السحر قد شاع في أرض بابل، وأدَّى إلى إحداث ضرر وإزعاج للناس؛ فاستجابة لذلك، بعث الله ملكين هما هاروت وماروت، وأمرهما بتعليم الناس طريقة إحباط مفعول السحر، حتَّى يتمكَّنوا من التَّخلص من شرِّ السحرة، وعلى الرغم من ذلك، حذّر الله الناس من تعلُّم السحر لئلا يستخدموه فيما يضرُّهم...

لطالما أثارت قصَّة هاروت وماروت تساؤلات عديدة حول طبيعة الملائكة وعصمتهم، خاصَّة في سياق ما ورد في القرآن الكريم بشأن تعليمهما للنَّاس السِّحر في بابل، وهذه القصَّة تطرح إشكاليَّات فقهيَّة وكلاميَّة عميقة حول مفهوم الفتنة، وطبيعة الابتلاء الإلهي، وعلاقة الملائكة بالعلم والمعرفة، وسنحاول في هذا المقال تسليط الضوء على حقيقة هاروت وماروت، وفهم موقعهما ضمن الإطار العقائديّ الإسلاميّ، مع توضيح دلالة النصوص القرآنيَّة على عصمة الملائك؛ وسنجعل المحور قوله (تبارك تعالى): (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)(1).

الملائكة موجودات أكرمها الله (سبحانه)، وجعلها وسائط بينه وبين مخلوقاته، امتازوا بعدد من الصِّفات؛ وأهمُّ هذه الصفات صفة العصمة؛ إذ لا يعصون الله (عزَّ وجلَّ) أبدًا؛ وقد أُقيم على هذه المسألة أدلَّة وبراهين كثيرة تؤكِّد عصمتهم؛ ومن أبرز هذه الأدلَّة: 

الدليل الأوَّل: قول الله (جلَّ جلاله): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (2)؛ إذ يصف الله (تعالى) الملائكة بأنَّهم في قمَّة الطَّاعة والانقياد التَّام لإرادة الله (تعالى)؛ وكذلك تتَّضح من الآية حقائق عدَّة، منها:

1. إنَّ الملائكة مخلوقات لا تخالف أمر الله (تعالى)؛ فهم مفطورون على الطَّاعة الكاملة، ولا يعصونه في أمرٍ قط، وهذا نفيٌ مطلق لأي إمكانيَّة للعصيان، مما يدلُّ على أنَّهم معصومون من الذُّنوب والمعاصي.

2. تؤكِّد الآية إنَّ الملائكة لا يقتصرون فقط على عدم العصيان؛ بل إنَّهم ينفِّذون أوامر الله (تبارك وتعالى) بكلِّ دقَّة وصرامة، وهذا دليل آخر على عصمتهم من أيِّ تقصير أو مخالفة.

3. لا يعرف الملائكة الموكَّلون بالنَّار اللين مع أهل العذاب، فهم غلاظٌ شدادٌ في تنفيذ العقاب الإلهيّ، مما يشير إلى انضباطهم التَّام، واستحالة انحرافهم عن مهامِّهم التي كلَّفهم الله (سبحانه) بها.

 الدليل الثَّاني: قوله (تعالى):(وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) (3).

هذه الآية المباركة تسلِّط الضوء على مقام الملائكة في طاعة الله (تعالى) وتسبيحه، وتؤكِّد على عصمتهم من أيِّ تقصير أو استكبار عن عبادة الله (عزَّ وجلَّ)؛ ويمكن استنباط ذلك من عدَّة أوجه:

1. تقول الآية: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ)؛ أي أنَّهم لا يرفضون أو يتعاظمون عن عبادة الله (تعالى)، بخلاف الشَّياطين الذين استكبروا عن السُّجود لصفوة الله آدم (عليه السلام)، وهذا دليل على خضوعهم المطلق لله (تعالى)، مما يتنافى مع إمكانيَّة العصيان أو التَّمرد.

