في يوم الثلاثاء 24/11/2015، تناقلت وكالات الإنباء العالمية خبر إسقاط تركيا لطائرة عسكرية مجهولة الهوية على الحدود السورية التركية، وقد تبين فيما بعد إن الطائرة هي روسية من نوع (سوخوي- 24)، وهي من الطائرات التي قررت روسيا إرسالها إلى سوريا، بعد إعلان الكرملين منح الرئيس (فلاديمير بوتين) تفويضا بنشر قوات عسكرية في سوريا، بناءً على طلب الرئيس السوري (بشار الأسد) المساعدة العاجلة من موسكو، فأرسلت الأخيرة الجنود والطائرات المقاتلة والأسلحة الأخرى (بما فيها سفن الإنزال البحرية) إلى جانب (15) طائرة نقل (من طراز "أي إن- 124" /"الكندور" و "آي إل-62")، واشتركت فعليا في القتال الدائر ضد المجموعات المتشددة في سوريا، إذ أعلن الرئيس الروسي عن رغبة بلاده في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا.
لقد أعلنت تركيا بان الطائرة الروسية قد اخترقت مجالها الجوي لمدة خمسة دقائق، ورغم التحذيرات المتكررة للطائرة -والتي نشرت بعض تفاصيلها لاحق- إلا إن قائدة الطائرة وحسب الرواية التركية لم يرد على تلك النداءات، وقد أعلن الرئيس التركي لاحقا بان تركيا لم تكن تعرف هوية الطائرة التي أسقطتها، وأعلن إن الطائرات الروسية خرقت الأجواء التركية لأكثر من مرة قبل هذه المرة، وان أنقرة قد حذرت سابقا روسيا من مغبة الاستمرار في ذلك. إلا إن هذه التصريحات التركية لم تلقى أذانا صاغية لدى موسكو التي اعتبر رئيسها (فلاديمير بوتين) إن إسقاط الطائرة الروسية هو طعنا في الظهر من الدول الداعمة للإرهاب، وهو اتهام مباشر لتركيا بمساندة المجموعات الإرهابية في سوريا، كما إن احد ملاحي الطائرة الذي تك إنقاذه أكد بأنهم لم يخترقوا الأجواء التركية كما أنهم لم يتلقوا إي تحذيرات مسبقة.
وعلى الرغم من الجدل القائم حول إسقاط الطائرة، وهل كانت تركيا تعلم بأنها روسية أم لا؟ وهل أن الطائرة اخترقت الأجواء التركية أم لا؟ إلا إن تحليلات بعض المتابعين للإحداث في المنطقة، وعملية إسقاط الطائرة الروسية، وما سبقها من إحداث تثبت بان تركيا قد وُرِطت من قبل بعض الدول، وعلى رأسها أمريكا، في إسقاط الطائرة الروسية، وهناك عدة أسباب وراء ذلك، منها:
1- أن التدخل الروسي المباشر في سوريا هو بمثابة جهود إستراتيجية مدروسة لدعم النظام السوري من خلال قوات عسكرية مباشرة، محفَّزاً على الأرجح بتقييم مفاده أن قوات النظام السوري قد فشلت وأن الدعم الذي يقدمه "حزب الله" وإيران غير كاف، ومن المرجّح أن تكون روسيا قد اتّخذت قرار التدخل بالتعاون مع طهران التي، وفقاً لبعض المصادر الإخبارية، تعزّز دعمها العسكري لصالح النظام السوري، ويتضمن القرار الروسي أهدافاً محتملة أخرى، من بينها الحفاظ على المنطقة الغربية الحيوية للنظام، وحماية المنافذ البحرية والجوية التي تعتمد عليها روسيا للوصول إلى سوريا والعمل على توسيعها، وبسط سيطرة موسكو على الوضع بشكل عام، وعلى نطاق أوسع، يبدو أن روسيا ملتزمة بممارسة نفوذها في الشرق الأوسط، حيث توفر لها سوريا فرصة لتحقيق هدفها، وهو ما لم يروق لبض الدول وعلى رأسيها أمريكا التي كان هدفها الأساس هو إسقاط النظام السوري وتنفيذ أجندتها في المنطقة.
