من الانحرافات التي تضع المجتمع بين فكَّي كماشة، الاستكبار والعناد إلى سقوط المجتمعات بيد الاستعمار بسبب تسلط الاستكبار والعناد عليهم أو على من بيده زمام أمورهم، وهاتان الميزتان تحرمان مكتنفهما عن سماع صوت الحق؛ هذا إذا ما وقف ندَّا للحق، وكثيراً ما ينقلب المستكبر والمعاند على المبادئ والقيم...

رسم الله سبحانه وتعالى منذ أن بدأ الخليقة طريقين وأعطى الإنسان حريَّة الاختيار وقال سبحانه: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)الإنسان3، وكذلك جاء في قوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)البلد10، ولم يجبر الإنسان على سبيل؛ لذا جعل تعالى الجوهرة التي وضعها في اللإنسان وسلبها من غيره من المخلوقات وصار به يُثيب وبه يعاقب؛ هو الحاكم والمدبِّر والمختار لسبيل من السبيلين، ولو كان مجبراً على اتخاذ أحد الطرق لما كانت لله حجة عليه.

 وقد سُئل الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) عن ذلك فقال: "لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين"، فكان الإنسان يتحرك بحرية في اختيار نجده الذي يُريد، وبسبب الكبت النفسي والتسلط الهمجي والقتل وسلب الحقوق والتعدي على الحرمات؛ انحرف الناس نحو الإلتوائية بحثاً عن الخلاص من جهة أو بحثاً عن الاستقرار والراحة من جهة أخرى.

أسباب الانحرافات المجتمعية

 ظهرت بعض الانحرافات المجتمعية التي تحاكي النفس الإنسانية واتجهت الأنظار الساذجة إليها لأسباب عدَّة منها: 

1- الجهل المركب أو البسيط: تتسع هوَّة الجهل في المجتمعات وتنشب أظفارها في هشاشتها حتى يستولي على البلاد والعباد، فتُستلب الأرض ومن بعدها يُستلب كل شيء حتى الأرواح، وأعظم الجهل هو الجهل بالخالق وبالمبادئ لأنَّ ذلك يأخذ بيد الناس إلى مهاوي الردى، وبعدها لا يُسمع لهم حسيساً ولا نجوى، ولعلَّ الجهل من أكبر آفات الانحراف في المجتمع.

 والجهل المركب: وهو الرجل لا يعلم وهو يعلم أنَّه لا يعلم ويعمل بجهله.

أما الجهل البسيط: فهو أن الرجل لا يعلم وهو لا يعلم أنَّه لا يعلم، وكلا الصنفين يؤديان إلى فلِّ عضد التماسك والقوَّة في المجتمع.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم فاسألوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك جاهل فارفضوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك نائم فأنبهوه).

2- والسبب الآخر الاستكبار والعناد: هذا الأمر من الانحرافات التي تضع المجتمع بين فكَّي كماشة، ودائماً ما يؤدي الاستكبار والعناد إلى سقوط المجتمعات بيد الاستعمار بسبب تسلط الاستكبار والعناد عليهم أو على من بيده زمام أمورهم، وهاتان الميزتان تحرمان مكتنفهما عن سماع صوت الحق؛ هذا إذا ما وقف ندَّا للحق، وكثيراً ما ينقلب المستكبر والمعاند على المبادئ والقيم. 

3- وكذلك لكيد الشيطان واستعماله للقوَّة الناعمة في استجلاب الناس واستدعائهم أثر كبير، نجد أنَّ هذه المكائد استعملها الشيطان في القرآن الكريم بطريقة القوَّة الناعمة لجذب الإنسان إلى مصائده، حتى أنَّ القرآن الكريم حذَّر الإنسانَ من هذه المكائد وبيَّن أساليبها وكأنَّها أفعى؛ ملمسها ناعم وسمّها قاتل، وقد أشار القرآن الكريم إلى طرق ردِّها وكيفية مواجهتها.

4- بالإضافة إلى الشهوات واتباع الهوى: انماز الإنسان عن غيره من المخلوقات بامتلاكه قوَّتين لم يضع الله تعالى في خلقه ازدواجهما وملَّكها الإنسان وهما (العقل والغريزة)، وهذان القائدان على صراع دائم من الخلق إلى الحق، فالشهوات سلاح الغرائز الإنسانية وكبح جماحها يؤدي إلى المثالية وخلافه يؤدي على الانحراف.

