q

تنفس الصبح بصمت، فلا يكاد أن يسمع انفاسه، ولايدركها إلا من كان لديه أذن واعية، وجدائل الأحلام تجدل حول الحرية، جاء الصباح وحَلَّ موسمُ القطاف، قطاف الشهادة، فتَساقَطَ الشهداء، صمت رهيب، آهات متقطعة بين الحين والحين، كانت نظراته ترحل في الفضاء الواسع، لكنهَ يمشي في سجنهِ الضيّق، بالكاد يستطيع الرؤيةَ من خلال قُضبان الزنزانة الضيقة، ولأن الزنزانة كانت حزينة فلم تتنبّه لتلك التحيات التي كان يبعثها، فيُطلِقُ صوته بالشهادة والنصر.

الطائرُ السجين يرتّل آيات الفداء بعزف الحرية وتَسمعُ لحنَه من بعيد، عصفت بأيامه أشواك الزمان، فأقضت مضاجعه نداءات السماء، الحزن يطارده في كل مكان، وعلى اجساد النمور يكبر الطغيان، هاجموه لأنه اثر النسيان، طاردوه ففارق لأجلهم الاوطان، ظلمات صبحها أخفى شعاع الشمس، حيرة وظنون تٌكبلُ عقله، تبعثر شتات عمره، يقاتل الليل بنسمة أمل ويُصادر أسلحة النسيان، التي يستعين بها كل ليلة، في حربه الدائمة مع الزنزانة الضيقة، تأخذه نجمة وتسافر به الريح كطائر جريح إلى حيث الحرية، يصحو وهو معلقاً بأستار جسده، يئن وجعا من آل سعود.

فكان تسبيحه "دواء" لا يعرف الأطباء كيف كان يسكّن الألم بتلك الكلمات، بعد مشوار من السجن، المكان الذي يلتقط ما يتساقط من ايامه الأخيرة، الزنزانة تمزق إحساسه،..أيها النمر البعيد كالروح عن الجسد، مازالت خطواته فوق وجه الأرض، أيها النمر كنت كنسائم باردة في صيف تموز، كوردة فتحت أغصانها لتحتضن عبير الثورة، كضياء في سراب، تائه فيك الحرف، كظلك الممتد حيث المدينة المنورة، بالقرب من البقيع الفرقد منتظرا ليلا جديدا، كدمعة تذرف على قبر الحسن، كشمعة يستدل بها القبر، تبكي شوقا لأبناء الزهراء عليها السلام، كزهرة ذابلة رضيت أن تنثر على أعتاب البقيع، لتظل بين أعتابهم ذكرى، يقلبها تراب المحبين.

كل الطرق التي تؤدي لنهاية واحدة الشهادة، كل الأصوات التي تحمل له رسالة خاصة، لان الحرية لا تأتي بدماء بسيطة، هي كالنار تسري في الهشيم، وهل الحياة في ظل دولة آل سعود تعتبر حياة، بل الموت آلاف المرات ولا يعطي بيده إعطاء الذليل، في الزنزانة الشمس خائفة فلا ترى ولا تبزغ في النهار، وفي الليل يبقى القمر حزينا لا ضياء له، والعتمة تملأ المكان، الليل يطل ثقيلا كعادته، الزنزانة المشبعة برائحة الدم والمعذبين كالقتلى، جثث ملقاة، أنفاسهم نائمة وارواحهم هامدة، مد خطاه في هذه الزنزانة الكئيبة بنداءات علوية، تقبض الانفاس وجراحات تئن على اقواس متعرجة للزمن.

لم يرَ شيئا لكثافة الظلمة، أشبه بأشباح متكدسة تتثاءب بصفير يمر خلال مطارق على صفائح دائرة ضيقة حول نفسه. تتقلص تتمدد ليرى امامه عالما بشريا، يتماوجون بأماكنهم، يئن وهو تحت التعذيب، والآخر قد حرقه الرصاص، وآخر جلده لا تعرفه من اثر السياط. كلهم احتضنتهم هذه الزنزانة الضيقة وتحت مسمى واحد هو شيعة القطيف، بينما هو يرى حال رافقه، اتكأ منزويا في زنزانة رطبة. وانفاسه امواج اعتلت على شواطئ دمه. بينما دلفت نظراته على بساط الصمت عبر حلقة الجامعة التي ارتسمت امامه ملتصقة على جدار السجن. محيطات هائجة وصرخات الاجساد بالضرب تعلو، انه في زنزانة نهاره صيف وليلة شتاء قارص وربيع عمره يتساقط كورقه خريف...

