لقد رأت في الكاظمي شاعراً لا يكتفي بالمديح والرثاء كأغراض شعرية، بل يحولها إلى رسائل إنسانية خالدة تستلهم قيم كربلاء وتغرسها في ضمير الأجيال. وما بين دفتي هذا البحث، تجلت صورة الشاعر المعاصر الذي ما زال صوته يطرق أبواب القلوب، ويؤكد أن الكلمة حين تصدر من صدق العقيدة، تبقى حيّة لا يطويها الزمن...
في فضاءات الشعر العقائدي، حيث تتعانق القيم الروحية مع نبض الوجدان، اختارت الطالبة غفران علي عمران من قسم اللغة العربية – كلية الإمام الكاظم (ع) / أقسام بابل، أن تخوض رحلة بحثية في عوالم الشاعر الكبير جابر الكاظمي. ذلك الصوت الذي ظل يرن في المنابر والمجالس الحسينية، حاملاً بين ثنايا قصائده مدائح تُعلي من شأن الممدوحين، ورثائيات تُبكي الحجر وتؤرخ لوجع الطف.
جاء بحثها الموسوم بـ "المديح والرثاء في شعر الأديب جابر الكاظمي" نالت شهادة البكالوريوس، لكنه في جوهره نافذة على عالم شعري يفيض بالرموز والدلالات، ويستحضر البطولة والحزن معاً. ومن هنا كان هذا الحوار معها، لنقترب من تجربتها ورؤيتها النقدية.
ما الذي دفعكِ لاختيار جابر الكاظمي دون غيره من الشعراء؟ ولماذا ثنائية المديح والرثاء تحديداً؟
لأن حضوره لا يُخطئه وجدان الأجيال؛ فقد شغلتني قصائده الدينية بما تحمله من حرارة الإيمان، فوجدتُ في المديح والرثاء لديه مادة ثرية تستحق أن تصل إلى القراء والباحثين.
ولأنها من أخلد الأغراض في الشعر العربي، وقد بلغ الكاظمي فيها منزلة رفيعة؛ فقصائده تُتلى على المنابر وتترسخ في الذاكرة، فكان من الطبيعي أن أجعل منها محوراً لبحثي.
كيف ولدت الفكرة الأولى لبحثكِ؟
كنتُ أحلم بها منذ سنوات، حتى هيأ الله لي أستاذي د. وسام العبيدي، الذي فتح أمامي أبواب المصادر، ومن ديوانه الفصيح بدأت رحلتي مع النصوص والقراءات.
ما الخصائص الفنية الأبرز في مديحه؟
يمتاز بالسلاسة ووضوح الفكرة، يجمع بين أصالة التراث وروح العصر، يوظف النص القرآني والحديث الشريف، ويغلف ذلك كله بمسحة فلسفية رقيقة.
وكيف فرّق بين صورة الممدوح والمرثي؟
الممدوح عنده بطل ومجيد وصاحب مآثر، أما المرثي فهو وجعٌ حيّ، يتجسد في الدمعة، في الحزن، في التضحية، وغالباً ما يرتبط بالمأساة الحسينية.
النزعة العاطفية، كيف حضرت في رثائه؟
حضرت بقوة؛ فالتاريخ والعقيدة لا يذكرهما إلا ليعزز أثر الدمع والبكاء، وكأنه يجعل من النص مرآة لقلوب المستمعين.
والرمزية، ما مكانتها في بناء الصور الشعرية؟
هي روح النص. ففي المديح يُشعّ نور الشمس والسيف، وفي الرثاء تسيل الدماء والدموع ويُستحضر تراب كربلاء، ليكتمل المشهد الرمزي العميق.
هل ترين تشابهاً بينه وبين شعراء الطف؟
نعم، يشترك معهم في استلهام ثورة الحسين (ع)، في لغة العاطفة والرمز، وفي البعد العقائدي الذي يجعل الشعر رسالة بقدر ما هو فن.