2. تعبِّر الآية بقولها: (وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ)؛ أي أنَّهم لا يصيبهم ملل أو تعب أو فتور في العبادة، وهذا يشير إلى أنَّهم مخلوقات ذات طبيعة تختلف عن البشر، فهم معصومون من أي ضعف قد يمنعهم من القيام بواجباتهم العباديَّة.

3. تؤكِّد الآية: (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)؛ أي أنَّهم في تسبيح دائم، لا يكلُّون ولا يملُّون؛ إنَّهم جنود الله (تعالى) المخلصون الذينَ لا يشوب إخلاصهم أي نقص، ولا يعترض طاعتهم أي تردُّد، ولو كان لديهم أيَّ قابليَّة للغفلة أو المعصيَّة، لما كانوا في عبادة دائمة غير منقطعة.

الدليل الثالث: يصف الله (سبحانه) الملائكة فيقول: (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (4).

هذه الآية كذلكَ تؤكِّد طبيعة الملائكة بوصفها كائنات مطيعة لله (عزَّ وجلَّ)، وتسلِّط الضوء على جانبين رئيسيين من عصمتهم:

1. الخوف من الله: (جلَّ جلاله)؛ إذ تبيِّن الآية أنَّ الملائكة يعيشون في حالة دائمة من الخشيَّة والخضوع أمام عظمة الله (تعالى)، وخوفهم ليس مثل خوف البشر من العذاب بسبب الذَّنب؛ بل هو خوف إجلال وتعظيم، مما يدلُّ على استحالة عصيانهم لأمر الله (سبحانه).

2. الطاعة المطلقة؛ فقوله (تعالى): (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)؛ دليل قاطع على امتثالهم التَّام لكلِّ ما يأمرهم به الله (سبحانه) من دون تردد أو مخالفة، وهذه الطاعة المطلقة تدلُّ على عصمتهم من المعصيَّة، فهم لا يملكون خيار التقصير في تنفيذ الأوامر الإلهيَّة؛ وهذا الخوف الإلهيُّ الذي يملأ كيانهم يعزِّز انقيادهم الكامل، فلا مجال للخطأ في طبيعتهم.

وبمعنى آخر: هذه الآية تضيف بُعدًا آخر لفهم عصمة الملائكة، إذ تبيِّن أنَّ طاعتهم نابعة من خوفهم العميق من الله (سبحانه)، وهو خوف تعظيم وإجلال يدفعهم إلى تنفيذ أوامره (سبحانه) من دون أدنى انحراف، وهذا يؤكِّد أنَّهم مخلوقات مفطورة على الطَّاعة المطلقة، ولا يملكون خيار العصيان؛ عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «.... ملائكةٌ خَلَقتَهُم وأسكَنتَهُم سَماواتِكَ، فلَيس فيهِم فَترَةٌ، ولا عِندَهُم غَفلَةٌ، ولا فيهِم مَعصيَةٌ، هُم أعلَمُ خَلقِكَ بكَ، وأخوَفُ خَلقِكَ مِنكَ، وأقرَبُ خَلقِكَ إلَيكَ، وأعمَلُهُم بطاعَتِكَ، لا يَغشاهُم نَومُ العُيونِ، ولا سَهوُ العُقولِ، ولا فَترَةُ الأبدانِ، لم يَسكُنوا الأصْلابَ، ولَم تَتَضَمّنْهُمُ الأرْحامُ، ولَم تَخلُقْهُم مِن ماءٍ مَهينٍ، أنشأتَهُم إنشاءً فأسكَنتَهُم سَماواتِكَ» (5).

وعنه (عليه السلام): «ولَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وعَلَيْه مَلَكٌ سَاجِدٌ أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً، وتَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً» (6).

وقال العلَّامة المجلسيُّ (رحمه الله): «اعلم أنَّه أجمعت الفرقة المحقَّة وأكثر المخالفين على عصمة الملائكة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) من صغائر الذُّنوب وكبائرها» (7).