5- وكذلك التأثر بالبيئة الاجتماعية؛ التي تغرس في الإنسان مفاهيمها وتمتلك منه شعوره؛ وإذا ما خضع لها فسوف يصبح منصاعاً لترسباتها وتحركه بحسب ما امتلكه منها، فالإنسان يتأثر ببيئته الحاضنة تأثراً سلبياً أو إيجابياً بحسب ما يبثُّه المجتمع له.

وهذه الانحرافات المجتمعية إذا ما تفشَّت في المجتمع فسوف يدخل في معترك الصراع البيني أو مع الخارج، وقد جُبل الإنسان على مقت هذه الانحرافات بفطرته إلّا أنَّه يضطر إلى ركوب موجاتها أو الغطس فيها، تارة يكون تبعاً لمصلحة ما، وتارة يكون مجبراً بالغوص في مستنقعها.

6- أضف إلى ما ذكرنا: الآن رياح شبكات التواصل الاجتماعي تعصف بالمجتمع، فصار الإنسان كسفينة أخذها الموج من الساحل وقذفها في لهوات التيارات الشديدة، فإن كان رُبَّانُها ماهراً؛ فسوف يكافح ويُوصلها إلى مرفئ الأمان، وإن كان لا يُجيد القيادة فستهوي به إلى مكانٍ سحيق.

كثير من المجتمع الآن أدمن التواصل في المواقع ولم يشعر أنها (مو واقع) فيُسلم لها وقته وفكره وجوارحه حتى يُصاب بالعزلة المزمنة، فهذه الأسباب وغيرها أدت إلى انحرافات المجتمع وإبعاده عن الصواب.

مناشئ الضلال والانحرافات الأخرى

بعد تشرب الأسباب في المجتمع والأخذ بيده إلى دهاليز مظلمة؛ يصبح الإنسان في غرقه يبحث عن قشَّة يتشبَّث بها لعلَّها تكون سبباً في خلاصه، ومن ذلك يسعى للبحث عن مخلِّصات وهمية منها:

1-الاستخارة: كانت الاستخارة في زمن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) للضرورات، وهي محكومة بقوله تعالى: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ )آل عمران159، فهي للطوارئ وتنتفي حاجتها مع العزم والإقبال على الفعل، إلَّا أنَّ المجتمع يستعمل الاستخارة بإفراط وكأنَّها المنجي والمخلِّص، يقول السيد مرتضى الشيرازي في ذلك: "إنَّ بعض الضُّلَّال ذهب إلى أنَّ الطريق إلى معرفة الحق من الباطل؛ واستكشاف الحق والهدى، هو الاستخارة!!"، فالتشبُّث بها يُنشئ انحرافاً في المجتمع يؤدي إلى التخلُّف والركود والراديكالية في كلِّ شيء.

2-الأحلام: يعلِّقُ بعض الناس آمالهم في أضغاث أحلامٍ يراها فيهم غيرهم، وهذا ما يُؤثر على سير أعمالهم، معتقدينَ أنَّها من أهم الأمور التي يستند إليها المذهب أو المعتقد، فيتخذها حجَّة وصار يسير خلفها سير القطيع خلف راعيها، وهذا من الأمور الخطرة في انحراف المجتمعات، ولعلَّها تكونُ سبباً في اضمحلال العقل عند الاعتقاد بها.

3-قراءة الطالع: يذهب الضعفاء من الناس إلى أصحاب قراءة المستقبل أو ما يُسمَّى بقارئ الطالع ليرى له مستقبله وما يُخفيه دهره، وهو كله ثقة بأنَّ قارئ الطالع صادقٌ، ولم تكن هذه الصفة وليدة الحاضر؛ وإنَّما يضرب وجودها في تخوم الأزمان الغابرة ولكنَّها بمصطلحات أخرى كالكهانة.

4-السحر: يدَّعي بعض ضعاف النفوس أنهم يقدِّمون للناس حياة أفضل بوساطة السحر، وما بأيدي الفقراء إلا تسليم رقابهم بيد هؤلاء الذين لا تأخذهم في دين الله إلَّاً ولا ذمَّة، فيمتصون أموالهم كما تمتص الحشرة الدم، نعم أنَّ السحر أشار إليه القرآن الكريم ولكنه محكوم بقوله تعالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )التوبة51.

5-المخادعة: تكثر هذه الصفة في المضاربات والمعاملات بين الناس، ويستعين البائع بالكذب أو تغطية السلعة بغشاء الخداع ليكسب بها ثمناً معيَّناً، وهذا متفشٍ في المجتمعات الأرضية ولا ينحصر في مجتمع دون آخر، وقد تعدت المجتمعات والمؤسسات إلى المخادعات الدولية والصفقات الكبرى وما ينعقد تحت الطاولة على حساب الشعوب. 

