(إلى السياسيين العراقيين: لا زال جرح صفين الأمس يؤلم قلوبنا وأرواحنا، فلا تؤججوا نار صفين جديدة).
من عبر تاريخنا القديم التي تذكرنا بما يحدث اليوم بين العراقيين؛ عبرة أوردها المؤرخ ابن أعثم الكوفي في الصفحات الأولى من الجزء الثالث في كتابه "الفتوح" عن حرب صفين التي كانت الأساس المتين لكل ما وقع بعدها من فتن ومصائب تعايشنا تداعياتها إلى اليوم.
في وقعة صفين سبق معاوية إلى الفرات فعسكر في مكان عند الماء ليمنع جيش علي من الشرب والسقاية، فأرسل إليه علي صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي ليسمح للجيش بالشرب، فاستشار معاوية عمرو بن العاص، قائلا: "ما ترى يا أبا عبد الله؟ فقال: أرى أن عليا لا يظمأ وفي يده أعنة الخيل، وهو ينظر إلى الفرات دون أن يشرب منه، وإنما جاء لعير الماء، فخل عن الماء حتى يشرب ونشرب".
إلى هنا يبدو ابن العاص حكيما متمكنا من تقييم الموقف، وفاهما لما انطوت عليه سجايا علي، وكان يمكن لرأيه لو تم الأخذ به أن يخفف حدة الأزمة. لكن قبالة هذا الرأي جاءت آراء متشنجة أخرى، قلبت المعادلة، وتسببت بقدح الشرارة التي أوقدت نار الحرب بين فئتين كبيرتين من المسلمين. وقد طرح تلك الآراء المضادة مجموعة من الموتورين المهزوزين المصلحيين المغرضين المتعصبين والشاذين، منهم الفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط، الذي قال: "يا معاوية إن هؤلاء قد منعوا عثمان بن عفان الماء أربعين يوما وحصروه، فأمنعهم إياه حتى يموتوا عطشا، وأقتلهم، قاتلهم الله أنى يؤفكون". ثم ثنى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وصدق وأيد رأي ابن أبي معيط وآزره. وثلث السليل بن محرم السكوني الذي نهض وألقى قصيدة تؤيد رأي صاحبيه وتمتدحهما، فشحنت الأجواء بالعداء والبغضاء.
وهنا اغتر معاوية بآرائهم، وشعر أن معه قلوبا تنطوي على حقد دفين على العراقيين ممكن أن يحقق له النصر المأمول، فقال: "الرأي والله ما تقول، ثم أخذ معاوية عمامته عن رأسه مغضبا وقال: لا سقى الله معاوية ولا أباه من حوض محمد إن شرب علي أو أصحابه من الفرات أبدا؛ إلا أن يغلبوا عليه". فاستشعر الناس لهب نيران الحرب قريبا من وجوههم، وسمعوا داعيتها تصرخ في الآفاق، فوثب المعراء بن الفيل بن الأهول منتفضا، وقال: "ويحك يا معاوية والله لو سبقك علي إلى الماء فنزل عليه من قبلك إذا لما منعك منه أبدا، ولكن اخبرني إذا أنت منعته الماء من هذا الموضع، ألا تعلم أنه يرحل من موضعه، وينزل على مشرعة أخرى، فيشرب منه، ثم يحاربك على ما صنعت؟ ألا تعلم أن فيهم العبيد والإماء والضعيف ومن لا ذنب له؟ هذا والله أول البغي والفجور، والله لقد حملت من لا يريد قتالك على قتالك بمنعك هذا الماء".
وبدل أن يفيد معاوية من رأي هذا الرجل الناصح، أمر بقتله، فوثب قوم من بني عمه فاستوهبوه منه، فوهبه لهم، فلما كان الليل هرب إلى علي بن أبي طالب، فصار معه.
أي أن الموقف غير المسؤول والمتسرع والمتشنج لمعاوية جعله يخسر أحد أبطال قوته في ظرف صعب، وهذا مرشح وقوعه اليوم، بل لمسنا آثاره من خلال انفصال بعض الأفراد والجماعات عن الجماعات المتشددة والانضمام إلى الجانب الآخر، أو الوقوف على الحياد.
أما موقف معاوية المتشدد فقد جاء نتيجة عدة أسباب مجتمعة، منها:
أولا: اندفاعه الشديد وراء السلطة وبحثه الشديد عن الملك بأي وسيلة ممكنة.
ثانيا: إصراره الشديد على جعل الحرب حلا أوحدا واتخاذه منع الماء وسيلة لبدء الحرب.
ثالثا: المواقف المتعصبة والمتشنجة المملوءة بروح الكراهية والحقد، وغير المنطقية التي أبداها المتعصبون لتشجيعه على خوض الحرب.
ومن غير المنطقي وغير المعقول أن لا يتخذ الجانب الآخر الإجراءات التي تحميه وتحقق مصالحه، فالخيارات أصبحت مفتوحة على كل الاحتمالات، فضلا عن وجود أسباب مشجعة أخرى، منها
أولا: فشل المفاوضين اللذين أرسلهما إلى معاوية لاحتواء الأزمة.
ثانيا: تكاثر طلبات قادة جيشه أن يسمح لهم بالهجوم على الشريعة للحصول على الماء.
