إذا تمكَّنا من إيجاد توازن بين العقلِ والعاطفة يمكننا استخدامَ كلٍّ منهما لتحقيق أقصى استفادة؛ إذ يمكن للعاطفة أن تكونَ مصدرَ قوَّةٍ ودافعًا عظيمًا تمنحُنا الحافزَ والعزيمةَ في مواجهةِ التَّحديات، بينما يوفر العقلُ القوَّة على توجيهِ هذهِ الطَّاقة نحو أهداف محددة ومعقولة، مما يرفعُ من فعَّالية قراراتنا، ولحُسنِ...
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ التفكير الإبداعي من أهمِّ العوامل التي تسهم في تقدُّم الإنسان وتطوره في مختلف المجالات، وفي مقالنا السَّابق، تمَّ تناول ثلاث أساسيات مهمَّة تعزِّز التَّفكير الإبداعي؛ وهي: الاستناد إلى أصُول ثابتة، والتَّفكير بسهولة، والتَّكامل درجات. وفي هذا المقال، نواصل استكشاف أساسيات التَّفكير الإبداعي من خلال تسليط الضوء على خمس أسس جديدة تشكِّل أدوات أساسيَّة لتطوير التَّفكير الإبداعي. وهذه الأسس تشمل: التَّوازن بين العقل والعاطفة، والمرونة الفكرية، والتَّحرر من التَّحيز، وخطورة الأفكار المثبطة، وأهميَّة بذل الجهد في إعداد الفكرة. وكلُّ واحدة من هذه الأسس تشارك في تحسين قدرة الأفراد على التفكير بطرق مبتكرة وغير تقليدية، مما يفتح أمامهم آفاقًا واسعة في مواجهة المشاكل وابتكار حلول جديد؛ لذلك نحاول أن نبيِّن هذه الأسس، وبعبارة واضحة:
أوَّلًا: التَّوازن بين العقل والعاطفة
في زُحامِ الحياةِ اليوميةِ، حيث تتشابكُ مشاعرُنا مع تحليلاتنا العقليَّة، يبرز أحدُ أكبر التَّحديات التي يواجهها الإنسانُ؛ ألا وهو: (تحقيق التَّوازن بين العقل والعاطفة)؛ وهذا التَّوازنُ ليس مجرَّد فكرة نظرية؛ بل هو مهارة حقيقيَّة تعكسُ جدارةَ الفردِ على التَّعامل مع المواقف والقرارات من منظور متوازن يجمعُ بين المنطقِ والوجدان.
العقلُ في جوهرهِ هو أداة التَّحليل والتَّفكير المنطقي؛ إنَّه ذلكَ الجزء القادر على تقييمِ المعلومات بموضوعيَّة، وتحليل المعطيات من دون تأثر بالعواطف، بينما تساعد العاطفة بما تحمله من بعد وجداني في إثراء تجربتنا الإنسانيَّة، وتمنحنا عمقًا حقيقيًا وإحساسًا بالاتِّصال بالعالم من حولِنا، ولكن عندما تسودُ العواطفُ على التَّفكير العقلي قد يؤدِّي ذلك إلى اختلالات في اتِّخاذ القرارات؛ فمثلًا، قد يدفعنا الغضبُ أو الخوفُ إلى اتِّخاذ قرارات متهورة وغير مدروسة، بينما يمكن أن يجرَّنا الحزنُ إلى تفكيرٍ سلبي يعيق التَّقييم العلمي للمواقف، وفي مثلِ هذه اللحظات تصبحُ العواطفُ كالضَّباب الذي يحجبُ الرُّؤيةَ الواضحةَ للعقلِ، ممَّا يسبِّبُ له اتِّخاذ قرارات غير رشيدة؛ قَالَ لُقْمَانُ (عليه السلام) لِابْنِهِ: «يَا بُنَيَّ، كَذَبَ مَنْ قَالَ إِنَّ الشَّرَّ يُطْفِئُ الشَّرَّ، فَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيُوقِدْ نَارَيْنِ ثُمَّ لْيَنْظُرْ هَلْ يُطْفِئُ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وإِنَّمَا يُطْفِئُ الْخَيْرُ الشَّرَّ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» (1).
