أنا أكره الدماء، أنا ضد القتل مهما كان نوعه، أرفض أن انزل بإنسانيتي إلى مستوى أرذل الحيوانات إكراما لها لأن الله تعالى أكرمها، ولكن التحيز وعدم الحكم بالعدل والمساواة بين البشر يقتلني يوميا، يعذبني دائما، يستفزني، يشعرني بالذل وبالتقزز، ولاسيما إذا ما كان قد صدر عن أكبر مؤسسة دولية، تطلق على نفسها اسم (مجلس الأمن الدولي)، الذي نفهم من اسمه انه يخص جميع دول وجميع شعوب العالم.
وأنا من المتعاطفين مع الشعب الفرنسي الذي روعه الإرهاب، وفي نفس اليوم الذي وقع فيه الاعتداء الإرهابي على صحيفة (شارلي إيبدو) وأدى إلى مقتل اثني عشر صحفيا بريئا، كتبت مقالا بعنوان (متطرفون يقتلون الإسلام في الجادة 11 الباريسية) نددتُ فيه بالعمل الإرهابي رغم علمي أن فرنسا تدعم الإرهاب في العراق وسوريا، لأنها تنصاع إلى أوامر أمريكا حالها حال جميع بلدان الإتحاد الأوربي، ورغم امتناع الصحفيين الفرنسيين عن الكتابة عما يجري في سوريا والعراق من مجازر بقلم نزيه.
ومع ذلك أنا اشعر بالتقزز والاستياء من العمل الاعتباطي الذي مارسه مجلس الأمن الدولي اليوم بالوقوف دقيقة صمت حدادا على ضحايا شارلي إيبدو، ليس لأن الضحايا لا يستحقون ذلك؛ أبدا فكل ضحية في العالم تستحق أن نقف حدادا لها، وإنما لأن في هذا العمل العنصري المتحيز استهانة كبيرة بشعوب كاملة تتعرض للذبح والموت يوميا دون أن ينصفها مجلس الأمن ولو بدقيقة صمت.
لماذا لم يقف المجلس دقيقة صمت على أرواح 1700 شاب عراقي قتلهم الإرهاب بدم بارد في مجزرة سبايكر؟ لماذا لم يقفوا دقيقة حداد وصمت على مئات الضحايا الذي أحرقهم وفجرهم الإرهاب في سجن بادوش على الهوية؟ لماذا لم يقفوا دقيقة صمت على القتل العبثي اليومي في العراق وسوريا؟
وفوق هذا وذاك، لماذا يتحيزون في نظرتهم إلى الإرهاب وفي حديثهم اليومي عنه حسب المناطق الجغرافية، فيسمون الإرهاب في العراق وسوريا: ثورة، وربيع عربي، وحراك شعبي ضد الدكتاتورية، وحركة الشعوب المضطهدة للخلاص من الطغيان، وغيرها من المسميات الرعناء، وبالمقابل يسمون فعلا إرهابيا بسيطا وقع في حدود جغرافيتهم: العمل الإرهابي، والحرب ضد الإنسانية والتقدم، وتهديد حرية الشعوب الحرة، وغيرها من المسميات الزائفة؟
لماذا يغضون الطرف عن الإرهابيين الذين يقدمون من بلدانهم إلى بلداننا ولا يمنعوهم أو يعترضون سبيلهم بالرغم من علمهم الأكيد بالجهات التي يتوجهون إليها، وبالأعمال الخسيسة التي ينوون ارتكابها، ثم لما يرتد الإرهاب الذي يدعمونه إليهم، يقيمون الدنيا ولا يقعدونها؟
تقول الأجهزة الأمنية الأمريكية: إن احد المتهمين بتنفيذ اعتداء باريس كان قد تدرب في اليمن. معلومة خطيرة جدا، لكن لماذا سمحتم له بالعودة؟ لماذا تركتم محاسبته؟ لماذا لم تحققوا معه؟ لماذا؟!
وتقول الحكومة الأمريكية: إن المتهمين الاثنين بجريمة باريس كانا على اللائحة الأمريكية للإرهاب، فما نفع القائمة وهما حران طليقان؟ وأين الإدعاءات الأمريكية عن محاربة الإرهاب في العالم؟ هل يكفي وضع اسم هذا المجرم أو ذاك على قائمة الإرهاب لمنعه من ارتكاب الجرائم الكبرى؟ أم أن ذلك مجرد إجراء لمنعه من دخول الأراضي الأمريكية وأراضي حلفائها، وليفعل ما يشاء في باقي العالم؟!
وبعد هذا أليس من حقنا أن نسأل مجلس الأمن الذي وقف دقيقة صمت؛ لا يقل وجعها في قلوبنا عن وجع العمليات الإرهابية في نفوسنا وأجسادنا، ونسأل الحكومة الفرنسية التي كواها الإرهاب الذي كانت تدعمه بلا هوادة، ونسأل الحكومة الأمريكية صاحبة المعلومات السرية، والراعي الرسمي للإرهاب في العالم كله، وهم جميعهم يسمون أنفسهم (دعاة الحرية في العالم) و(رعاة العدالة بين البشر)، ألا تدرون بما يحدث في العراق وسوريا؟ أتدرون كيف يعيش ملايين العراقيين والسوريين المهجرين في هذا الشتاء القارس؟ أتعانون من الجوع الذي يعاني منه المهجرون؟ أفي قلوبكم اللوعة نفسها التي تخنق صدور أمهات وآباء وأبناء الضحايا الذين يسقطون يوميا في بلداننا بفعل العمليات الإرهابية؟ كل هؤلاء الملايين لا يستحقون منكم وقوف دقيقة صمت وحداد واحدة؛ وهم مثلكم أعضاء في الأمم المتحدة وأخوتكم في الإنسانية، لتتركوهم وسط المعاناة والحاجة إلى العطف، ثم لا تكتفوا بذلك وإنما تحبطون معنوياتهم بوقوفكم حزنا للضحايا الفرنسيين لمجرد أنهم ليسو عربا؟ يا لرخص الإنسانية، ويا لكذب قواها العظمى.
اضف تعليق