وقد اعترض البعض بعدم عصمتهم لقوله (تعالى): (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (8). 

فقالوا: إنَّ هذا اعتراض على الله (سبحانه)، وأنَّه من أعظم الذنوب!

وقد أجيب عن هذا الاعتراض: إنَّ هذا لم يكن هو الإنكار، وإنَّما قصدت الملائكة أمور عدَّة منها:

1. يحدث الاستفهام عن موضوع مجهول الحكمة عندما يظهر فعل أو يحدث أمر لا تتَّضح علَّته أو مغزاه، مما يدفع إلى التَّساؤل طلبًا للفهم والتَّوضيح؛ وهذه الحالة تعكس سعيًّا طبيعيًّا وراء المعرفة والتَّفسير، خاصَّة عند مواجهة ظواهر تبدو غير مألوفة أو تتجاوز حدود الإدراك المباشر؛ فالاستفهام لا يقتصر على مجرد البحث عن إجابة، بل يمثِّل وسيلة لاكتشاف المعاني العميقة والكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث، مما يسهم في توسيع الفهم وتعميق الإدراك.

وعندما نتأمَّل في قول الملائكة: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) نجد أنَّ هذا الاستفهام جاء في سياق تعجّبهم وسعيهم لفهم الحكمة الإلهيَّة، وليس اعتراضًا لأمر الله (تعالى)؛ فالملائكة معصومون من الذنب والخطأ، ولا يمكن أن يعترضوا على مشيئة الله (سبحانه)، وإنَّما كان سؤالهم تعبيرًا عن رغبتهم في إدراك البعد العميق لهذا القرار الإلهيّ، بناءً على علمهم السَّابق بالمخلوقات التي وجدت قبل الإنسان في الأرض.

وهذا ينسجم مع طبيعة الاستفهام الذي ينشأ عند مواجهة أمر يبدو غير مألوف أو غير منسجم مع التصورات السَّابقة، حيث يكون الهدف منه هو الكشف عن الحكمة وليس التشكيك فيها؛ فجاء ردُّ الله (تعالى) عليهم ليبيِّن لهم أن علمه أوسع من إدراكهم (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، ممَّا يدلُّ على أن الاستفهام قد يكون وسيلة للتعلم والتعمق في الفهم من دون أن يتنافى ذلك مع الطاعة المطلقة والعصمة.

2. المبالغة في تعظيم الله (سبحانه وتعالى) تظهر من خلال إخلاص العبد لشدَّة حبِّه لله (تبارك وتعالى)؛ إذ يصبح لديه نفور شديد من أي شخص يعصي الله (سبحانه)، وهذا النُّفور ينبع من حرصه العميق على رضا الله (تعالى) ورغبته في أن يكون الجميع في طاعته، فيكره أن يرى أيَّ عبد يتوجَّه بعيدًا عما يرضي الله (تعالى)؛ لأن ذلك يتنافى مع تعظيمه الكامل لخالقه (سبحانه) ورؤيته له في أعلى درجات الكبرياء والقداسة.

3. «كأن الملائكة طلبت من الله (سبحانه وتعالى) أن يجعل لهم قسمًا من الأرض إن كان في ذلك صلاح للعباد ورفعة لأمورهم، وهذا الطلب يعكس شدَّة حرصهم على تحقيق الخير والصلاح للبشر، وتعاونهم في خدمة إرادة الله (تعالى) بما يعود بالنفع على خلقه، وهو دليل على عظمة مكانتهم وذوبانهم في خدمة الله (سبحانه) وتوجيه الخير حيثما أمكن...» (9).