إنَّ النقطة الجوهريَّة في هذا السِّر أننا إذا تمكَّنا من إيجاد توازن بين العقلِ والعاطفة يمكننا استخدامَ كلٍّ منهما لتحقيق أقصى استفادة؛ إذ يمكن للعاطفة أن تكونَ مصدرَ قوَّةٍ ودافعًا عظيمًا تمنحُنا الحافزَ والعزيمةَ في مواجهةِ التَّحديات، بينما يوفر العقلُ القوَّة على توجيهِ هذهِ الطَّاقة نحو أهداف محددة ومعقولة، مما يرفعُ من فعَّالية قراراتنا، ولحُسنِ الحظ من الممكن تدريبُ العقلِ على التَّعامل مع العواطف بشكل فعَّال عبر ممارسات مثل الوعي الذَّاتي والتَّأمل؛ ونقصد بالوعي الذَّاتي: هو قدرة الفرد على التَّعرف على ذاته بوضوح، بما في ذلك أفكاره ومشاعره ودوافعه وكيف تؤثِّر على سلوكه وتفاعلاته مع الآخرين، وأمَّا الـتَّأمل: فهو عملية ذهنية تسعى إلى مضاعفة التَّركيز العميق وتنمية الوعي الكامل بالحاضر، وهذه الممارسات تساعدُ الشَّخص على أن يصبحَ أكثر وعيًا بمشاعره، مما يمكِّنه من إدارة ردودِ أفعالِهِ العاطفية بشكل أفضل؛ فمن التَّأمل والوعي الذَّاتي يصبح الفرد قادرًا على تهدئة عقلهِ وتنظيمِ مشاعره، ما يتيحُ له اتِّخاذ قرارات أكثر توازنًا وحكمة في مواجهة المواقف العاطفية.
- تنبيه:
قد يكونُ التَّوازنُ بين العقل والعاطفة أحيانًا صعب التَّحقيق؛ خاصَّة في المواقف التي تكون فيها المشاعرُ قويَّةً ومؤثِّرةً، ولكن الوعي والتأمل والتَّدريب عليهما يساعدانِ الفردَ على التَّعامل مع مشاعره بشكل سليم.
على سبيل المثال: عند مواجهةِ قرار مهم، يكون من المفيد أحيانًا الابتعاد عن الموقف لبعضِ الوقت، وهذه المسافة تتيحُ للعقلِ الفرصةَ للتفاعل بشكل أكثر موضوعية وهدوء، بعيدًا عن التَّأثيرات العاطفية التي قد تشوش الحكمَ السَّليم، وبالابتعاد عن الضَّغط أو الانفعال، يصبحُ الشَّخصُ قادرًا على التَّفكير بوضوح أكبر، مما يساعدُه على اتخاذ قرارات مدروسة أكثر اتزانًا، وهذه الآليةُ تُثري من سلطةِ الدَّماغ على معالجةِ المعلومات بطرق أكثر عقلانيَّة؛ إذ يقلُّ تأثيرُ التَّوتر أو المشاعر الفوريَّة، ممَّا يقوي التَّفكير النَّقدي والتَّقييم الموضوعي للخيارات المتاحة.
- الحكيم والصَّبي
يُحكى أنَّ أحدَ التُّجار أرسلَ ابنه؛ لكي يتعلَّمَ سرَّ السَّعادة لدى أحكم رجلٍ في العالم.
مشى الفتى أربعينَ يومًا حتَّى وصلَ إلى قصر جميل على قمَّة جبل، وفيه يسكنُ الحكيمُ الذي يسعى إليه، وعندما وصل وجدَ في قصر الحكيم جمعًا كبيرًا من النَّاس.
انتظر الشَّاب ساعتينِ حين يحين دورُه.
أنصت الحكيم بانتباه إلى الشَّاب، ثمَّ قال له: الوقت لا يتَّسع الآن، وطلب منه أن يقومَ بجولةٍ داخل القصر، ويعود لمقابلته بعد ساعتينِ.
وأضاف الحكيمُ، وهو يقدِّم للفتى ملعقةً صغيرةً فيها نقطتان من الزَّيت: أمسكْ بهذه الملعقة في يدك طوال جولتك، وحاذرْ أن ينسكبَ منها الزَّيتُ.
أخذ الفتى يصعدُ سلالم القصرِ، ويهبط مثبتًا عينيه على الملعقة، ثمَّ رجع لمقابلة الحكيم الذي سأله: هل رأيت السَّجادَ الفارسيَّ في غرفةِ الطَّعام؟
الحديقةَ الجميلةَ؟
وهل استوقفتك المجلَّدات الجميلة في مكتبتي؟
ارتبكَ الفتى، واعترفَ له بأنَّه لم يرَ شيئًا، فقد كان همَّه الأوَّل ألَّا يسكب نقطتي الزَّيت من الملعقة، فقال الحكيم: ارجع، وتعرَّف على معالم القصر، فلا يمكنك أن تعتمدَ على شخص لا يعرف البيتَ الذي يسكنُ فيه.
عاد الفتى يتجوَّلُ في القصر منتبهًا إلى الرَّوائع الفنيَّة المعلَّقة على الجدران.
شاهدَ الحديقةَ والزُّهورَ الجميلةَ، وعندما رجع إلى الحكيم قصَّ عليه بالتَّفصيل ما رأى.
فسأله الحكيمُ: ولكن أين قطرتي الزَّيت اللتين عهدت بهما إليك؟
نظر الفتى إلى الملعقةِ فلاحظ أنَّهما انسكبتا، فقال له الحكيم: تلك هي النَّصيحة التي أستطيع أن أسديها إليك:
سرُّ السَّعادةِ هو أن ترى روائع الدُّنيا، وتستمتع بها دونَ أن تسكبَ أبدًا قطرتي الزَّيت.
