قل الذين اعتبروا، حيث يظهر بين الحين والحين طاهراً جديداً، وفي مجتمعنا وبلدنا تكاد لا تخلو حقبة زمنية منه ويتكرر المشهد، حيث تجد من يعين ظالماً على ظلمه، ويبذل كل الجهد في اقصاء مسؤولاً او صاحب منصب، ليس لصالحه بل لصالح شخصاً آخر لا يقل سوءاً من سابقه...

ان التاريخ لا يقف عند ذكر الوقائع وتوثيقها بل فيه عبرة، فيكشف لنا القوانين الثابتة التي تحكم صعود الأمم وسقوطها، وعاقبة الظلم والفساد، وانتصار الحق ولو بعد حين. ويساعد على تجنب تكرار الأخطاء التي وقعت فيها الأمم والشخصيات السابقة، كما يوفر الجهد والوقت على الأجيال اللاحقة، ويقول احد المفكرين "من لا يتذكر الماضي محكوم عليه أن يعيشه مرة أخرى".

وصباح هذا اليوم وانا اطالع كتابا جمع بعض من نوادر الاثار وطرائف الحكم، توقفت عند بيت من الشعر فيه صورة عالية المخيال ويقول فيه الشاعر

(ولقد هممت بقتلها من حبها ... كيما تكون خصيمتي في المحشر:

حتى يطول على الصراط وقوفنا .... فتلذ منها مقلتاي بلذيذ المنظرِ)

وعند البحث عن قائله فوجدت انه ينسب الى شاعر صعلوك يدعى محمد بن علي الصيني وهو من خواص الطاهر بن الحسين الذي عينه الخليفة العباسي المأمون بمنصب صاحب الشرطة، وهذا الطاهر بن الحسين عين في منصبه تكريما لمواقفه في نصرة المأمون على أخيه الأمين حيث قاد القوات لقتاله حتى ظفر بالأمين وقطع رأسه وله شعر في هذه الواقعة بقوله:

 ملكت الناس قسرا واقتدارا .... وقتلت الجبابرة الكبارا 

ووجهت الخلافة نحو مرو .... إلى المأمون تبتدر ابتدارا

فاكرمه المأمون ومنحه الضياع والاقطاعيات ثم عينه بأهم منصب امني (صاحب الشرطة)، ثم سعى هذا الطاهر بن الحسين الى تأسيس دويلته المسماة (الدولة الطاهرية)، لكن في يوم من الايام حضر (الطاهر بن الحسين) الى مجلس الخليفة فلما رأه المأمون بكى وانهمر الدمع من عينيه، فقال له الطاهر ما الذي يبكي امير المؤمنين فلم يفصح عن سبب البكاء، لكن فيما بعد قال اني تذكرت مقتل اخي محمد الامين عندما رأيت قاتله، ثم جرت الاحداث بعد ذلك بنقل الطاهر الى مكان اخر واصبح في تهميش واضح بعد ان كان القريب الصاحب والامر الناهي ومن ثم وجد ميتا في فراشه ويقول البعض قُتل مسموماً.

حتى قيل فيه انه (قَتل خليفة ً ومهد لخليفةٍ وقتل على يد خليفة)، وهذه القصة فيها عبرة كبيرة، لكن قل الذين اعتبروا، حيث يظهر بين الحين والحين طاهراً جديداً، وفي مجتمعنا وبلدنا تكاد لا تخلو حقبة زمنية منه ويتكرر المشهد، حيث تجد من يعين ظالماً على ظلمه، ويبذل كل الجهد في اقصاء مسؤولاً او صاحب منصب، ليس لصالحه بل لصالح شخصاً آخر لا يقل سوءاً من سابقه الذي اطيح به، بل قد يكون اشد وامضى منه، ثم يعطف عليه بمنصبٍ ثانويً يكون فيه خادماً ذليلاً خنوعاً لمن لهذا الطاغي المستبد، وبعدها يعاقب اما بإقصائه او بحبسه او بإنزال العقوبة المذلة بشخصه، بل هم اول ضحايا ذلك الذي مكنه في منصب الاستبداد والطغيان، والغريب في الامر ان الحال يتكرر وكأن هؤلاء لم يتعظوا من عبر التاريخ وقصصه القديمة والمعاصرة.

وفي الختام شكرا للشاعر الصعلوك محمد بن علي الصيني الذي نسب اليه بيت الشعر: 

(ولقد هممت بقتلها من حبها ... كيما تكون خصيمتي في المحشر

حتى يطول على الصراط وقوفنا .... فتلذ منها مقلتاي بلذيذ المنظرِ)

لأنه قادنا الى موعظة تاريخية فات على الكثير من ارباب النفاق الاعتبار منها، وسنبقى نشهد بين الحين والأخر اما نبذاً للذليل الخانع التابع الى مزبلة التاريخ او زوال سلطان المستبد الطاغي.

* قاضٍ متقاعد

اضف تعليق