كيف يتعامل الكاظمي مع الزمن في قصائد الرثاء؟
الزمن عنده ليس خطّاً جامداً، بل فضاء مفتوح؛ فهو يستعيد ماضي البطولة، ويعيش حاضر الفقد بحرارة، ثم يطل على مستقبل الجزاء الإلهي، فيجعل القصيدة امتداداً للحياة والأبدية معاً.
وما الملامح التي تُظهر تأثره بالبيئة الدينية أو السياسية؟
بيئته الدينية حاضرة في كل بيت، عبر ارتباطه الوثيق بأهل البيت (ع) ورموزهم. أما السياسية، فتطل من بين السطور كصرخة بوجه الظلم، مستلهماً من كربلاء روح الثورة والرفض.
خلال تحليلكِ للنصوص، ما نقاط القوة والضعف التي رصدتِها؟
قوة شعره تكمن في وضوح المعنى، تماسك البناء، وحضور الإيقاع الموسيقي، أما الضعف فهو أن بعض نصوصه قد تقع في دائرة التكرار الأسلوبي.
أي منهج نقدي اعتمدتِ في التحليل؟
اعتمدت المنهج الوصفي؛ لأنه الأقرب إلى مستوى بحثي، والأقدر على كشف ملامح النصوص من غير إسراف في التأويل.
وما أبرز المصادر التي استندتِ إليها؟
استعنت بكتب النقاد الكبار مثل شوقي ضيف وإحسان عباس في موضوع الرثاء، إلى جانب دراسات عن الصورة الشعرية والموسيقى والإيقاع.
لا بد أن رحلتكِ واجهتها بعض الصعوبات، ما أبرزها؟
أصعبها كان الحصول على ديوان الكاظمي الفصيح، فقد استغرقت أسابيع حتى عثرت على نسخة من موسوعته غير المطبوعة، ومن هناك بدأت الكتابة بطمأنينة.
ماذا أضاف هذا البحث إلى رؤيتكِ للشعر العقائدي؟
جعلني أؤمن أن الشعر العقائدي ليس مجرد مدح أو بكاء، بل رسالة لبثّ القيم الأخلاقية، وتشكيل وعي جماعي، والتعبير عن أعمق المشاعر الإنسانية.
وما الرسائل الإنسانية أو الروحية التي شعرتِ أن الكاظمي يوصلها؟
قيم الصبر والثبات، الثورة على الطغيان، الدعوة إلى العدالة، وإحياء روح التراحم والتكافل بين الناس.
بعد إنجاز البحث، ما الخطوة التالية التي تفكرين بها؟
أسعى إلى تطوير نفسي أكثر بالقراءة في الفلسفة والدين والتاريخ، وحضور الندوات الأدبية والنقدية لأصقل تجربتي العلمية.
هل من لحظة شعرتِ فيها باندماج عاطفي استثنائي مع النصوص؟
نعم، حين كنتُ أستمع إلى قصائد الكاظمي بصوت الرادود باسم الكربلائي، شعرتُ أن الكلمات تنبض في داخلي وتشدني بعاطفة جارفة.
أخيراً، ما القيمة التي يضيفها بحثكِ إلى المكتبة العربية؟
أنه أول محاولة لتناول شاعر معاصر مثل جابر الكاظمي في إطار نقدي أكاديمي، وهو وإن كان جهداً متواضعاً، إلا أنه يفتح الباب أمام دراسات أوسع وأعمق.
هكذا أنهت الطالبة غفران علي عمران رحلتها مع شعر الأديب جابر الكاظمي، رحلةً لم تقتصر على البحث الأكاديمي وحده، بل امتدت لتكون تجربة وجدانية ومعرفية أضاءت لها دروب الفهم وأعمقت صلتها بالشعر العقائدي. لقد رأت في الكاظمي شاعراً لا يكتفي بالمديح والرثاء كأغراض شعرية، بل يحولها إلى رسائل إنسانية خالدة تستلهم قيم كربلاء وتغرسها في ضمير الأجيال. وما بين دفتي هذا البحث، تجلت صورة الشاعر المعاصر الذي ما زال صوته يطرق أبواب القلوب، ويؤكد أن الكلمة حين تصدر من صدق العقيدة، تبقى حيّة لا يطويها الزمن.
اضف تعليق