4. لأجل بيان الآية أكثر نورد تفسيرها: "(قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا)؛ أي في الأرض (مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) وهذا استفهام حقيقي يريدون بذلك استيضاح السبب، ولعلَّهم إنَّما علموا بذلك لما كانوا يدرون من كدرة الأرض وثقلها الموجبة للفساد والتكدر، أو لما رأوا من فعل بني الجان سابقًا (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) ففيها الكفاية، وليس هذا تزكيَّة؛ بل كقول العبد المطيع لمولاه: إنِّي أقوم بخدمتك فلماذا تأتي بغيري الذي لا يقوم بالواجب؛ ومعنى التَّسبيح التَّنزيه، وكأن المراد من التسبيح بحمده التنزيه المقترن بالحمد مقابل التنزيه غير المقترن به كتنزيه الجوهرة الثمينة عن النقائص؛ لكن التنزيه فيها لا يقترن بالحمد؛ إذ ليس ذلك باختيارها بخلافه (تعالى) المقترن أفعاله وأعماله بالإرادة (وَنُقَدِّسُ لَكَ)؛ أي تقديسنا وتنزيهنا لأجلك لا يشوبه رياء وسمعة (قَالَ) الله (تعالى) في جواب الملائكة السائلين عن السبب (إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فإنَّ في استخلاف البشر مصالح أهم من الفساد الواقع منهم كما أن استخلافهم أهمُّ من استخلافكم؛ فإنَّ منهم من الأخيار والصَّالحين من لا يلحقه الملك المقرَّب، بالإضافة إلى أَنَّه خلق يظهر من عظمة الصانع نوعاً جديداً (10)، «فالسؤال من الملائكة إنَّما كان للاستفسار لا للاعتراض» (11).

 وأمَّا بشأن الروايات الواردة التي تبيِّن عدم عصمة الملائكة؛ فهناك منْ عدَّها من الروايات المتشابهة والتي نرجع فيها إلى الروايات المحكمة لحلِّها، أو أنَّها قيلت في حالة التَّقيَّة، أو أنَّها بطون للآيات الكريمة ولا يفقهها إلَّا المعصوم (صلوات الله عليه)؛ وبالجملة فانَّ كل ما يخلُّ بأصل العصمة بالنسبة للأنبياء أو الأئمة أو الملائكة (عليهم السلام) لا بدَّ من تأويله أو الوقوف عنده أو إرجاعه إلى الآيات المحكمة وكلام المعصوم (صلوات الله عليه).

المعنى الموضوعيُّ لعصمة الملائكة:

 وزيادة للفائدة أورد لك هذا الكلام اللطيف الذي يثبت عصمتهم بطريقة أخرى: «والعصمة بالنسبة للملائكة تكتسب معنى إضافيّاً انطلاقاً من كون الملائكة رسل ومدبِّرة للكون، ولو جاز لها العصيان، فإنَّ نظام الوجود سيختلُّ، وبما إنَّها كثيرة فإنَّنا سنرى تعدُّد الاضطرابات بالكون؛ إذ أنَّ كلَّ فرد أو جماعة من الملائكة سيكون لها رغبة وإرادة تختلف عن غيرها.

 وعلى مستوى حياة الإنسان فإنَّ الملائكة إذا كانت تعصي فإنَّها تغيِّر الرسالات، وبالتَّالي فإنَّ وجهة مسار المجتمعات الإنسانيَّة ستتغيَّر كليًّا؛ إذ كلُّ رسالة ستتغيَّر، وفي النتيجة فإنَّ المجتمع الذي يتبنَّاها سيسير باتِّجاهات غير تلك التي أمر بها الله (تبارك وتعالى). وهكذا، فإنَّ أهمَّ معلمينِ من معالم الوجود هما: الوجود الطبيعيُّ، والوجود الإنسانيُّ اللذانِ يقعانِ تحت سلطة وإشراف الملائكة سيتَّبعان مسارًا خاصّاً، وهو قطعاً غير سليم...» (12).