فهم الفتى مغزى القصَّة؛ فالسَّعادة هي حاصل ضرب التَّوازن بين الأشياء... (2).
وهكذا يتضح أنَّ التَّوازن بين العقل والعاطفة ليس مجرد مهارة عابرة، بل هو جوهر الحياة المتزنة التي تجمعُ بين التَّفكير الرَّشيد والإحساس العميق؛ فمن خلال العقل نُرشد خطانا، ومن خلال العاطفة نُضفي معنى على رحلتنا، وعندما يتحد هذان الجانبان بتناغم نتمكن من مواجهة مصاعب الحياة بوعي ومرونة؛ لذلك، يصبح هذا التوازن سبيلًا لتحقيق قرارات أكثر حكمةً، وعلاقات أكثر دفئًا، وحياة أكثر استقرارًا.
ثانيًا: الْمرُونَةُ الفِكْرِيَّةُ
ذهبَ بعض المفكرين إلى أنَّ المرونة الفكريَّة من أرقى فضائلِ العقلِ، فهي ليست مجرَّدَ صفةٍ تُميِّزُ الأشخاصَ النَّاضجينَ عن غيرِهِم، بل هي أساسٌ لتطورِ الفكرِ وتقدمِه، ويمكنُنا أن نرى كيفَ أنَّ التَّاريخ من أقدم العصور حتَّى يومنا هذا، شهدَ لحظات حاسمة حينَ غيَّر بعضُ الأفرادُ والمجتمعاتُ تصوراتِهم بناءً على الحقائقِ المكتشفةِ حديثًا.
إنَّ التَّمسكَ بالأفكارِ القديمةِ على الرَّغمِ من ظهور دلائل جديدةٍ يتناقضُ مع روحِ التَّقدمِ والابتكارِ التي تدفعُ البشريةَ إلى الأمامِ؛ فنحنُ عندما نحتفظُ بآرائِنا ومعتقداتِنا دون أن نكونَ مستعدينَ لتغييرِها بناءً على معلومات جديدةٍ، فإننا نغلقُ أبوابَ التَّقدمِ الفكري؛ إذ الفكرُ الجامدُ الذي لا يتغيَّرُ ولا يتطورُ يصبحُ عبئًا على العقلِ ويعرقلُ تقدمَه.
إنَّ التَّغييرَ هو جزءٌ طبيعيٌ من الحياةِ، ويجب أن يكونَ العقلُ مستعدًا دائمًا لاستقبالِ الحقائقِ الجديدةِ التي لا تتصادم مع ثوابته، وتعديلِ آرائه بناءً عليها؛ فالعقلُ مثلُ الماءِ يحتاج إلى أن يكونَ مرنًا ليظلَّ نقيًا وقادرًا على التَّكيف مع محيطِه.
تتطلَّبُ المرونةُ الفكريَّةُ شجاعةً ونزاهةً، فليس من السَّهلِ الاعتراف بأننا قد أخطأنا في تقييمِ موقفٍ أو فكرةٍ معيَّنة، وكذلكَ يتطلَّبُ الأمرُ تواضعًا وقوَّةَ شخصيَّة لنتقبلَ الحقائق الجديدة التي قد تؤدِّي إلى تغييرِ قناعاتنا، وهذا التَّواضعُ الفكريُّ هو ما يميِّزُ الأفرادَ القادرينَ على تحقيقِ التَّقدم الحقيقي؛ فمِنْ مواجهةِ الأدلةِ الجديدةِ بشجاعةٍ يمكنُ للفردِ أن يحققَ تطورًا ملحوظًا في فَهمهِ للأمورِ وفي تعاملِه مع الواقعِ.
إنَّ التَّعرض لأفكارٍ جديدة يمكن أن يوسِّعَ آفاقَ التَّفكير؛ ِفالاستماعُ إلى وجهات نظرٍ متعددةٍ والاستعداد لتغييرِ الأفكارِ بناءً على تلكَ الآراء يفتحُ مجالًا للتَّفاهمِ بينَ الأفرادِ، مما يرتقي بجودةِ العلاقات الإنسانيَّة ويساعدُ على التَّعاونِ والتَّقدم.
- مداراة الإخوان
بينما كانَ رسولُ اللِه (صلَّى الله عليه وآله) جالسًا بين أصحابهِ إذ ابتسم حتَّى بدت نواجذُه! (3) فسألوه عن ذلكَ، فقال (صلَّى الله عليه وآله): «يؤتى بشخصينِ من أمتي يومَ القيامةِ، فيقول أحدهم: إلهي، خذ لي بحقِّي منه!
فيقول (سبحانه وتعالى): أعطِ حقَّ أخيكَ!
فيقول: إلهي لم يبقَ لي شيئًا من أعمالي الصَّالحة، وليس لدي شيءٌ من متاعِ الدُّنيا.
آنذاك يقول صاحب الحقِّ: إلهي! فاحملْ عليه من سيئاتي!
