لقد شهدنا في العقدين الأخيرين مطالب لسياسيين وناشطين عراقيين، بإقامة أقاليم طائفيَّة أو عرقيَّة أو مناطقيَّة، مثل (إقليم الوسط والجنوب) و(الإقليم السني) ومن ثم إقليم البصرة - الأنبار - صلاح الدين وغيرها. هذه الطروحات تمثل نزعاتٍ قوميَّة معاكسة لحركة التاريخ وللتوجه السائد في العالم اليوم...
في العام 1871، تعرّض ماركس إلى اتهاماتٍ قاسية من قبل قصيري النظر، والسبب كان وقوفه إلى جانب مشروع بسمارك (ملك بروسيا) الألمانيَّة المتمثل بتوحيد الإمارات الألمانيَّة جميعها بدولة واحدة. كان الظرف وقتذاك ملتبساً جداً من الناحية الأخلاقيَّة، وفرز الأمور خلاله يحتاج إلى عقولٍ كبيرة تتفهمُ أو تقتربُ من رؤية ماركس للمستقبل.
وهنا لا بُدَّ من إضاءةٍ تجعل القارئ يقفُ على هذا الالتباس. لقد كان ماركس، بعد أنْ أصبح اسماً كبيراً في التنظير للاقتصاد الاشتراكي وزعيماً اشتراكياً وقف عند طروحاته كبار المفكرين في أوروبا والعالم، وبعد أنْ نضجت الحركة العماليَّة (الاشتراكيَّة) في أوروبا وبقيَّة دول العالم، لا سيما الصناعي منه، دعا ماركس الأحزاب الاشتراكيَّة إلى مؤتمرٍ كبيرٍ في لندن العام 1863 لتوحيد نضالها ضدَّ الأنظمة الرأسماليَّة. تحت اسم (مؤتمر الشغيلة العالميَّة)، وسيدخل التاريخ لاحقاً باسم (الأمميَّة الأولى)، وقد أعطى هذا المؤتمر دفعة كبيرة للقوى الاشتراكيَّة وعزّز من مكانة ماركس الفيلسوف والزعيم التقدمي.
في العام 1870، توترت العلاقة بين فرنسا ومملكة بروسيا لأسبابٍ لا مجال هنا لعرضها، واندلعت الحرب بين البلدين، والتي لم تكن فرنسا مهيّأة لها، فخسرتها وأُطيح بالملك نابليون الثالث. فكانت نتيجة الحرب فرصة للاشتراكيين الفرنسيين (كومونة باريس)، الذين كانوا بالضد من نابليون الثالث، حيث شكلوا حكومة (اشتراكيَّة) في باريس.
لكن الذي حصل هو أنَّ البرجوازيين الفرنسيين، ممَّن استشعروا الخطر على مصالحهم، تحالفوا مع المحتل البروسي – الألماني ضدَّ حكومة الكومونة وأطاحوا بها، بعد مجزرة رهيبة راح ضحيتها من رجال الكومونة أكثر من 30 ألفاً، ولم تتجاوز تلك الحكومة مدينة باريس، لأنها قُمعت بقسوة. وعلى خلفيَّة هذا الانتصار البروسي – الألماني، ما خلقه من مناخٍ عاطفيٍ بين الألمان شرع بسمارك في توحيد الإمارات الألمانيَّة. وكانت المفاجأة بالنسبة للبعض أنَّ ماركس، الذي شهد الإطاحة بالوليد الاشتراكي (حكومة الكومونة) على يد بسمارك، يقفُ إلى جانبه مؤيّداً خطواته الوحدويَّة.
جديرٌ بالذكر هنا أنَّ ماركس ألمانيٌّ ومن مملكة بروسيا أيضاً، لذا لم يستطع هؤلاء هضم هذا الموقف وراحوا ينعتون ماركس بـ(العميل لبسمارك)! لكنَّ ماركس، برؤيته البعيدة، ردَّ عليهم بما خلاصته أنَّه لم يكن عميلاً لبسمارك، وإنَّما يرى أنَّ وحدة أوروبا لن تتحقق قبل أنْ تتوحد الإمارات الألمانيَّة والإيطاليَّة والبولونيَّة (بولونيا كانت وقتها مقطّعة وموزعة بين ثلاث دول أوروبيَّة تحتلها).
