني قبل الميلاد، والثانية كانت السلطنة السلجوقية التركية من القرن 11 الى القرن 13. الاخيرة نجحت في كسب اجزاء كبيرة من المناطق المتحدثة باليونانية، وهم السكان القرويين المسيحين وذلك لأنها لم تفرض دينا ارثودكسيا. هذا يوضح كيف خسرت الامبراطورية البيزنطية الاناضول. الولايات في الاناضول ايضا دخلت في صراع عنيف ضد العثمانيين الذين فتحوا المنطقة في القرن الخامس عشر. غير ان الاناضول استمرت في مقاومة مركزية الامبراطورية وفرض ديانة ارثودكسية. في الحقيقة، ان الامبراطورية العثمانية انهارت تقريبا في بداية القرن السابع عشر بعد انتفاضات شعبية عنيفة في الاناضول. الثورات تم سحقها لكن الصراع الطويل بين المقاطعات الاناضولية واستنبول لم يتوقف ابدا.
ان تحول الاناضول الى مركز للدولة القومية التركية كان اكثر دموية. في بداية القرن العشرين، بقي خُمس سكان الاناضول – الأرمن، اليونانيين والاثوريين – مسيحيين. الامبراطورية العثمانية شنت حملة ابادة جماعية ضد هذه الجماعات واجبرتها على الهجرة لخلق بلد متجانس. لكن الانقسامات العرقية والدينية استمرت حتى بين الجماعات التي غادرت. جماعاتا الكرد والعلويين الاقلية المسلمة المضطهدة لقرون قاومتا الانصهار.
ان الدولة التركية، الخائفة من التفتت سعت الى قمع اقليتها الاثنية المتبقية، الكرد، اما عبر التهجير الداخلي او بالذبح، كما فعلت عام 1931 في مقاطعة اكري Agri وفي عامي 1937 و1938 في مقاطعة ديرسيم Dersim. لكن من غير المدهش ان، تلك السياسة الوحشية فشلت في خلق تجانسا قوميا. في الثمانينات من القرن الماضي وبعد القيام بانقلاب لسحق اليسار السياسي الصاعد قام العسكر بجهد جديد لدعم كل من القومية التركية والاسلام السني كدواء للأفكار اليسارية المتشددة. النظام العسكري اصدر تعليمات دينية اجبارية وبنى مسجدا في كل قرية. غير ان ثنائية القومية التركية والأسلمة لم تكن كافية للتحكم بصعود القومية الكردية العلمانية التي اصبحت تشكل تحديا خطيرا بعد ان بدأ حزب العمال الكردستاني تمرده عام 1984.
حزب الاسلاميين المعتدلين- العدالة والتنمية الذي جاء للسلطة عام 2002، ظهر كقوة موحدة للبلد المنقسم، كونه بدا جذابا لكل من المحافظين الاكراد والاتراك. صعود الحزب يشير الى ان الوحدة الكردية التركية يمكن ضمانها على اساس من الاسلام السني. في عام 2012، وبعد وقت قصير من اعلان الحكم الذاتي من جانب اكراد سوريا في اقليم روجافا Rojava، بدأت الدولة التركية اجراء محادثات مع السجين عبدالله اوجلان، قائد حزب العمال الكردستاني. هذه المحادثات كانت مثمرة عام 2013، عندما دعا اوجلان منظمته الى انهاء العنف ضد تركيا. بعد ذلك، قُتل حوالي 40000 شخص معظمهم من المسلحين الاكراد، في الاشتباكات التي دارت بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني. الحكومة كانت تأمل ضمان نزع سلاح حزب العمال الكردستاني بدون اعطاء اي تنازلات للاكراد. انها اعتقدت ان الحل للمسألة الكردية هو التأكيد بان الكرد والاتراك كانوا موحدين "بالاخوة" الاسلامية.