لكنه حتى مع توافر هذه الأسباب، اكتفى بأن قال لمن طالبه أن يسمح لهم بفك الحصار عن الماء: "ذلك لكم، فافعلوا ما أردتم". وهنا خرج مالك الأشتر بفرسان قومه كندة، وخرج الأشعث بن قيس الكندي برجالة جنده. لكن حتى حينما وصلت قواتهم إلى قوات معاوية التي تحرس الماء لم يبادروهم بالهجوم وإنما: "صاحوا بأصحاب معاوية: خلوا عن الماء" لكن إصرار الجانب الآخر كان كبيرا حيث أجابهم أحد دعاة الفتنة وهو أبو الأعور السلمي: "هيهات والله حتى تأخذنا وإياكم السيوف، فقال الأشعث: بلى والله أظن أنها قد دنت منا ومنكم"
وبعد أغلق السلمي الأبواب لم يعد من طريق للحصول على الماء إلا الحرب، "فصاح الأشعث بالرجالة، وصاح الأشتر بالخيل، واختلط القوم على شاطئ الفرات، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل من أهل الشام جماعة كثيرة، وغرق منهم في الفرات مثل ذلك، وولوا الأدبار مهزومين، وصار الماء في يد علي وأصحابه"
إن في التقاليد العسكرية المعروفة عبر التاريخ، وهو ما عمل بموجبه معاوية حينما منع عنهم الماء، أن عملية إضعاف العدو ولاسيما بالعطش واحدة من المسائل التي تعجل هروبه، وهذا ما كان معاوية يفكر به حينما منع الماء، وأقلقه بعد أن انهزم جنده، وسلموا الشريعة إلى جيش علي، ولذا استدعى عمر بن سعد، فبادره عمر بالقول: "ما تقول الآن إن منعك علي الماء كما منعته إياه؟
فقال معاوية: وما ظنك بهذا؟
قال عمرو: ظني والله بعلي أنه لا يستحل منك مثل الذي استحللت منه لأنه إنما جاء لغير الماء، وقد كنت أشرت عليك في بدء الأمر أن لا تمنعه الماء فخالفتني وقبلت من أبي سرح، فقلدت نفسك عارا يُحَدَثُ به إلى آخر الأبد".
وفعلا صدقت نبوءة ابن العاص إذ أن عليا: "أرسل إلى أصحابه أن خلوا بينهم وبين الماء لا تمنعوهم إياه. فكان أصحاب علي وأصحاب معاوية يردون الماء بالقرب والأسقية يستقون ويسقون الخيل والإبل ما يؤذي أحد منهم أحدا، وأقاموا على ذلك ثلاثة أيام".
وقد يكون هذا أكبر اختلاط جماهيري بين أهل الشام وأهل العراق، وربما لو كتب له أن يستمر زمنا أطول كان سيهدئ الأنفس، ويطيب الخواطر، وهذا ما لا يريده المتشددون مثل معاوية ومن حثه على الحرب. وحينما رأى معاوية أن خدعة الماء فشلت، فكر بخدعة رخيصة أخرى ليحث جيش علي على خوضها، "فدخل إلى منزله، فأخذ سهما، فكتب عليه؛ من عبد الله الناصح، أما بعد يا أهل العراق فإن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم، فخذوا حذركم والسلام" أي انه مكر مرة أخرى عسى أن ينتصر.
"ثم رمى السهم إلى عسكر علي في جوف الليل، فوقع في يد رجل من أهل الكوفة، فقرأه ثم أقرأه الناس، وجعل بعضهم يقول لبعض: هذا أخ لنا ناصح إذ كتب إلينا بما يريد أن يفعل. ووقع السهم إلى علي، فقرأه، ثم أقبل إلى أصحابه، فقال: خط معاوية وليس هذا إلا مكر ومكيدة فلا يهولنكم ذلك".
تكرار المكر مع وجود الضغائن في القلوب ووجود من يدعو إلى الحرب كحل أوحد للمشاكل عجل بوقوع المعركة الطاحنة؛ التي أحرقت الأخضر واليابس، وقتل فيها عشرات الآلاف من المسلمين بسبب رأي متعصب وموقف متشنج ورؤية غير مسؤولة ولا واقعية. إذ لو استمع معاوية إلى رأي ابن العاص والمعراء بن الفيل بن الأهول ربما كان الخصمان سيصلان إلى نتيجة غير تلك التي تسببت بمقتل آلاف المسلمين بيد المسلمين، وأنهكت الأمة وأضعفتها. وسأرفض رأي من يقول لي: إن مكر وكيد معاوية نجح وحقق له فرصة الفوز، فما تحقق لم يكن فوزا شريفا أخلاقيا وطنيا، وإنما مجرد فرصة أتيحت ولكنها تسببت بفقدان الدين لهيبته والأمة لوحدتها والمجتمع لتماسكه، ولذا سرعان ما انهار هذا البناء، وتتابع الانهيار إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
ولك أن تقارن بين موقف الأمس الذي تسبب بوقوع مجزرة صفين، وموقف السياسيين اليوم، حيث الدعوة المحمومة إلى التشدد والطائفية والفرقة، والدعوة إلى تدويل القضية العراقية، ليس بالاعتماد على قطع الماء، وإنما بحجج واهية، منها تفجير وقع في المقدادية، أقسم بكل المقدسات أن ليس فيهم أحد يعرف من تسبب به. فتعقلوا، ولا تجازفوا بالعراق وأهله، ولا تجعلوا من حدث بسيط سببا في إذكاء نار صفين جديدة، لا تحرق العراق وحده بل تحرق المنطقة كلها، ويمتد شررها ولهيبها إلى العالم كله.
اضف تعليق