السؤال الذي واجهتهُ جميع العلوم الاجتماعية، وبقي دون جواب، هو كيف نفسر المفارقة في التشابه الكبير بين الناس كأفراد بينما يختلفون كمجتمعات انسانية في ثقافاتهم وانجازاتهم الاقتصادية؟
الحجة التي يعرضها الكاتب (ويد) هي ان هذه الاختلافات لم تنشأ من اي اختلاف كبير بين الافراد من مختلف الأعراق. بل، انها نشأت من اختلافات ثانوية في السلوك الاجتماعي الانساني، سواء في الثقة، او الطاعة، او العدوانية او السمات الاخرى التي انبثقت ضمن كل عرق خلال تجربته الجغرافية والتاريخية... انها بسبب المؤسسات – التي هي صروح ثقافية كبيرة ترتكز على قاعدة من السلوك الاجتماعي المتشكل وراثيا – وان مجتمعات الغرب وشرق اسيا هي مختلفة جدا، و المجتمعات القبلية لا تشبه الدول الحديثة، وان الدول الغنية هي ثرية بينما الدول الفقيرة تعاني الحرمان(1).
السؤال لماذا بعض الدول اغنى من الدول الاخرى هو واحدة من أكبر القضايا في الاقتصاد. التفسيرات تراوحت من المادية بأعلى اشكالها الى اللامادية. التفسيرات المادية كانت اقل ميلا الى اقتصاد السوق منه الى التفسيرات اللامادية.
التفسير الماركسي هو تفسير مادي. تراكم رأس المال هو الذي يخلق الثروة. الماركسيون يجادلون بانه في سياق السوق الحر، فان تراكم رأس المال يفيد فقط القلة، بما يقود الى تركيز غير مقبول للسلطة.
تفسير مادي آخر يوجد لدى غارد دايموند في (Guns, Germs, and Steel)(2). يسأل دايموند لماذا استعمرت اوربا الغربية افريقيا وامريكا، بدلا من العكس. تفسيره المادي يركز على عوامل جغرافية وبيئية. هذه بدورها قادت اوربا الغربية للتمتع بمزايا البنادق والستيل والتي يصعب تبريرها من الناحية الاخلاقية.
العديد من الاقتصاديين يشيرون الى المؤسسات، بما فيها الحرية الاقتصادية، المساواة امام القانون، وفرض حقوق الملكية كعوامل اساسية للاختلافات في الثروة عبر الدول. هذه الرؤية عرضها كتاب (لماذا تفشل الامم لثلاثة من الكتاب)(3). الاختلاف في الظروف الاقتصادية بين شمال كوريا وجنوبها مثال لتبيان اهمية الاختلافات المؤسسية حين تكون العوامل الاخرى متساوية.
كتاب نيكولاي ويد يعبّر عن فرضية مثيرة للجدل وهي ان الاختلافات المؤسسية هي نتيجة اختلافات صغيرة في متوسط البناء الوراثي للسكان، وان هذه الاختلافات تتطابق مع التصنيفات العرقية العادية. من الواضح، ان هذه ليست توضيحات للاختلافات بين شمال وجنوب كوريا، لكن ويد يجادل بانها توضح بالفعل لماذا اوربا الغربية وملحقاتها الجغرافية طورت مؤسسات مرتبطة بالنمو الاقتصادي والديمقراطية بينما لم تتمكن مناطق اخرى من ذلك.
العرق والوراثة
باي الطرق تكون الاختلافات العرقية وراثية؟ الكاتب ويد ينظر في عدد من الجينات التي تختلف عرقيا وفق لغة الاحتمالات: هذه المواقع من الـ DNA المميزة للعرق تسمى AIMs، او علامات بيانات السلالة.. مجموعة من 128 من علامات بيانات السلالة تكفي لتخصيص الناس لعرقهم الاصلي المناطقي، سواء كانوا اوربيين او شرق أسيويين او هنود امريكيين او افارقة.
معظم سمات بيانات السلالة هي وراثية او alleles اي انها اكثر شيوعا في عرق معين دون الاخر. احدى العلامات المميزة التي تحدث في 45% من الاسيويين الشرقيين و65% من الاوربيين تقول ان الحامل اكثر احتمالا ان يكون اوربيا، لكنه يصعب ان يكون تأكيدا نهائيا او حاسما. عندما يتم ربط نتائج خيط من علامات بيانات السلالة مع بعضها، فبالإمكان الحصول على جواب باحتمال احصائي عالي.
