الصدمة الإرهابية التي تعرضت لها باريس مدينة التنوير والأنوار كانت أشبه بالبركان بالزلزال بالإعصار الذي هزّ العقل الغربي وأيقظه من غفوته الحالمة. فالإرهاب تمكن هذه المرة من قلب الحضارة الغربية واصابها في الصميم ليضرب أحد أعظم أركان الحضارة في الغرب الأوروبي ويصيبها بطعنته النجلاء في صميم مبدأ الحرية الذي هو أصل الأصول في الكيان الحضاري الغربي.
فقتل الصحفيين الفرنسيين في عقر دارهم اغتيال لحرية الفكر والعقل اغتيال لفكرة التنوير الذي تقوم عليه الجمهورية الفرنسية منذ القرن الثامن عشر حتى اليوم. ومما لا ريب فيه أن الحرية المحصنة تشكل غرة الثقافة الفرنسية والحضارة الغربية برمتها، وما حرية الصحافة في أوروبا وفرنسا سوى التعبير الأعمق والأشمل عن روح الحضارة الغربية برمتها.
مقتل الصحفيين بهذه الطريقة الوحشية سابقة نَدُر مثيلها في التاريخ الإنساني الحديث، وستشكل هذه الحادثة شرخا كبيرا في طبيعة العلاقة الحضارية ما بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي وما بين المسيحية والإسلام. وقد تكون أشبه بشرارة موجة من الإرهاب القادم بين المسيحيين المتطرفين من جهة وبين المتشددين الإسلاميين المتطرفين من جهة أخرى وربما ستكون الضربة قاسية على قوى اليسار في أوربا؛ فالحادثة أضعفت قوى اليسار الأوروبي واليسار الفرنسي الذي نهج نهجا سياسيا تسامحيا وديمقراطيا مع المغتربين العرب والمسلمين والذي لطالما كان وما زال مناهضا للسياسيات العنصرية ضد المسلمين والعرب في أوروبا قاطبة.
فعندما يضرب الإرهاب مدينة النور فإن ذلك يعني أن مخاض معادلة سياسية جديدة في السياسيات الغربية تجاه المسلمين بعامة والإرهاب والمتشددين في العالم الإسلامي. وليس أدل على ذلك من أعمال العنف التي تعرض لها المسلمون في مساجدهم ودور عبادتهم في عدة مناطق في فرنسا وفي العالم. وما كان المسلمون العرب في حاجة إلى هذه المصيبة فقد كان لديهم ما يكفيهن من عناء المواجهات مع العنصريين والمتطرفين في أوروبا وفي العالم.
الغرب المسيحي شعوبا وحكومات قد بدأ الآن يشعر بالخطر في مواجهة هذه الصدمة الإرهابية الكبيرة التي هدفت إلى اغتيال حرية الصحافة والفكر والثقافة في أوروبا. والسؤال الذي يطرح نفسه ما هي أحوال الجاليات العربية والإسلامية التي أصبحت في مواجهة مدّ أسطوري لموجة الكراهية والعنف ضد المسلمين والعرب بصورة خاصة؟
لا أحد يعرف ما إذا كانت هذه العملية الإجرامية البشعة هي مجرد عملية انتقامية لبعض المتشددين ضد الصحيفة؟ أم أنها كانت عملية تقوم على تخطيط سياسي ومدفوعة بقوى سياسية لها مآربها في إيقاظ الغرب على مواجهة صليبة جديدة ضد العرب والمسلمين. ومهما يكن الأمر فإن هذه الإجرام الإرهابي يمكن تفسيره على خريطة المستفيدين والمتضررين من هذا العمل الجنوني المرعب.
إن المتضرر الأكبر من هذه العملية الشعوب والجاليات الإسلامية التي تعيش في الغرب والتي ستعاني أكبر موجة من الكراهية والإقصاء والتعصب والمضايقات في مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية. ويلي هذا الشعوب من حيث الضرر الحكومات الديمقراطية واليسارية التي يسرت للمسلمين سبل عيشهم واندماجهم في الغرب وسنت القوانين والتشريعات لحمايتهم ومساواتهم بالمواطنين الأصليين في هذه البلدان. ومما لا شك فيه أن هذه العملية ستؤثر في الموازين الانتخابية في المرحلة القادمة لصالح اليمين المتطرف في أوروبا بكل تأكيد.
والمستفيد الأكبر في من هذه العملية القوى اليمينية في أوروبا التي تستغل هذا الحدث لتصول وتجول في مجال السياسية والتي ستحصد أصوات الغربيين في أي انتخابات قادمة في فرنسا وي أوروبا. ومن كبار المستفيدين من هذه العملية ستكون الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي التي تزعم أنها تحارب الإرهاب.
وفي الخلاصة يمكننا القول السياسيات الخارجية الغربية ستشهد تحولا كبيرا وسياسات جديدة في مواجهة الإرهاب في الشرق الأوسط أكان إرهاب الأنظمة أم كان إرهاب الجماعات الإسلامية المتطرفة. وقد يكون الدرس الأساسي والأهم للغرب أنه عندما يلعب بالنار ويغذي الإرهاب في الشرق العربي فإن هذه النار ستحرق أيضا في معاقله وفي دياره.
وكم نتمنى أن يكون هذا الحدث المخيف الشائن درسا للغرب يعيد فيه النظر في استراتيجياته ومواقفه غير الأخلاقية من قضايانا المصيرية. فالغرب بصورة أو أخرى يرسل الدمار والموت لبلادنا وهو ربما يجب عليه أن يعلم أن الإرهاب لا وطن له وليس له حدود وأن جحيمه قد يطال الجميع في القريب العاجل.
ونحن على يقين بأن هذا العمل الإرهابي كان ضد الإنسانية والإنسان ضد مبدأ الحريات وضد الحضارة وضد المسلمين وقضاياهم العادلة قاطبة في الشرق والغرب. ومن هنا يجب على الشعوب العربية الإسلامية أن تدين هذا العمل الإرهابي في كل مكان من بقاع المعمورة. كما يجب على الغرب أن يعيد النظر في كل السياسيات الرعناء الذي يعزز فيها قوى الاستبداد والتطرف في المنطقة العربية.
اضف تعليق