وهنا دمعت عينا رسولِ الله (صلَّى الله عليه وآله)، ثمَّ قال: ذلكَ يوم يحتاج فيهِ النَّاس من يحمل سيئاتهم.
فيقول اللهُ لذلكَ الشَّخص الذي يطلب حقَّه: ارجع بصرَك وانظر إلى الجنَّة، فماذا ترى فيرفع رأسَهُ، فيرى عجبًا ـ مما لا يوصف من آلاءِ اللهِ ونعمتهِ ـ
فيقولُ: لمن هذهِ؟
يقولُ (عزَّ وجلَّ): لمن يعطيني ثمنَها.
فيقول: ومن له بثمنها؟
يقول (سبحانه): أنت.
فيسألُ: كيفَ ذاك؟
فيقولُ (سبحانَهُ): بعفوكَ عن أخيكَ.
فيقولُ: أللّهم لقد عفوتُ عنهُ.
فيقولُ (تعالى): فخذ بيدِ أخيكَ وادخلا الجنَّة!
ثمَّ قال (صلَّى الله عليه وآله): فاتقوا اللهَ وأصلِحوا ذاتَ بيْنِكم» (4).
- رحلة التَّوبَة
عنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: «بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فِي مَلأٍ مِنْ أَصْحَابِه إِذْ أَتَاه رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي قَدْ أَوْقَبْتُ (5) عَلَى غُلَامٍ فَطَهِّرْنِي.
فَقَالَ لَه: يَا هَذَا امْضِ إِلَى مَنْزِلِكَ لَعَلَّ مِرَارًا هَاجَ بِكَ.
فَلَمَّا كَانَ مِنْ غَدٍ عَادَ إِلَيْه فَقَالَ لَه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أَوْقَبْتُ عَلَى غُلَامٍ فَطَهِّرْنِي. فَقَالَ لَه: يَا هَذَا امْضِ إِلَى مَنْزِلِكَ لَعَلَّ مِرَارًا هَاجَ بِكَ.
حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا بَعْدَ مَرَّتِه الأُولَى.
فَلَمَّا كَانَ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ لَه: يَا هَذَا إِنَّ رَسُولَ اللَّه (صلَّى الله عليه وآله) حَكَمَ فِي مِثْلِكَ بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ فَاخْتَرْ أَيَّهُنَّ شِئْتَ.
قَالَ: ومَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟
قَالَ: ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ فِي عُنُقِكَ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ
أَوْ إِهْدَاءٌ مِنْ جَبَلٍ مَشْدُودَ الْيَدَيْنِ والرِّجْلَيْنِ
أَوْ إِحْرَاقٌ بِالنَّارِ.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَيُّهُنَّ أَشَدُّ عَلَيَّ؟
قَالَ: الإِحْرَاقُ بِالنَّارِ.
قَالَ: فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ: خُذْ لِذَلِكَ أُهْبَتَكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ فِي تَشَهُّدِه، فَقَالَ: اللهمَّ إِنِّي قَدْ أَتَيْتُ مِنَ الذَّنْبِ مَا قَدْ عَلِمْتَه، وإِنِّي تَخَوَّفْتُ مِنْ ذَلِكَ فَجِئْتُ إِلَى وَصِيِّ رَسُولِكَ وابْنِ عَمِّ نَبِيِّكَ فَسَأَلْتُه أَنْ يُطَهِّرَنِي فَخَيَّرَنِي بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ مِنَ الْعَذَابِ.
اللهمَّ فَإِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ أَشَدَّهَا.
اللهمَّ فَإِنِّي أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِذُنُوبِي، وأَنْ لَا تُحْرِقَنِي بِنَارِكَ فِي آخِرَتِي.
ثُمَّ قَامَ وهُوَ بَاكٍ حَتَّى جَلَسَ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي حَفَرَهَا لَه أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وهُوَ يَرَى النَّارَ تَتَأَجَّجُ حَوْلَه.
قَالَ: فَبَكَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وبَكَى أَصْحَابُه جَمِيعًا.
فَقَالَ لَه: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) قُمْ يَا هَذَا فَقَدْ أَبْكَيْتَ مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ ومَلَائِكَةَ الأَرْضِ، فَإِنَّ اللهَ قَدْ تَابَ عَلَيْكَ فَقُمْ ولَا تُعَاوِدَنَّ شَيْئًا مِمَّا قَدْ فَعَلْتَ» (6).
