منذ التغيير في 2003 ونظام المرتبات الشهرية المرتفع جدا الذي سنته وأقرته حكومة الاحتلال الأمريكي، والسادة السياسيون والوزراء والنواب ومن هو أعلى منهم، يتقاضون رواتب خرافية لم يسبق أن تقاضاها أحد في تاريخ العراق كله سوى الطاغية المقبور وأفراد عائلته.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا الراهن، وفي الوقت الذي تزداد فيه نسبة أعداد الفقراء في المجتمع العراقي، تتضخم أموالهم بشكل جنوني، ولاسيما من وظف منهم مركزه لسرقة المال العام. والغريب أنهم لم يتعظوا من عبر التاريخ، فصاروا يكدسون أموالهم إما في مصارف خارج العراق قد لا يتمكنون من الوصول إليها، أو يشترون بها أملاكا داخل البلاد بأسماء أقاربهم لكي لا تكشف ذمتهم.
إن السياسيين الغافلين لا يدرون أن من ائتمنوه على مالهم لن يدفع عنهم دينارا واحدا لينقذهم من غضبة الجياع إذا ثاروا. وهي حالة أخرى من حالات الدروس التاريخية التي نذكر بها عبر مواضيعنا، والتي لم ولن يتعظ بها السياسيون، لأنهم لم يسبق لهم قراءة التاريخ نظرا لجهلهم وقلة ثقافتهم وانشغالهم من قبل حينما كانوا في الغربة بتحصيل لقمة العيش، وانشغالهم اليوم بتكديس الأموال.
ولكي أذكرهم وأذكر من يتمنى أن يسير على نهجهم، أقول: روى المؤرخون ومنهم أبو الفداء في كتابه (مختصر في أخبار البشر) أن المماليك الأتراك طلبوا أرزاقهم من الخليفة العباسي المعتز بالله، فلم يكن عنده مال يعطيهم، فساوموه، ونزلوا إلى خمسين ألف دينار، فأرسل، وسأل أمه، وهي من الإماء وأسمها (قبيحة) أن تعطيه من مالها لتفك أزمته، فقالت: ما عندي شيء، وفرطت به؛ وهو ابنها وليس غريبا عنها.
فاتفق الأتراك والمغاربة والفراغنة على خلعه، فدخل جماعة منهم، فجروه برجله إلى باب الحجرة، وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر، وبقي بعضهم يلطمه على وجهه وهو يتقي بيده، ثم سلموه إلى من يعذبه بعد أن أشهدوا عليه القضاة أنه تنازل عن الخلافة، ومنعوه الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم أدخلوه سردابا، وجصصوه عليه، فمات.
وبعد موته، اختفت أمه قبيحة، ثم ظهرت في خلافة المهتدي بالله. قبيحة الجميلة هذه لم تكن فقيرة مثلما ادعت، بل كان لها أموال عظيمة ببغداد، وكان لها مطمور تحت الأرض مليون دينار ذهبي، ووجد لها في سفط قدر مكوك زمرد، وفي سفط آخر مقدار مكوك لؤلؤ، وفي سفط ثالث مقدار كيلجة ياقوت أحمر لا يوجد مثله، ونبش ذلك كله وحمل إلى المملوك القائد صالح بن وصيف فأخذه لنفسه ولأتباعه وحرمها منه، ثم قال: قبح الله قبيحة، عرَّضتْ ابنها للقتل لأجل خمسين ألف دينار وعندها هذه الأموال كلها.
وهكذا خسرت قبيحة ابنها الخليفة ومركزها وعزها وأموالها لأنها فضلت المال على غيره، وهو أمر مؤكد حدوثه مع السياسيين إذا ما دارت بهم الأيام فتقبحوا مثل قبيحة، وحينها لن ينفعهم الندم لأنهم لم يقدموا لغدهم بعمل خير من يومهم وأصروا على الكسب من خلال التضييق على شعبهم، فقبحهم الله وتعسا لهم.
اضف تعليق