توضيحات حول تفسير الآية المباركة:

1. خلاصة قصَّة الملكينِ هاروت وماروت هي: إنَّ السحر قد شاع في أرض بابل، وأدَّى إلى إحداث ضرر وإزعاج للناس؛ فاستجابة لذلك، بعث الله (سبحانه وتعالى) ملكين هما هاروت وماروت، وأمرهما بتعليم الناس طريقة إحباط مفعول السحر، حتَّى يتمكَّنوا من التَّخلص من شرِّ السحرة، وعلى الرغم من ذلك، حذّر الله (تعالى) الناس من تعلُّم السحر لئلا يستخدموه فيما يضرُّهم أو يضر الآخرين، حيث كان ذلك اختباراً من الله (سبحانه) لهم (13).

2. علَّم الملكان الناس أصول السحر؛ وكان السبب في ذلك هو أنَّ تعليمهم لهذه الأصول كان مقدِّمة لتعليمهم كيفيَّة إحباط السحر وطرقه، بحيث يتمكَّنون من التَّخلص من آثاره وأضراره، ولم يكن الهدف من تعليم السحر هو إباحته أو تشجيع استخدامه؛ بل كان ذلك جزءاً من تعليم كيفيَّة مواجهته ودرء ضرره؛ إذ كانوا يحذِّرون الناس من التَّورط في استخدامه، ليكون ذلك بمثابة تحذير ووسيلة للوقاية (14).

3. استغلَّ بعض الناس تعلُّم السحر، وانخرطوا في زمرة السحرة، متجاوزين التحذيرات التي وُجِّهت لهم، واستخدموا ما تعلَّموه في إيذاء الآخرين وارتكاب المحرَّمات، وهذا السلوك مخالف للغرض الأصلي من تعليم السحر، الذي كان الهدف منه فقط محاربة السحر وإبطال مفعوله؛ فهؤلاء الأشخاص أساءوا استخدام العلم الذي تعلَّموه، مما أدَّى إلى تفشي الشرِّ والفساد في المجتمع.

4. أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته (15)، واستعمل في الاختبار والابتلاء (16)؛ فكأن الملكين قالا: نحن محلُّ ابتلاء واختبار في كيفيَّة استغلال ما تتعلمونه في خيرٍ أم شرٍّ.

5. السحر على معانٍ:

المعنى الأوَّل: الخداع والتَّخيلات التي لا أساس لها من الحقيقة؛ بل يتلاعب العقل بأوهام وأفكار مغلوطة تجعل الشخص يعتقد في شيءٍ غير واقعي. 

ب ـ استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التَّقرب إليه.

جـ ـ اسم لفعل يزعمون أنَّه من قوَّته يغير الصور والطبائع (17).

6ـ نزَّه القرآن الكريم النبيَّ سليمان (عليه السلام) عن أيِّ علاقة بالسحر أو ما يتعلَّق به؛ وإنَّما بيّن بوضوح أنَّ سليمان (عليه السلام) لم يستخدم السحر في حكمه؛ بل كان نبيّاً صالحاً يحكم بالعدل، ومن جانب آخر، فإنَّ الشياطين هم من قاموا بنشر هذه التُّهمة الباطلة، محاولة منهم تشويه صورة النبي سليمان (عليه السلام) والتشويش على رسالته، في حين أن الله (سبحانه وتعالى) برّأه من هذا الافتراء.

7ـ أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع من السحر: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)؛ لأنَّه من أبشع أنواع السحر وأكثرها ضرراً، حيث يهدف إلى تدمير روابط الأسرة وزعزعة استقرارها، والتفريق بين الزوجين وتعميق الخلافات، ممَّا يسبِّب في النهاية الضياع والخراب للأسرة والمجتمع ككل.

8ـ تعليم الملكين الناس السحر أشبه ما يكون عندما يكتب العلماء في ردِّ الشبهات، فيذكرون الشبهة أوَّلاً ثمَّ يكتبون الجواب عنها، ولعلَّ من في قلبه مرض يأخذ الشبهة، ويترك الجواب، ثمَّ ينشرها بين الناس (18).