الكاتب (ويد) يقول ان هذه الاختلافات الاحتمالية نشأت بسبب "الازاحة الناعمة" في التطور. "الازاحة العنيفة" تتألف من تحول جديد يخلق سمة تمنح مزايا حاسمة بحيث تكون هي السائدة في جميع السكان. بالمقابل، الازاحة الناعمة تحدث عندما تمتلك السمة لمزية، وهذه السمة تنشأ بفعل عدة جينات. الناس الذين لديهم المزيد من الجينات المفضلة لإنتاج تلك السمة يميلون لامتلاك المزيد من الاطفال الذين يبقون احياء. يقول ويد، عمليات الازاحة الناعمة –زيادة صغيرة في عدة جينات– هو اسهل بكثير لعمل الاختيار الطبيعي مقارنة بما يحصل في الازاحة العنيفة.
ممارسة تربية النبات والحيوان تعتمد على الازاحة الناعمة وليس العنيفة. مربي الدواجن لا يعرف اي جين في طور العمل. ولكن، عبر اختيار الحيوان الداجن في كل جيل، فان المربي بالنهاية يخلق حيوانا لديه عدد كبير من الجينات التي تفضل الترويض.
متى تنشأ عدة جينات مختلفة عبر ضغط الاختيار ومتى تنشأ عشوائيا؟ هذا السؤال يواجهنا عند قراءة كتاب ويد، لكنه لم يُعالج بما يكفي. ربما الجواب معروف، عدم وجود خلفية معرفية ملائمة.
من جهة اخرى، يمكن تصور الاختلافات الناتجة عن ضغط الاختيار، والتي نوعا ما تعمل كتربية مقصودة. ضغوط الاختيار التي تختلف بالمكان تدفع الانسان ليطور مختلف السمات في مختلف المناطق. يعرض ويد امثلة شهيرة، مثل الجينات التي تسمح للجسم بامتصاص السكر او الجينات التي تساعد في مقاومة الملاريا لكنها لها نتائج سلبية.
من جهة اخرى، يمكن تصور تباين عشوائي في مجموعة الجينات. الخصائص الوراثية العشوائية لأي مجموعتين من السكان تميل لتختلف، بالمتوسط، في تناسب مع المسافة بين المجموعتين. ذلك بسبب ان الناس اقل احتمال في ان يتزوجوا من مكان بعيد عن المكان الذي يعيشون فيه. يبدو ان هذا يعطي دفعا لعلامات وراثية مميزة لقارة معينة او لمدينة معينة. لكن، هذا التباين ربما ليس له تأثير هام على سمات الناس الذين لديهم تلك الاختلافات، لأنه لا يعكس ضغط الاختيار.
لماذا تختلف المؤسسات تبعا للمنطقة؟
الكاتب يقبل الرؤية بان الاختلافات المؤسسية توضح الاختلافات عبر الدول. ولكن، ما الذي يسبب الاختلافات المؤسسية؟ يجادل الكاتب بان التفسيرات الحالية للاختلافات المؤسسية تترك ظاهرة هامة بلا توضيح وان متوسط الخصائص الوراثية للسكان يجب ايضا ان يلعب دورا.
اذا كانت شمال كوريا وجنوبها توضيحا كلاسيكيا لقوة المؤسسات، عندئذ فان محاولة الامريكيين بناء دولة في العراق هي التوضيح الكلاسيكي لصعوبة زرع المؤسسات. يذكر ويد:
... اذا كانت المؤسسات هي ثقافية خالصة، فيجب ان يكون من السهل تحويل مؤسسة من مجتمع الى آخر. لكن المؤسسات الامريكية لا تُزرع بسهولة في المجتمعات القبلية كالعراق وافغانستان.
الجدال المشار اليه في ذلك المقطع يمكن اعادة توضيحه كالتالي:
1- الامريكيون حاولوا زراعة مؤسساتهم في العراق وافغانستان.
2- تلك المؤسسات انتهت بالفشل.
3- لذلك، فان التفسير هو ربما ناتج عن التركيب الوراثي للسكان.