أي أنَّ ماركس لم يكن ينظر إلى أمر الوحدة الألمانيَّة من زاوية كونه ألمانياً أو بروسياً، وإنما من خلال رؤيته الفاحصة للتاريخ والمستشرفة للمستقبل، والتي تعكسها طروحاته المتمثلة بمراحل تطور المجتمعات والعلاقة بينها. وأنَّ الوحدات الثقافيَّة المتماثلة إذا ما توحدت فستكون أفضل حالاً من مختلف النواحي، وسيكون بالضرورة الحوار الإنساني بين الوحدات الكبيرة أنضج، وإمكانيَّة اندلاع الحروب أقل، وباقتصاديات متكاملة وأقوى ممَّا هي متفرقة. ولذا فإنَّ رؤية ماركس للوحدة الألمانيَّة تختلفُ تماماً عن رؤية الذين اتهموه بالعمالة أو الانتصار لقوميته الألمانيَّة.
من تلك الرؤية الماركسيَّة، ظهرَ، بعد ثورة أكتوبر الاشتراكيَّة العام 1917، ما عُرف بـ(اليسار القومي)، المتمثل بنظرة جديدة لمفهوم القوميَّة، يتجاوز التفاخر بـ(الأمجاد) أو محاولة قهر الآخر المختلف إلى التلاقي الإنساني والتفاعل البنّاء بين الشعوب وتعزيز العلاقات في ما بينها وعدم المكوث بين خلافات التاريخ والنظر إلى المستقبل.
وهذا يتعزّز باحترام الخصوصيات الثقافيَّة لكل جماعة، وإنْ كانت صغيرة تعيشُ بين جماعة كبيرة مختلفة عنها ثقافياً، واحترام خيارات أبنائها في الإدارة وممارسة نشاطاتهم الحياتيَّة بحريَّة، وقد جسّدته قيادة ثورة أكتوبر بـ(المرسوم حول القوميات)، الذي قدمه وزير الداخليَّة في (الاتحاد السوفييتي) جوزيف ستالين إلى رئيس حكومته فلاديمير لينين العام 1919، والذي منح بموجبه حقَّ إقامة الدول المستقلة، ذات الثقافات المختلفة عن الروسيَّة، داخل الاتحاد السوفييتي، والكيانات ذات (الحكم الذاتي) داخل جمهوريَّة روسيا نفسها. وهذا المرسوم ألقى بظلاله على الثقافة السياسيَّة في العالم، لا سيما الدول التي تماهت ولو نسبياً مع مخرجات ثورة أكتوبر وثقافتها السياسيَّة في إطارها العام.
بعد انهيار المعسكر الاشتراكي العام 1991، أخذت الثقافة السياسيَّة في العالم بالتغير، ومن أبرز معالمها الأولى تشجيع تفكيك الدول الاشتراكيَّة، لا سيما الشيوعيَّة التي كانت متحدة سابقًا، بهدف إعادة تشكيل المشهد العالمي الجديد بثقافة مختلفة. ولكن الأخطر الذي رافق هذا، كان تشجيع النزعات الانفصاليَّة للجماعات الصغيرة في المناطق المستهدفة سياسيًا، ويوغسلافيا، والحروب التي تبعت تفككها، أكبر مثالٍ على ذلك، وطبعاً باستثمار العاطفة القوميَّة بشكلٍ مرعبٍ للأسف.
فوقفنا هنا على صورة جديدة مشوهة للقوميَّة، لكنها ليست نهائيَّة، لأنَّ المصالح هي التي تفرضُ نفسها، إذ أصبحت الدول المتقاربة جغرافيًا والمختلفة ثقافياً، تبحثُ عن مشتركاتٍ معينة لتشكيل تحالفاتٍ أو اتحاداتٍ تخدمُ مصالحها المشتركة، بعيدًا عن اللغة أو الدين أو غيرهما من الأشكال التقليديَّة للقوميَّة.
