إن عالم ما بعد الذكاء الاصطناعي، والإنترنت، والموبايل يختلف كثيرًا عن عالم ما قبل عشرين أو ثلاثين سنة. وعالم اليوم يسير بسرعة جنونية نحو التقنيات الحديثة في مختلف المجالات، العسكرية والمدنية، ومن لم يستطع أن يمسك بتلك التقنيات ويطوّعها سيجد نفسه خارج اللعبة، في أي مجال يفرض عليه تحدياته...
عندما تابعت، من خلال التقارير والأفلام المصورة، حجم الحملة التي جهزتها ألمانيا النازية لغزو الاتحاد السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية، ثم الحملة التي جهّزها الحلفاء لاحقًا لتنفيذ إنزال (النورماندي) الشهير غرب فرنسا لإنهاء الاحتلال النازي، أصبت بالذهول لحجم الأعداد الهائلة من الجنود والمعدات التي تركت وراءها، ومن دون شك، قدرًا كبيرًا من الدمار والخراب.
لكن، وأنا أتابع حركة تلك الجيوش، تخيلت لو أن أسلحة حديثة من طائرات وصواريخ تصدت لها، ولو بأقل من عشر حجمها، لكان مصيرها الدمار وعدم وصولها إلى أهدافها، لأن ما تُحدثه طائرة حديثة واحدة، من تلك التي تحمل أطنانًا من المتفجرات، وبطلعة واحدة، قادرٌ على إيقاف تقدم فرقة أو أكثر، وتدمير معداتها وشلّها تمامًا.
هذا الأمر دفع الدول إلى تقليص أعداد الجنود إلى أدنى حد يمكن الاكتفاء به، مقابل الاعتناء بالتقنية الحديثة التي باتت تعوّض تلك الأعداد. فزيادة عدد الجنود صار بمثابة عائق أمام تقدم الجيوش، إذ تذهب أغلب التخصيصات المالية السنوية المخصصة لوزارات الدفاع إلى الرواتب، بدلًا من تطوير القدرات العسكرية وبنائها على أسس علمية، تجعل فاعليتها القتالية عالية، وفي الوقت نفسه غير مرهقة للدولة ماديًا.
لقد شهدنا كيف أن التقنية الحديثة أصبحت العامل الحاسم في المعارك، وأن القوات التقليدية، وإن بقي لها دور مهم بلا أدنى شك، إلا أنه صار ثانويًا وغير حاسم، إلا في حال الإمساك بالأرض، وهو ما لا يتحقق إلا بالقوة الجوية والصاروخية.
الحروب التي شهدها، وما زال يشهدها، العالم، لا سيما بعد التسعينيات، وصولًا إلى حرب غزة وتداعياتها، والحرب بين إيران وإسرائيل، تقف دليلًا على أن زمن الجيوش التقليدية الكبيرة قد ولى، وأن من يريد حماية أمنه القومي لا بد له من بناء جيش حديث وبحجم مقبول، إذ لم تعد الجيوش الكبيرة مخيفة، وإنما الجيوش التي تمتلك الأسلحة الفتاكة والحديثة، فهي وحدها يحسب لها الحساب.
الجيوش الحديثة تستطيع أن تؤمّن البلاد خارج حدودها بآلاف الكيلومترات، وتبطش بالعدو قبل وصوله إليها، أو تجعله يخشى الاقتراب منها، وبذلك يصبح الأمن القومي حقيقة مؤكدة.
جيوش اليوم تعمل أسلحتها بالأزرار، وتطلق نيرانها الفتاكة من مناطق تختارها هي، ولا يفرضها عليها العدو، وتصل إليه دون أن يدرك من أين انطلقت ومتى.
إن عالم ما بعد الذكاء الاصطناعي، والإنترنت، والموبايل يختلف كثيرًا عن عالم ما قبل عشرين أو ثلاثين سنة. وعالم اليوم يسير بسرعة جنونية نحو التقنيات الحديثة في مختلف المجالات، العسكرية والمدنية، ومن لم يستطع أن يمسك بتلك التقنيات ويطوّعها سيجد نفسه خارج اللعبة، في أي مجال يفرض عليه تحدياته، أو يدخله هو متحديًا، أو ليصمت لأنه لم يعد بإمكانه المواكبة وسط عالم اليوم الذي رافق تقدّمه التقني، تخلفًا وعطبًا في القيم الإنسانية والأخلاقية، بشكل يثير الرعب والأسف معًا.
اضف تعليق