2- أشار العديد من المحللين إلى إن هذا التدخل قد أربك الموقف الأمريكي في المنطقة، واظهر ضعف التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا ضد تنظيم داعش، إذ إن في مدة أسبوع استطاعت روسيا إن تحقق انجازا في سوريا ما عجز عن تحقيقه التحالف لأكثر من عام، كذلك إن تنظيمات مسلحة (مثل جبهة النصرة وجند الشام) وغيرها قد وضعتها أمريكا في لائحة المنظمات الإرهابية إلا أنها كانت بمنأى عن ضربات التحالف الدولي، ولكن بعد التدخل الروسي واستهدافه هذه التنظيمات المسلحة بدأت الأصوات تتعالى من التحالف الدولي والسعودية وقطر ضد روسيا واتهامها بأنها تستهدف ما يسمونهم بالثوار والمدنيين، لهذا فان هذا التدخل الروسي اظهر الموقف المزدوج من الغرب أمام العالم، وان روسيا الدولة الوحيدة الجادة في محاربة الإرهاب، وان دول أخرى مثل العراق بدأت بالتفكير بالاستعانة بالقوات الجوية الروسية لضرب داعش في العراق، ما وضع الغرب وأمريكا في موقف المدافع عن خططهم لضرب الإرهاب في المنطقة، إذ بدأت مثلا الطائرات الفرنسية بضربات محدودة في سوريا لإظهار نفسها لأنها تحارب الإرهاب، كذلك إن بريطانيا اعتبرت إن من حق قواتها في المنطقة الرد على أي تجاوز أو مضايقة من قبل القوات الروسية، كل هذه المؤشرات عززت الموقف الروسي وجعلت منه أكثر مقبولية في المنطقة.
3- إن تركيا تعلم قبل غيرها خطورة خطوة إسقاط الطائرة الروسية لو أنها قامت بها منفردة وبدون سند دولي، لان قواعد الاشتباك في سوريا تفرض على كل الدول المجاورة لها إن تقدم كل التسهيلات لطيران التحالف الدولي الذي يقوم بضربات لتنظيم داعش، فالحرب على تنظيم داعش هي حرب عالمية، وقد اشتركت عدة دول فيها، إذ ان الطيران الحربي التركي والأمريكي البريطاني والفرنسي يخترق يوميا الأجواء السورية والعراقية لضرب التنظيم، وهذا ما يفرض على تركيا ان تقدم تسهيلات للطائرات الروسية عند الضرورة، وان إسقاط الطائرة الروسية يعد خرقا لهذه القواعد.
4- ارتباك الموقف التركي، بعد إسقاط الطائرة، إذ إن تركيا وبدلا من أن تتصل أول مرة بروسيا لتوضيح الموقف اتصلت بحلف الناتو والأمم المتحدة، ودعتهم للتدخل لحل الأزمة، ثم بعد ذلك ادعت بأنهم لم يعرفوا هوية الطائرة، وأخيرا تصريح الرئيس التركي بان تركيا نادمة على هذه الخطوة، ومحاولة اتصاله بالرئيس الروسي لأكثر من مرة، وعدم استجابة الأخير له، تدل على ان تركيا ورطت بهذه العملية وهي غير مستعدة لتحمل عواقبها، فالداخل التركي لديه معلومات مؤكدة عن دعم تركيا للمجموعات المسلحة في سوريا والعراق، خاصة بعد حادثة الشاحنات المحملة بالأسلحة التي كشفتها صحيفة تركية، مما عرض اثنان من موظفيها للاعتقال بتهمة كشف أسرار الدولة، كما إن دول الجوار مثل العراق وسوريا وإيران، أكدت أكثر من مرة عن تورط تركي مباشر بدعم الإرهاب في المنطقة.
5- إن سحب الولايات المتحدة وحلف الناتو بطاريات الصواريخ (باتريوت) من تركيا بعد تدخل روسيا في سوريا، هو لعلم هذه الدول بان قواعد الاشتباك في سوريا معقدة جدا، وان اختراق طائرات التحالف الدولي لأجواء دول المنطقة هو أمر لابد منه، لتداخل المناطق وانتشار الإرهاب في كل دول المنطقة، لهذا عمل حلف الناتو على سحب بطاريات الصواريخ لكي يعطي الضوء الأخضر لتركيا للقيام بالعملية، إذ ان اغلب المحللين يعتقدون إن مثل هكذا عمل لا يمكن لتركيا إن تقدم عليه بدون استشارة ودعم من الولايات المتحدة وحلف الناتو، خاصة وان أمريكا هي الدولة الوحيدة التي أيدت العمل التركي، وأعطت الحق لتركيا في إسقاط الطائرة الروسية، على عكس الموقف الألماني والفرنسي اللذان أكدا على إن هذا العمل سيعقد الموقف في المنطقة، وان تركيا استعجلت في تصرفها هذا. بالرغم من العداء الإيراني الأمريكي، إلا انه وخلال الحرب الأمريكية ضد حركة طالبان الأفغانية في عام 2001، وحربها على العراق عام 2003، نرى إن الطائرات الأمريكية قد خرقت الأجواء الإيرانية لأكثر من مرة، ولم تعترض إيران إي طائرة أمريكية، بل أنها قدمت التسهيلات للطائرات الأمريكية في احتلال أفغانستان، لهذا فان العلاقات المتطورة بين تركيا وروسيا وخاصة الاقتصادية، كانت تفرض على تركيا –إن كانت هي حقا تحارب الإرهاب-إن تقدم الدعم للطائرات الروسية، بدلا من تسقطها.