 هذه وغيرها من المناشئ التي تفشَّت في المجتمع على مدى عصور واستفحلت في الخلود والتجدد والحدوث والاستمرار، وكأنَّها سر من أسرار الشيطان لا تنتهي إلا معه، والسبب الرئيس الذي أدَّى بالناس التشبث بهذه الانحرافات؛ هو اعتقادهم أنَّها من الدين وأنَّها حجَّة من حجج المعتقد والاعتصام بها اعتصام بالدين، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، هروب الناس من واقعهم المرير الذي عاشوه ويعيشونه من جوع وحرمان وكبت وتضييق الحريات وحصر الرفاهية في فئة دون أخرى وعدم توزيع الثروة على أبناء المجتمع بشيء من المساواة والشعور بالدونية المقيتة؛ سعى الناس إلى هذه المناشئ لغرض تغيير واقعهم الحياتي، فيُحدث ذلك رؤية ضبابية تحجب عن الناس نور الطريق السوي فيكون الإنسان في وقتئذٍ كحاطب ليلٍ يجني الغث والسمين ويعتلق بأي خيطٍ للنجاة.

المعالجات

 يحتاج المجتمع إلى مجموعة من المعالجات للخروج من عنق زجاجة الانحراف، فالخروج من فوهتها يحتاج إلى عمل كبير وإصرار وصبر بالإضافة إلى:

1- العلم: لا تجد عالماً قد انطلت عليه الانحرافات المذكورة، لأنَّه ذو بصر وبصيرة حاذقة ينظر إلى الأمور من مكان مرتفع فيراها ويرى ما يدور حولها وما يخرج من خلالها وما هي العاقبة التي تؤول إليها هذه الانحرافات، فالاستعانة بالعلم أفضل وسيلة للخروج من هذا المأزق.

2- الرجوع إلى الله تعالى: وضع الله تعالى مجموعة من المضادّات الحيوية للإنسان يتدرع بها أمام الانحرافات وثبتها في كتابه العزيز وأشار إلى رسوله الاكرم (صلى الله عليه وآله) بأن نتخذه أسوة حسنة، وأن نأخذ ما يأتينا ونسلِّم له تسليماً، لأنَّه لا يرمينا في باطل ولا يحرفنا عن حق وهو خير دليل في الليل إذا عسعس.

3- ملء الفراغ الفكري بالمطالعة النافعة والبحث عن التطور وماهيَّته ومواكبته بالتي هي أفضل.

4- العمل على إنشاء مراكز بحثية متخصصة في العلوم وشؤون الأديان والمذاهب والفرق لمواجهة التطرف والبدع، فتكون مهمتها دراسة الحركة البدعية لهذه الفرق ووضع اليد على انحرافاتها.

5- مواكبة التطور في الشبكات التواصلية أو ما يُسمَّى في الوقت الحالي (الذكاء الاصطناعي) فيجب العمل عليه وتسخيره لخدمة الإنسان واستعماله بما هو أصلح.

6- تحتاج المسيرة العلاجية إلى دعم المؤسسات المدنية والدعم الحكومي بتغذيتها والاحتفاء بها وبالعاملين عليها.

7- انشاء شبكة فكرية للنقد البنَّاء، تأخذ على عاتقها تشخيص الأخطاء والانحرافات الطارئة والعمل على معالجتها.

8- "يتوجب على قادة الفكر والمتصدين للمسؤولية المجتمعية والشرعية، والمكلفين عموماً، أن يكونوا أشداء صارمين مع من يُدخل في الدين ما ليس منه، ويختلق حججاً لم يدل عليها الشارع الأقدس، ولا العقلاء، ويدعي مقامات غيبية، كالسفارة ونظائرها، وأن يجهروا بأنَّه كاذب مبطل ومضلل، وبعدم السماح له منعه من العبث بدين الله".

9- العمل على المسؤولية الجماعية والتعاون على تشخيص الأخطاء ومعالجتها دون تنفير الآخر.

10-التعايش السلمي أساس لوأد الانحرافات المجتمعية، فيجب العمل عليه ونبذ العنف؛ ورد الشبهات بالدليل والبرهان.

وغيرها من المعالجات التي يجب توافرها في المجتمعات، وبها يتم صيانة ما انقضَّ من أخلاق وما استفحل من جهل.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

اضف تعليق