ثالثًا: التَّحرر من التَّحيز
التَّحيزُ؛ ذلكَ الشُّعور غيرُ المرئي الذي يؤثِّر على رؤيتِنا للأشياءِ وقراراتِنا؛ فالتَّحيزُ ليس مجرَّدَ نقيصةٍ عقليَّةٍ، بل هو حجرُ عثرةٍ في طريقِ الوضوحِ والموضوعيَّةِ؛ فهو في جوهرِه، يشكِّل حاجزًا من الإحساساتِ والمشاعرِ التي تشوه الواقعَ وتجعلنُا أسارى لمفاهيم ضبابية وغيرِ دقيقة، ولا يقتصر وجودُ التَّحيزاتِ في جوانب محددةٍ من الحياةِ، بل تمتدُ إلى كلِّ مجالٍ تقريبًا؛ فمن نظرتنا للآخرين، إلى قراراتِنا المهنية، وصولًا إلى قراراتنا الشَّخصيَّة، ويمكن أن يكونَ التَّحيزُ نابعًا من تراثنا الثَّقافي، أو تجاربِنا الشَّخصيَّة، أو حتَّى معتقداتنا الاجتماعيَّة.
على سبيل المثال: قد يتسبَّبُ التَّحيزُ في حكمِنا المسبقِ على الأفرادِ بناءً على لونِهم، أو جنسِهم، أو أصولِهم الاجتماعيَّة، بدلًا من تقييمهم بناءً على صفاتِهم الفرديةِ والموضوعيَّةِ.
إنَّ الاعترافَ بالتَّحيزات ليس عمليةً سهلةً؛ فهو يتطلبُ شجاعةً حقيقيةً ووعيًا عميقًا بالنَّفس؛ إذ قد يكونُ من الصَّعبِ على الإنسانِ أن يعترفَ بأنَّ أفعالَه أو آرائَه قد تكونُ مبنيةً على تحيزات لا أساسَ لها من الصِّحة، لكن هذه الشَّجاعةَ هي خطوة ضروريَّة على طريقِ التَّحررِ من التَّحيز؛ والسَّببُ في ذلكَ أننا عندما نتخلَّصُ من التَّحيزات، فإننا نبدأُ في رؤيةِ العَالمِ بوضوحٍ أكبر، ويبدأ التَّحررُ من التَّحيزِ بالاستفسارِ عن دوافعِنا الحقيقية:
لماذا نفضِّل بعضَ الأفكار على الأخرى؟
ولماذا نعتقدُ أنَّ رأينا هو الأكثر صوابًا؟
ومن تحليلِ هذهِ الأسئلةِ بعمقٍ يمكننا تحديدَ مصادر تحيزاتِنا، والعملَ على تصحيحِه.
وقد يتطلَّبُ الأمرُ منَّا إلى جانبِ الشَّجاعةِ أن نبحثَ في معلومات جديدةٍ، ونتعرفَ على وجهات نظرٍ متنوعة، ونكونَ منفتحينَ لتجارب جديدةٍ تضاعف من فهمِنا.
قد يكونُ من الصَّعبِ على بعضِ الأشخاص التَّعاملُ مع فكرةِ التَّحيزات؛ خاصَّةً عندما تكونُ مرتبطةً بهويتهم الشَّخصيَّة، ولكن الأفراد الذين يختارونَ مواجهةَ تحيزاتِهم يكونونَ في النِّهايةِ أقوى على التَّطورِ الشَّخصي؛ لذا، في رحلة البحث عن الحقيقةِ والموضوعيةِ، دعونا نبدأ بالاعتراف بتحيزاتِنا والعملِ على التَّخلصِ منها، ولنكنْ صادقينَ مع أنفسِنا، منصفينَ في تعاملِنا مع الآخرينَ.
- شيَّعني (حرف جر) في القرآن الكريم
كُتِبَ في إحدى المجلات... أنَّ أحدَ علماء السُّنة اعتنقَ المذهب الشِّيعي، فلما سُئلَ عن سببِ تشيعه، قال: لقد شيَّعني حرف جر واحد في القرآنِ الكريمِ!!
فقيل له: وما هو؟
قال: أنا أقرأ القرآنَ كثيرًا، وفي إحدى المرَّات كنت أقرأ سورة الفتح: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) حتَّى وصلت إلى آخر آية من السُّورة: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ...) أي أصحاب النَّبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، لاحظت أنَّ اللهَ (تعالى) قد ذكرَ أصحابَ النَّبي (صلَّى الله عليه وآله) في هذهِ السُّورة ثلاث عشرة مرَّة بصيغة الجمع أو مع ضمائر الجمع، ولكنه (سبحانه وتعالى) حين يتحدَّث عن مسألة الدُّخول إلى الجنَّة، يذكرهم بصيغة التَّبعيض وليس الجمع، فيقول (سبحانه): (وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم)؛ وكلمة (منهم) للتبعيض. فرُحْتُ أستغرقُ في التَّفكير في هذا الأمر، ولماذا لم يشملْهم الخطابُ جميعًا؟
وقلت مع نفسي: يجب أن أحققَ وأدققَ في ذلكَ، فوجدتُ في آخر المطاف أنَّ صيغةَ التَّبعيض هذه تعودُ إلى الأصحابِ أنفسِهم؛ وهكذا صرت شيعيًا... (7).
- لا للتَّعصب
عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ (صلَّى الله عليه وآله): يَا رَسُولَ الله عَلِّمْنِي.