يمكن الاعتراض على ذلك في ان امريكا لم تنقل فعلا مؤسساتها لتلك الدول. الانتخابات الديمقراطية كانت نُقلت بالفعل. لكن، الانتخابات الديمقراطية هي فقط واحدة من عدة مؤسسات تميز امريكا عن العراق وافغانستان. العديد من المبادئ الهامة للسلوك الرسمي، الافكار الاجتماعية، العادات، والممارسات لم تُزرع ابدا، هذه هي بالتأكيد شروط حاسمة للحفاظ على المجتمع الحر.
دوكلس نورث وغيره من الاقتصاديين لم يولوا اهمية للاختلافات العرقية والوراثية. بدلا من ذلك، هم اعتقدوا بالتوازن المفروض ذاتيا.
في كتاب (العنف والانظمة الاجتماعية)(4)، يجادل المؤلفون الثلاثة بان هناك نوعان مختلفان من انظمة الحكومة المعززة ذاتيا. الاول هو ما يسمونه النظام المقيد، الذي فيه عدد قليل من الجماعات المنظمة تتولى السلطة. الثاني هو النظام المفتوح الذي تتوزع فيه السلطة ويسود حكم القانون. في النظام المقيد، الاوليغارت يحافظون على السلم بين انفسهم بتقاسم الثروة التي يستخلصونها من بقية السكان. ضحايا هذا الاستغلال يبقون تحت السيطرة من خلال القمع. في النظام المفتوح، المجتمع يُحكم بقواعد عامة، وليس بالنخب القمعية. كل شخص قادر على امتلاك ملكية وبحقوق مضمونة.
المؤلفون الثلاثة يشيرون الى النظام المقيد بـ "الدولة الطبيعية". انها طبيعية لأن الغرائز المتوارثة لدى الناس تجعل من السهل تحقيق الولاء بين الجماعات القبلية. القبيلة او الجماعات شبه القبلية تتصارع بسهولة مع القبائل الاخرى وترغب بالدخول في العنف. النظام المفتوح يعمل على استقرار المجتمع والحفاظ على السلم.
ان التحول نحو النظام المفتوح يحدث فقط عندما تتحقق شروط مسبقة. الكتاب الثلاثة يجادلون بان الامة، قبل ان يتأسس النظام المفتوح، يجب ان تباشر فترة فيها يخضع الجيش لسيطرة المدنيين وفيها تتعامل النخب مع بعضها من خلال عمليات قانونية رسمية.
استنتاج
يرى الكاتب (ويد) ان اولئك الذين ينكرون اهمية العرق يجب ان يرتكبوا مغالطات فكرية لكي يستطيعوا ذلك. غير ان البعض يرى العكس هو الصحيح، يجب ان يحصل تشويهان اثنان للحقائق لكي نعتقد بصحة فرضية ويد.
التشويه الاول يستلزم الاعتقاد بان الاختلافات في متوسط المجموعات الوراثية يعكس تأثيرات الاختيار بشأن السمات، حينما تبدو عشوائية. الادعاء بان هناك اختلافات في السمات عبر العروق منقادة وراثيا يثير الدهشة نظرا لضعف الدليل.
التشويه الثاني يتطلب مقارنة فرضية متوسط السمات الوراثية مع فرضية التوازن المعزز ذاتيا في توضيح الصعوبة لدى بعض الدول في عمل التحول نحو اقتصاد السوق والحكومات الديمقراطية. الكاتب ويد يكتب كما لو ان التغيير الثقافي والمؤسسي يجب انجازه بسرعة، وعندما يفشل ذلك سوف لن يكون امامنا من خيار سوى العودة الى الوراثة. ان عمليات التغيير الثقافي والمؤسسي هي بالتأكيد جرى فهمها بفقر كبير، وليس بالضرورة ان تكون سريعة.
اعتمادا على كيفية تقدم البحوث، في العقود القادمة ربما لا نحتاج لتشويه للحقائق لنعتقد ان هناك علاقة حقيقية بين المجاميع الوراثية وسمات الشخصية. غير ان مسألة من يقود مختلف الدول لامتلاك مختلف المؤسسات انما هي مسألة تعاني مما يسميه جم مانزي "حجم السببية"(5)، يعني ان هناك عدة تفسيرات مقبولة والقليل نسبيا من البيانات لحل هذه المشكلة. لذا، فالشك سيبقى قائما بقدرتنا على القول ان الاختلافات في معدل السمات الاجتماعية للسكان هي العامل الرئيسي.
اضف تعليق