اوجلان شجع ايضا على وحدة الاتراك والكرد الذين وصفهم بانهم كانوا تحت راية الاسلام منذ آلف سنة."اوجلان وسع هذه الرؤية للوحدة الى ما وراء حدود تركيا، مجادلاّ بان الاكراد والترك كانا "عنصرين ستراتيجيين رئيسيين في الشرق الاوسط"، لديهما رسالة اقليمية في توحيد الكرد والتركمان والاشوريين والعرب" في العراق وسوريا اللذين انتُزعا من تركيا بعد نهاية الامبراطورية العثمانية في اعقاب الحرب العالمية الاولى. في الحقيقة، كانت مهمة اوجلان الى درجة كبيرة تسير في نفس الخط مع الاهداف التركية. المساعد السابق لرئيس وكالة المخابرات القومية التركية اعلن ايضا ان "التسوية التركية للمشكلة الكردية ربما تسبب تغييرات في حدود وخارطة الاقليم"، الامر الذي يعني ان اجزاءا من سوريا والعراق، التي يقطنها اكراد، ربما تُدمج ضمن تركيا.
غير ان النخبة التركية الرسمية بدأت تخشى من ان الاعلان الجديد للاكراد في سوريا، يعني ان pkk (حزب العمال الكردستاني) يمثل مرة اخرى تهديدا. وبعد نجاح الحزب الديمقراطي المناصر للكرد في الانتخابات البرلمانية لشهر تموز 2015، قام النظام التركي بانتهاك عملية السلام مع الكرد التي استمرت سنتين ونصف، فكانت ايذاناً لمواصلة الحرب بين تركيا وحزب العمال الكردستاني.
ان نهاية التحالف الكردي التركي هذا دفع حزب التنمية والعدالة (AKP) ليقترب كثيرا الى خصمه السابق، الجيش، الذي اعلن بوضوح عن معارضته لمحادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني. (في اواخر 2014، هدد الجيش بانه اذا تجاوز حزب التنمية والعدالة الخطوط الحمراء للجيش والتي عُرّفت بـ "وحدة الامة"، فان الجيش سيرد طبقا لذلك). ومنذ ذلك الوقت، تبنّت الحكومة سياسة تجاه الاكراد صاغها الجنرالات. في السنة الماضية، نقلت الحكومة مسؤولية مكافحة الارهاب –حزب التنمية والعدالة يرى ان الاكراد جماعة ارهابية– من السلطات المدنية الى القوات المسلحة. في هذه الايام، يتحدث القادة العسكريون ومسؤولو حزب التنمية والعدالة نفس اللغة وتعهدوا بجعل تركيا فقط للاتراك. على سبيل المثال، الرئيس رجب طيب اردوغان ذكر مؤخرا "نحن امة كنا منذ آلف سنة ندفع ثمن الحياة على هذه الارض. نحن ندرك جيدا ان وراء ما يحدث حاليا هو تسوية حسابات في هذه الجغرافيا التي استمرت آلف سنة". وفي اعلان منفصل، ادّعى رئيس هيئة الاركان العامة الجنرال هلسي اكار Hulusi Akar بان "الاناضول كانت وطنا للاتراك منذ الانتصار في معركة مانزكيرت في 26 اب عام 1071". وفي اعلا ن تحدي اثني آخر أعلن أعلى جنرال في الدولة" ان تركيا هي جمهورية الاتراك".
ربما حان الوقت للقادة الاتراك انهاء القمع الوحشي للاكراد واستيعاب مطالب الكرد في حكم ذاتي محلي. الجيش سوف يعارض هذا. غير ان حزب التنمية والعدالة قد يتغلب على معارضة الجيش والقوميين الآخرين لو وصل مرة اخرى الى الدائرة الانتخابية – الليبراليين الاتراك والكرد– التي ساعدته في الوصول الى السلطة. يجب على القادة الاتراك ادراك ان اثارة ماضي الاناضول يعني الاعتراف بتاريخها كأرض مختلفة عرقيا. الانتصار في معركة مانزكيرت اعطى للترك مدخلا الى الاناضول لكنه لم يحولها الى "وطن تركي"، كما يدّعي القوميون الاتراك. لو نظرت تركيا للماضي ستدرك ان الاصرار على فرض التجانس القومي سوف لن يؤدي فقط الى استمرار الانقسام في البلد وانما ايضا الى تفتيته.
اضف تعليق