قَالَ (صلى الله عليه وآله): اذْهَبْ ولَا تَغْضَبْ.
فَقَالَ الرَّجُلُ: قَدْ اكْتَفَيْتُ بِذَاكَ فَمَضَى إِلَى أَهْلِه فَإِذَا بَيْنَ قَوْمِه حَرْبٌ قَدْ قَامُوا صُفُوفاً ولَبِسُوا السِّلَاحَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ لَبِسَ سِلَاحَه، ثُمَّ قَامَ مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله): لَا تَغْضَبْ، فَرَمَى السِّلَاحَ ثُمَّ جَاءَ يَمْشِي إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ عَدُوُّ قَوْمِه.
فَقَالَ: يَا هَؤُلَاءِ مَا كَانَتْ لَكُمْ مِنْ جِرَاحَةٍ أَوْ قَتْلٍ أَوْ ضَرْبٍ لَيْسَ فِيه أَثَرٌ فَعَلَيَّ فِي مَالِي أَنَا أُوفِيكُمُوه.
فَقَالَ الْقَوْمُ: فَمَا كَانَ فَهُوَ لَكُمْ، نَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْكُمْ. قَالَ: فَاصْطَلَحَ الْقَوْمُ وذَهَبَ الْغَضَبُ»(8).
رابعًا: خُطورَةُ الأَفْكار المُثبِطَة
الأفكارُ التي تقيِّد المبادرةَ وتثبطُ الهممَ من أبرز المشاكل التي يمكن أن تواجهَ الإنسان في بناءِ عقلهِ وتطويرِ تفكيرِهِ، وهذه الأفكارُ التي قد تبدو وكأنَّها نصائح أو انتقادات من الأصدقاءِ أو المحيطينَ، ولكن يمكن أن تكونَ لها تأثيرات مدمرة على الطُّموحاتِ والأهدافِ الشَّخصيَّة.
والأفكارُ المثبطةُ هي تلك التي تعمل على قتلِ الطُّموحات والأحلامِ، وتبث فيها الإحباطَ بدلًا من الحماسة، وهذه الأفكار غالبًا ما تأتي من مصادر قريبة، مثل الأصدقاء والعائلة؛ الذينَ قد يكون لديهم مواقف سلبيَّة أو مخاوف غير مبررة.
على سبيل المثال: قد يرغب شخص في الزَّواج فيواجه بانتقادات حول التَّكاليف والمصاعب المرتبطة بالزَّواج، وقد يسأله البعض: لماذا يضيِّع وقته في هذا القرار، متجاهلين أنَّ هذا الاختيار جزءٌ من تحقيق أهدافهِ الشَّخصيَّة وبناءِ حياته، وأنَّ الصُّعوبات التي قد يواجهها، يمكن أن تكونَ فرصةً رائعةً للتطور والإبداع إذا تمَّ التَّعاملُ معها بشكل صائب.
إنَّ بعض النَّاس يعتقدون أنَّ الصُّعوبات والعقبات يجب الابتعاد عنها أو الهروب منها، ولكن الحقيقة أنَّ الصُّعوبات هي التي تشكِّل البيئةَ المثاليَّةَ لاكتشاف الإمكانيات والطَّاقات الجديدة؛ فالأوقات الصَّعبة قد تدفعنا للخروجِ من مناطق راحتِنا وتجبرُنا على التَّفكير بطرق مبتكرة لمواجهة التَّحديات، والأمثلة التاريخية تدعم هذه الفكرة؛ وخذْ على سبيلِ المثال: الوباء العالمي؛ المسمى (كورونا)، على الرَّغمِ من المآسي التي أحدثها، أدَّى أيضًا إلى تطويرِ أفكار جديدة وتحديثات في عدَّة مجالات مثل التَّكنولوجيا الطِّبية والابتكارات الرَّقميَّة.
إنَّ الاختلافَ بين المستحيلِ والصَّعبِ نقطة مهمَّة يجب فهمها بوضوح؛ فالمستحيلُ هو ما لا يمكن تحقيقه بسبب الظُّروف الطَّبيعية أو البشريَّة، بينما الصَّعب هو ما يتطلب جهدًا كبيرًا وتفكيرًا إبداعيًا لتجاوزه، يُضاف إلى ذلك أنَّ الهروبَ من المستحيلِ تصرف عقلاني، ولكن الهروب من الصُّعوبات هو ما يستقبحهُ العقلُ؛ إذ الواجب أن نتعاملَ مع الصُّعوبات كفرص للتَّعلم، بدلًا من الحكم عليها بأنَّها عوائق.
تخيَّلْ أنَّك في رحلة عبر غابة كثيفة، وأمامك طريقٌ صعب مليءٌ بالعقبات، لكن كلَّما واجهت تحديًا، اكتشفتَ مناظر جديدة وتعلمتَ مهارات جديدة تساعدك في المضي قُدمًا، وهذا هو بالضبط ما يحدث في حياتكَ، فحينما تواجهك الصِّعابُ فإنَّها تفتحُ لك أبوابًا للسَّعادة، وتضيفُ إلى خبراتِك خبرات أخرى، وتجعلُ إرادتَك أقوى وأصلب.
