لعدة أيام من العام الجديد حظي موضوع الاعتداءات أو بالأحرى المضايقات الجنسية في مدينة كولون الألمانية بتغطية اعلامية واسعة شنت خلالها القوى اليمينية فيها أشرس حملة عدائية ضد العرب والمسلمين والتي لاقت تضامنا من جانب المنظمات اليمينية في دول أوربية أخرى. وقد عبرت تلك المنظمات عن غضبها بمظاهرات واعتصامات ضد ما أشيع عن عمليات تحرش جنسي تعرضت خلالها بيوت سكن الأجانب الى 850 اعتداء شملت اضرام النار في البعض منها وحوالي 400 اعتداء على الأجانب أنفسهم بينها عمليات إطلاق نار باتجاه غرف نومهم.
وقد تردد في الاعلام الألماني والأوربي عامة ان حوالي 600 شكوى قد تقدمت بها نساء إدعين فيها بتعرضهن للمضايقات والتحرش الجنسي وسرقة حاجياتهن الشخصية كما أفصحت بعضهن عن تعرضهن لعمليات اغتصاب ضد رغبتهن. ومايزال الغموض يحيق بحقيقة ما حدث في كولون وهامبورغ ليلة رأس السنة وخاصة بعد أن استغل الحادث اعلاميا للتشهير باللاجئين العرب والمسلمين وتحميلهم المسئولية عما حدث للضغط على الحكومة الالمانية لتغيير سياستها المتعاطفة مع محنتهم. وفي الوقت الذي اتهمت وسائل الاعلام لاجئي سوريا والعراق بكونهم وراء الاعتداءات اتضح فيما بعد ان المشاركين فيها كانوا خليطا من الألمان والأمريكيين والعرب من شمالي أفريقيا.
وفي كولونيا ذاتها تظاهر النساء فيها مطالبين باحترام حقوقهن وحمايتهن ضد التحرش الجنسي والعنف، لكنهن لم يرفعن شعارات معادية للمسلمين أو العرب. وكانت السيدة هنريتا ريكر محافظة مقاطعة كولون قد اتخذت موقفا آخر غير الذي عكسته الصحافة اليمينية الألمانية. فقد انتقدت السيدة هنريتا اخفاق النساء الألمانيات في الدفاع عن أنفسهن حيث كان بإمكانهن بذل مجهود أكبر في ابعاد الغرباء عن ملاحقتهن وبينت "بأنه ليس هناك مؤشرات بأن المتورطين في التحرش هم من اللاجئين الذين تم اسكانهم في كولون."
وتواجه المستشارة الألمانية معارضة شديدة من حليفها في الحكومة الاتحاد الاجتماعي المسيحي ضد سياستها المتعاطفة مع اللاجئين اضطرت الى التقدم بمشروع قرار يسمح للحكومة بتجريد اللاجئ من حقوقه واعادته الى دولته الأم في حالة ارتكابه مخالفات قانونية داخل ألمانيا. اليمين الالماني المتطرف يستغل أحداث رأس السنة الجديدة لتحقيق مكاسب انتخابية هذا العام حيث الانتخابات المحلية في الولايات الألمانية وفي الانتخابات البرلمانية المخطط لها في العام 2017 ومن المحتما ان يحقق بعض المكاسب الانتخابية.
فهل حقا ارتكب اللاجئون أعمال العنف ضد النساء وهم أنفسهم ضحايا العنف في بلدانهم التي كانت السبب في هجرتهم لبلدانهم وتكبدهم المشاق ليكافئوا المجتمع الذي آواهم وفتح لهم بيوتهم وضمن لهم الأمن والأمان والقوت الكريم، وهل مشاركة واحد أو قلة من الشباب في أعمال العنف يبرر معاقبة عشرات آلاف اللاجئين الآخرين الأبرياء...؟؟
الذين اعتادوا حضور مثل تلك الاحتفالات في أعياد رأس السنة الميلادية يتذكرون جيدا تصرفات الشباب الأوربي من الجنسين في تلك الليلة فمنهم من يسرف في تناول المشروبات الكحولية والمخدرات بأنواعها لدرجة يفقدون فيها السيطرة على سلوكهم فبعضهم يتسكع في الشوارع والساحات والحدائق العامة لوحدهم أو بصحبة صديقاتهم. ومع اقتراب نهاية ليلة العام المنصرف تنطلق في كل مكان الاعمال النارية وتبدأ أجراس الكنائس بالإعلان عن حلول العام الجديد وخلال ذلك يبدأ المحتفلون بالرقص والغناء تعبيرا عن فرحهم. لكن خلال ذلك الحفل العام يتصرف البعض تصرفات غير لائقة مخالفة للآداب العامة غير المقبولة في الأيام العادية من السنة. فلماذا نتوقع ان لا يحدث هذا العام مثل الذي حدث في السنين السابقة حيث لا يوجد المسوغ الذي يجعل هذا العام مختلفا عن الأعوام السابقة...؟؟
لكن هناك سبب واحد يجعل من هذا العام مختلفا وهو وجود أعداد كبيرة من اللاجئين الأجانب في ألمانيا وبأعداد أقل في بقية دول أوربا مما عزز المشاعر العنصرية المعادية ضدهم الموجودة أصلا في دواخلهم وبرزت هذه الظاهرة في أسوء صورها في ألمانيا حيث الحركة اليمينية الالمانية أوسع وأشد شراسة من حركات أقرانهم في الدول الأخرى. فالنازيون الجدد يعبرون عن وجودهم بالادعاء زيفا بحرصهم على مصالح بلدانهم ومجتمعاتهم من الغرباء الاجانب ويتنكرون لما تقوم به القوى العاملة الأجنبية من جهود في مواقع عملها لدعم الاقتصاد الوطني والمساهمة الايجابية في تطوره ورفاهية المجتمع الألماني. الشعارات العنصرية لم تحقق لألمانيا أية مكاسب في الماضي بل بالعكس قادت الى الحروب وتدمير المنجزات الاقتصادية والعلمية وهم حاليا يعيدون أخطاء الماضي دون الاستفادة من دروس التاريخ.
مثل تلك الادعاءات تجد لها تعاطفا في داخل حيز محدود من مجتمعات الدول الاسكندينافية وهولندا وبلجيكا. والأخطر من ذلك كله الصعود السريع للاتجاهات القومية المتطرفة في بعض دول شرقي ووسط أوربا وبخاصة في بولندا وهنغاريا وأوكرانيا ودول البلطيق والموجهة بشكل خاص ضد روسيا. ولا تقتصر هذه التطلعات القومية على الحركات الشبابية بل تبنتها حكوماتها وهي ظاهرة تدرس حاليا باهتمام في قيادة الاتحاد الأوربي لاتخاذ موقف موحد بشأنها.
الولايات المتحدة لا تستشعر خطرا من الاتجاهات القومية المتطرفة داخل دول شرق ووسط أوربا مادامت موجهة ضد روسيا واستجابت دون ابطاء لطلباتها بتزويدها بمنظومة قواعد صواريخ باتريوت. وبذلك تكون الولايات المتحدة كمن يوجه طفلا للعب في حقل للألغام.
اضف تعليق