عظام تهشمت وصدور تكسرت في غرفة التعذيب. وأزيز الرصاص باحثًا عن بقية من العدالة تنصفهم لعلَّها تُعيد أطرافًا تمزقت بأثر رصاصة وفقدت الحركة، لا تتعجب فأنا زفراته التي تبقى حاملة مظلوميته حتى القيامة، فالظلام الموحش يعوي بعبرات متقطعة في زمن تقوس تحت سياط اللؤم، قدماه تغوصان بدماء لم يعرف مصدرها. وعيناه لم تعد ترى بوضوح. واما الدماء اخذت تتوهج بعد تعذيب قسري. توضأ ترابة بدماء. تحرك مثخنا وقدماه في وحل احمر التي خلفها التعذيب. افاق بعد غيبوبة من الوجع. ليكمل ادعيته القدسية. مشغولا بالتسبيح باستخدام ابهامه مابين مفاصل اصابعه، وفي آخر الليل.. ثمّةَ صوتٌ يتردد صداه.. فيرتطمُ به!..

ترهقه الكلمات فيستريح متوسدا جسده النحيل.. يبقى الألم.. يعزف على أوتار جوارحه فتصبح جروحه يتيمة..

تتواكب أحزانه. وتشرف أيام عمره على الفناء رغم هذا يحاول ايقاظ الأمل من صدمته..

فيصرخ في فضاء الزنزانة. ويرتد بكل قسوة الجلاد معلنا موته. فيبقى النمر تائها بسراديب السجن. انيسه القرآن. وونسية التسبيح بنزفٍ لايتوقف، وبتعثر الخطوات يصرخُ بِكُلِ صوته، يبعثُ نداءاته بلا تأنِي، حِبالَ حُنجرته، تكادُ تفجرُ مسامِع المستمِع وهم من صوته صم.

يبقى الانين.. وتمر الايام.. والنمر مازال ينزف

مع ذبول عروقه، وموت وريقة عمره، تتواكب أحزانه في موكب موحد.

ويحاول النمر أن يستفيق من داخله

فيصرخ في الزنزانة الظلماء.

ويرتد بكل اسف. صوته الحزين.

وبصمت خفي.. تشاطره الهموم والبكاء مرددا آيات الكتاب

يبحث عن غفوة تأخذه الى الشهادة

عن ربيع يلون أغصانه..

رغماً عنهم سيبقى صامدا. سيبقى ورقة تهز بها عروشهم.

وسوف يكتبون تناهيده في زنزانتهم الموحشة. وأساليبهم الوحشية سيبقى النمر نمرا.

لكن حتَّى ذلك الزمان، ستشرق الشمس مؤذنة بانهيار حكمهم وموت ظلمهم، وتبقى الحرية هي الأغلى في العالم كله..

اضف تعليق


التعليقات

الشاعر السعودي
رفقا بحرفك
قد اوجع قلوبنا .
بورك قلمك المبدع أيتها المتألقة2016-02-03
أبو عبد الله الدريع
اختي الكريمة
بوح جميل جداً وخيال وألهام رائع نَسجتَ منه هذهِ الكلمات
التي وصفت فيها آلام الجسد والروح واللهفة للحرية بأنوعها الحزينة والمؤلمة
أثبت أنك رائع بهذا البوح الجميل. سلمت يدك2016-02-03
سيد حسين الموسوي
السعودية
أنى أرى كلمة شكرا قليلة في حقك اختي الفاضلة مما أحمله في قلبي فاسمحي لي بأن أخبرك أنني لا أشكرك لأنى أرى فى تلك الكلمة إنقاصا لك أمام هذا المجهود الرائع والبوح العظيم .2016-02-03
منى شهاب
أسلوب رقيق وبوح حزين معبر عن حال الشهيد النمر ،انا لاأمل عندما الج على موضوعك واتصفحه بشغف كبير .تحية قلبية من الأعماق أبعثها لك استاذة مروة .2016-02-03
ام فاطمه
العراق
النمر باقر النمر ...قالوا انه غادرنا لكن لا يعلمون ان كلماته لا تزال مدويه في اسماعنا ومربيه جيل لا يخاف من قول الحق والوقوف بوجه الظالم..عزيزتي لا يزال قلمك يؤسر انفاسي يوما بعد اخر ..اعلمي اني فعلا اغرق في بحور بلاغتك العذبه لدرجه لا اعرف كيف اصف ما تفعله كلماتك بنفسي ..احسنتم وبوركتم ولا حرمنا الله منكم ابدا2016-02-03