خامسًا: بَذْلُ الجُهْدِ فِي إِعْدادِ الفِكْرَةِ
بذلُ الجُهدِ في إعدادِ الفكرةِ أمر ضروري؛ فكما نحتاجُ إلى أدوات لتحضيرِ الطَّعام، نحتاجُ أيضًا إلى أدوات لتطويرِ الأفكار؛ فالأفكارُ لا تنشأ من فراغ؛ قد تبدأُ صغيرة وتنمو تدريجيًا حتَّى تصبحَ عظيمة، والأفكار العظيمة لا تصل إلى عظمتها بشكل فوري، بل تمرُّ بمراحل متعددة حتَّى تنضجَ، ولعلَّ أغلب مجالات الحياةِ تحتاجُ لبذل الجهد في نواتها الأولى، وأقصد بها الفكرة؛ فالزَّواجُ على سبيلِ المثالِ يحتاجُ من الرَّجل والمرأة على حدٍّ سواء التَّفكير بعمق قبلَ اتِّخاذِ قرار الزَّواج، والحصول على الوقتِ للتَّفكير فيما إذا كان الشَّخص الآخرُ مناسبًا له أم لا.
إنَّ الفكرةَ مهما كانت بسيطة في بدايتها، تحتاج إلى مراحل من التَّفكير والتَّطوير كي تصبحَ شيئًا ذا قيمة؛ لأنَّ الجهدَ المبذولَ في التَّفكير العميق والتَّحليل هو ما يمنح الفكرةَ أساسًا متينًا يمكن أن يُبنى عليهِ في المستقبل؛ إذ الفكرة في جوهرها بدايةُ كلِّ شيءٍ، وقبل أن يتحققَ أيُّ ابتكار أو إنجاز عظيم، كان هناك دائمًا فكرة خلفه.
من السَّهلِ أن نظنَ أنَّ الأفكارَ تأتي إلينا بشكلٍ طبيعي ومن دون عناء، ولكن في الواقع الأفكار الجيدة تتطلب وقتًا وجهدًا لتطويرها؛ بل لا يمكن أن تولدَ الأفكار من فراغ؛ وإنَّما التَّّعلم، والتَّفاعل مع الآخرينَ يلعبُ دورًا حاسمًا في تطويرِ الفكرةِ، والحالة الغالبة أنَّ الأفكارَ لا تزدهر في العزلة، وإنَّما تحتاج ُإلى بيئة، وهذه البيئة قد تكون فريقَ عمل، أو مجموعةً من الأصدقاءِ، أو حتَّى المجتمع الأكبر، ومن مشاركة الفكرةِ مع الآخرينَ، يمكن للمرءِ أن يحصلَ على ردود فعل قيِّمة يمكن أن تساعدَ في تعديلِ الفكرةِ وتحويلها إلى شيءٍ أعظم.
والنموذج المثالي لهذه العمليَّة يمكن أن نراه في قصة توماس إديسون واختراعه للمصباح الكهربائي، فإديسون لم يصلْ إلى فكرتهِ النِّهائية من المحاولةِ الأولى، بل قامَ بما يقرب من 1000 تجربة قبل أن يصلَ إلى الحلِّ الأمثلِ، وفي كلِّ مرَّة كانت التَّجربةُ تفشلُ، ولكنَّه لم يتركْ الفكرةَ، وبدلًا من ذلك، كان يأخذ الوقت لتقييم ما حدث، والتَّعلم من الأخطاء، ثمَّ تجربة شيءٍ جديد، وهذه العمليةُ من التَّفكير المستمر والصَّبر هي ما جعل فكرتَه تتحول إلى اختراع غيَّرَ العَالمَ.
على الرَّغم من كلِّ هذا، يجب أن نكون على دراية بأنَّ ليس كلُّ فكرة تستحقُّ الجهد المبذول، ومن الضَّروري أن يكون المرءُ قادرًا على تقييمِ فكرتِه بموضوعية، ومعرفة متى يجب الاستمرار في تطويرِها ومتى يجب التَّوقف، ومن هذا الجهد، يمكن تحويل الأفكارِ الصَّغيرة إلى إنجازات عظيمة تشاركُ في التَّغيير.
- المتسامح في الأسعار
كان نفرانِ في بغداد يعملانِ في طرفي الجسر، وكان كلُّ واحدٍ منهما يبيع البيضَ، ولكن أحدهما كان مزدحمًا بالمشترينَ دونَ الآخر.
يقول الرَّاوي: وبعد مدَّة غير قصيرة مررت على الجسر؛ وإذا أرى أحد البائعينَ دونَ الآخر، فسألتُ عن الآخر؟
فقالوا: ترك هذا العمل وذهب إلى السُّوق وأصبح تاجرًا كبيرًا، فتعجَّبتُ من ذلك وذهبت إليه لأسأل عن السَّبب؟
فقال التَّاجر الجديدُ: أنا كنتُ أفهمُ موازينَ العمل وصديقي لم يكنْ يفهم، ولذا لا زال باقيًا على عمله ومستواه السَّابق.