وهكذا، تشكّلت كيانات مثل (النمور الآسيويَّة) في آسيا، و(مجموعة البريكس)، و(اتفاقيَّة التجارة الحرة) في أميركا اللاتينيَّة، و(دول حوض المتوسط)، و(رابطة آسيان)، و(الشراكة الاقتصاديَّة الإقليميَّة الشاملة)، و(الاتحاد الإفريقي)، و(الاتحاد الأوروبي) و(منظمة “ألبا” - التحالف البوليفاري لشعوب أميركا اللاتينيَّة). وهذه تجمعاتٌ قدّمت صورة حديثة لمفهوم القوميَّة، غير المقيدة بضوابط ثقافيَّة صارمة، والتي كانت تعكسُ ثقافة عصرها قبل قرنٍ وأكثر والتي تجاوزتها الشعوب الآن إلى حدٍ كبير؛ لأنَّ جوهر مفهوم (الجماعات) أو القوميات هو المصلحة المشتركة لعناصرها، سواء بالدفاع عن وجودها من الخطر الخارجي، أو بتحقيق فوائد مشتركة، وهذه الأخيرة هي ما يخلق التصاهرات التي تنتج ثقافة مشتركة لاحقًا. والتصاهر هنا لا يتوقف عند التزاوج، وإنْ كان أحد الأسباب، بل يشمل تداخل الثقافات الصغيرة للجماعات المتقاربة جغرافياً والمتعايشة مع بعضها البعض لإنتاج ثقافة مشتركة أكبر. هكذا كان ينظر ماركس إلى موضوع توحيد الإمارات الأوروبيَّة المتفرقة وكيف يمكن أنْ تتغير أوروبا بعدها. لذا فإنَّ الذين هاجموا ماركس نظروا إلى القوميَّة من منظورٍ عرقي، رغم ادعائهم ضمناً نقده ونبذه.
لقد شهدنا في العقدين الأخيرين مطالب لسياسيين وناشطين عراقيين، بإقامة أقاليم طائفيَّة أو عرقيَّة أو مناطقيَّة، مثل (إقليم الوسط والجنوب) و(الإقليم السني) ومن ثم إقليم البصرة - الأنبار - صلاح الدين وغيرها. هذه الطروحات تمثل نزعاتٍ قوميَّة معاكسة لحركة التاريخ وللتوجه السائد في العالم اليوم، إذ تسعى الدول لإقامة الاتحادات على أساس المصالح، وليس بالضرورة على طريقة الوحدة التقليديَّة (البسماركيَّة) التي عفا عليها الزمن، بمعنى أنَّ السعي لمثل هكذا أقاليم يستبطنُ رغبة مجموعة معينة في الاستئثار بالثروات، وإنْ جاء هذا على حساب وحدة البلاد ومستقبلها في ظل عالمٍ تتحكم به قوى جبّارة، سياسياً واقتصادياً. لقد رفضت القوى المؤثرة عالميًا استقلال إقليم (كتالونيا) عن إسبانيا قبل بضعة أعوام، لإدراكها بأنَّ هذا سيفتح الباب أمام دعاوى مشابهة قد تؤدي إلى انفصال عشرات أو مئات الأقاليم والجماعات في دولٍ موحدة بمناطق عديدة حول العالم، ولتجنب فوضى سياسيَّة وأمنيَّة يصعبُ السيطرة عليها. العالم اليوم، رغم مشكلاته الكثيرة، يسيرُ باتجاه حكومة عالميَّة تديرُ شؤونه، متمثلة الآن في (هيئة الأمم المتحدة). ولعلَّ المستقبل يحملُ الأفضل، وهو ما يتطلعُ إليه أصحابُ الرؤى الإنسانيَّة الواسعة، بخلاف أولئك الذين تحكمهم المصالح الجهويَّة الضيقة وأحلام السلطة.
اضف تعليق