شبهة ورد:

 وأما الروايات التي تقول: إنَّ هاروت وماروت ملكان كانا يستنكران على البشر قيامهم بالمعاصي فأهبطهما الله (سبحانه) إلى الأرض، وركَّب فيهم طبائع الإنسان كالشهوة والحرص وغيرها فافتتنا بامرأة، وقتلا، وشربا الخمر، وزنيا فمسخت المرأة إلى كوكب الزهرة، وبقيا هما مسجونان في الهواء إلى يوم القيامة معذبين (19)؛ فقد أجاب الأئمة (عليهم السلام) عن هذه الشبهة بأمرين: 

الأمر الأوَّل: إنَّهم قالوا بعصمة الملائكة، ولمَّا سألوا الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عن هذه القصّة قال: «معَاذ الله من ذلكَ أنَّ الملائكةَ معصُومونَ من الخطأ، محفوظونَ من الكفر، والقبائح بألطافِ اللهِ تعالى...» (20)، واستدلَّ (عليه السلام) بالآيات التي تثبت عصمة الملائكة.

 الأمر الثَّاني: المسخ نوعٌ من أنواع التحقير والتوهين؛ فكيف بمسخ أعداء الله (سبحانه) أنوار!؟ 

 عن الإمام الرضا (عليه السلام): «... وما كانَ اللهُ ليمسخَ أعداءَهُ أنواراً مضيئة، ثمَّ يبقيهما ما بقيت السَّماء والأرض، وإنَّ المسوخَ لم تبقَ أكثر من ثلاثة أيَّام حتَّى ماتت، وما تناسلَ منها شيءٌ، وما على وجهِ الأرضِ اليومَ مسخ...» (21). 

إنَّ التَّأمل في قصَّة هاروت وماروت يفتح آفاقًا جديدة لفهم دور الابتلاء في الحكمة الإلهيَّة، ويؤكِّد أنَّ العصمة صفة ملازمة للملائكة، ولا تتنافى مع الابتلاءات التي قد تكون اختبارًا للإنسان، لا لهم؛ فالملائكة، كما تؤكِّد الآيات، ليسوا سوى أدوات لتنفيذ المشيئة الإلهيَّة، لا يخرجون عن طاعته طرفة عين؛ وعليه، فإنَّ الاستفسار الذي ورد عنهم في قصَّة خلق الإنسان لم يكن اعتراضًا، وإنَّما كان طلبًا للمعرفة، مما يرسِّخ مفهوم العصمة لديهم من دون أيِّ تناقض مع النُّصوص القرآنيَّة.

............................................

الهوامش:

1. سورة البقرة/ الآية:102.

2. سورة التحريم/ الآية: 6.

3. سورة الأنبياء/ الآيتان: 19-20.

4. سورة النحل/ الآيتان: 49- 50.

5. تفسير القمي: ج2، ص207.

6. نهج البلاغة: الخطبة /91.

7. مستدرك سفينة البحار: ص255.

8. سورة البقرة/ الآية: 30.

9. للمزيد ينظر: كتاب عصمة الأنبياء (عليهم السلام): ص10-15.

10. تقريب القرآن إلى الأذهان: ج1، ص 119؛ وينظر: التفكُّر في القرآن: ص76.

11. ينظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج1، ص 107.

12. الملائكة أطوارها ومهامها التدبيريَّة: ص163-164.

13. ينظر: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ج1، ص 210.

14. ينظر: المصدر نفسه.

15. مفردات ألفاظ القرآن: ص623.

16. ينظر: المصدر نفسه: ص623.

17. ينظر: المصدر نفسه: ص 400ـ 401.

18. ينظر: التفكُّر في القرآن: ص303.

19. ينظر: تفسير الصافي: ج1، ص173.

20. البرهان في تفسير القرآن: ج1، ص296-297. 

21. المصدر نفسه: ج1، ص298.

اضف تعليق