قلت: وكيف؟
قال: كنت أشتري كلَّ يوم عشرينَ صندوقًا من البيض ـ مثلًا ـ ومن اليوم الأوَّل قرَّرتُ أن لا أربح في البيض ولا لشروى نقير(9)، وإنَّما أبيع بالثَّمن الذي أشتريه، لا أزيد، وإنَّما كان ربحي من بيعِ الصُّندوقِ نفسهِ فكنت أشتري كلَّ بيضينِ بفلس وأبيعهما بفلس أيضًا، ثمَّ أبيعُ الصَّناديقَ الفارغةَ بأربعة فلوس، بينما كان صديقي يشتري كلَّ بيضينِ بفلس ويبيعُ ستة بيوض بأربعة فلوس؛ فيربح البيضين والصَّندوق، وحيث عرف النَّاس إني أبيعُ بالأرخص اجتمعوا حولي تدريجًا، بينما خفَّ الازدحام حول صديقي... وبعد عشرِ سنوات جمعت مالًا كثيرًا وتمكنتُ بسببهِ من فتحِ هذا الدُّكان، وأخذتُ أتجرُ شيئًا فشيئًا حتَّى أصبحتُ هكذا... بينما صديقي بقي في محلِّه يبيعُ البيضَ. وهكذا حال كلِّ بائع أرخص من حيث التَّقدم والرُّقي (10).
- إصرار على الحوار
كانَ الحاج كريم خادمًا في صحنِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام) في كربلاء المقدَّسة، يقول: لما كنتُ في سنِّ العشرينَ خادمًا في الحرمِ الشَّريفِ، أتذكرُ ذاتَ ليلة قد أعلنَ المسؤولُ: إنَّ أبوابَ الحرمِ ستغلقُ بعد قليل، فالرَّجاء من الزُّوار مغادرة الحرمِ الحسيني.
في هذا الأثناء رأيت آيةَ الله البهبهاني والعلَّامة الشَّيخ يوسف البحراني المعروف عنهما الاختلاف حولَ بعضِ الآراءِ يتحاوران في موضوع علمي ساخن، فلما سمعا النِّداءَ خرجا إلى الصَّحن، وهما مستمرانِ في الحوار.
وبعد دقائق سمعْتُ المسؤولَ ينادي أيضًا: إنَّ أبوابَ الصَّحن الشَّريف ستغلقُ أيضًا، فالرَّجاء من الزُّوَّار أن يخرجوا.
وأنا كنت أراقبُ العالميْنِ الجليليْنِ؛ السَّيد البهبهاني والشَّيخ البحراني، إذ مشيا حتَّى وقفا خلفَ بابِ القبلةِ من الصَّحن الشَّريف جهة الخارج، وهما مستمرانِ في حوارِهما السَّاخن بكلِّ هدوء واحترام أحدهما الآخر.
ذهبْتُ إلى البيتِ حيث كانَ الوقتُ منتصفَ الليلِ، نمْتُ قليلًا ثم رجعْتُ قرب الصبح لأفتحَ بابَ الصَّحن، فوجدتهما لا زالا واقفينِ يتباحثان، ولقد انبهرت بهما وتعجَّبت من قدرتِهما على هذا البحثِ والحوارِ الطَّويل.
ثمَّ عندَ الفجر... توادعا وافترقا، فذهبَ الشَّيخ يوسف البحراني ليؤمَّ صلاةَ جماعته، حيث كان ملتزمًا بها كلَّ صباح، وذهبَ السَّيد البهبهاني يفترشُ عباءتَه على الأرض فصلَّى ثمَّ ذهبَ إلى بيتِهِ (11).
وأخيرًا، يظهر أنَّ التفكير الإبداعي لا يتوقف عند مجرَّد امتلاك أفكار جديدة، بل يتطلَّب توازنًا دقيقًا بين مختلف العوامل النفسيَّة والعقليَّة؛ من طريق التَّوازن بين العقل والعاطفة، والمرونة الفكريَّة، والتَّحرر من التَّحيز، يمكن للفرد أن يتجاوز القيود التقليديَّة التي تحدُّ من قدرته على التفكير خارج الصندوق، وكذلك فإنَّ الوقاية من الأفكار المثبطة، والإصرار على بذل الجهد في إعداد الفكرة تشارك بشكلٍ مباشر في تعميق التَّفكير الإبداعي ورفع مستوى الابتكار، وإذا تمَّ تبني هذه الأسس الخمسة بشكل واعٍ بالإضافة إلى الأسس السابقة، فإنَّها ستمنح الأفراد الأدوات اللازمة لتحقيق التفوق في مختلف مجالات حياتهم المهنيَّة والشخصيَّة.
اضف تعليق