6- إن تنظيم داعش يقوم بتمويل قواته من خلال بيع النفط المهرب بالصهاريج عن طريق تركيا وكردستان العراق– وحسب مراقبة سير شحنات النفط- ثم إلى دول العالم الأخرى، كما إن ضرب التنظيم لابد من متابعة كل تحركاته، وخاصة مصادر التمويل، إذ إن الضربات الروسية كانت شديدة ومركزة خاصة بعد تدمير الآلاف الصهاريج المحملة بالنفط، وهذا العمل لم يروق لأمريكا التي كانت تستخدم المجموعات المسلحة لتحقيق أهدافها في المنطقة، وان إنهاء تهريب النفط وعمليات الإمداد يعني عمليا القضاء على هذه المجموعات المسلحة، ومن ثم إرباك وإنهاء المشروع الصهيو-أمريكي في المنطقة، لذا جاء إسقاط الطائرة المدنية الروسية ومن ثم المقاتلة لإضعاف عزيمة الروس، وإثارة الداخل ضدهم.
7- وأخيرا فان بعض التقارير عزت ارتباك الموقف التركي، بأنها لم تكن تتوقع إن الطائرة روسية، بل توقع الأتراك أنها سورية، لان الجيش السوري يستخدم طائرات روسية من نوع (سوخوي، وميغ)، وان تركيا أرادت ان تنتقم من سوريا وتثأر للطائرة التركية التي أسقطتها سوريا في البحر المتوسط عام 2011، ولكن هذا الاحتمال ضعيف جدا، ولأسباب منها، إن الطائرات السورية، قبل التدخل الروسي المباشر- كانت تنفذ ضربات قرب حدود تركيا لأكثر من خمس سنوات ولم تعترض تركيا أو تحاول إسقاط أي طائرة سورية، لذلك فان العامل الدولي له اثر كبير في إسقاط الطائرة.
خلاصة القول، إن إسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا، إن كان بعمل منفرد منها، أم بدعم أمريكي، فانه ستكون له عواقب كبيرة على تركيا قبل غيرها، فالعداء التاريخي الروسي التركي قديم جدا، وقد خاضت تركيا العثمانية عدة حروب مع روسيا القيصرية لم تنجح في أي منها، بل خسرت العديد من أراضيها في القوقاز والقرم، كما إن اسلوب التصرف الإمبراطوري للرئيسين التركي (اوردوغان) والروسي (بوتين)، سوف يعقد من فرص تسوية هذه الأزمة، بل سوف يعقد الحل في المنطقة كلها، لان الرئيس التركي ينطلق ويتصرف من كونه قائد للأمة التركية، وانه يريد إعادة أمجاد أجداده العثمانيين، بينما ينطلق الرئيس الروسي من كونه قائد دولة عظمى ذات ارث إمبراطوري كبير، وان على دول المنطقة إن تتصرف معها على هذا الأساس، لذلك سوف لن يكون صعبا على السياسة الأمريكية من إثارة المشاكل بين الدولتين، من اجل انهاك قوتهما لتحقيق أهدافها في المنطقة.
إن السياسة الأمريكية، وخاصة مشروع الشرق الأوسط الكبير، سوف لن يستثني إي دولة منه حتى تركيا، لذلك فان إي صدام بين الدولتين الروسية والتركية، سيصب أولا وأخيرا في صالح أمريكا وإسرائيل، وعلى هذه الدول ودول المنطقة عامة إن تكون واعية جيدا لهذه المشاريع، وان تضع في حسبانها امن واستقرار المنطقة، لتضمن مصالح شعوبها ومستقبلهم.
اضف تعليق