ما جرى في خطاب الاتحاد، لم يكن مجرد خطابٍ رئاسي، بل كان معركة مفتوحة على الهواء مباشرة، إذ لم يعد الاعتراض يقتصر على الكلمات، بل أصبح عرضًا سياسيًا يعكس انقسامًا كبيرًا بين الحزبين وسيمتد إلى المجتمع الأمريكي، وكل المؤسسات الأمريكية، فضلًا عن ذلك، سيولد هذا الانقسام أرضية رخوة وهشة...

ألقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الثلاثاء 4 مارس، خطابه أمام الكونغرس في جلسة مشتركة، واجتمع أعضاء مجلس النواب ومجلس الشيوخ والمحكمة العليا في قاعة مجلس النواب. وتباينت تغطية وسائل الإعلام الأمريكية بشكل ملحوظ؛ مما يعكس الانقسامات الحادة في الأوساط السياسية والإعلامية. إذ قال ترامب: "لقد عاد زخم أمريكا. لقد عادت روحنا، وعاد فخرنا، وعادت ثقتنا. والحلم الأمريكي يزدهر بشكل أكبر وأفضل من أي وقت مضى". وعلى ما يبدو، منذ أن اعتلى دونالد ترامب منصة الكونغرس، وفي اللحظات الاولى، التي خاطب فيها الأمة الأمريكية، حول الأسابيع الستة الأولى من ولايته الثانية، كان واضحًا أن الديمقراطيين لم يأتوا للاستماع، بل للمواجهة. ولم يكن خطابًا رئاسيًا تقليديًا، ولم يكن رد الفعل الديمقراطي تقليديًا أيضًا.

إذ روى ترامب في خطابة الطويل، الذي استغرق 100 دقيقة، قصة الأسابيع الستة الأولى له في البيت الأبيض، وشرح كيف تعكس أفعاله التنفيذية الكثيرة، رؤيته الأكبر لأمريكا خلال السنوات الأربع القادمة. وأخبر ترامب الشعب الأمريكي، أنه يوفي بالفعل بوعود حملته الرئيسية، بما في ذلك السيطرة الصارمة على الحدود الجنوبية مع المكسيك، وعكس سياسات بايدن في مجال الطاقة الخضراء، وعدم تسييس وزارة العدل وجهوده للقضاء على وحدات (التنوع والمساواة والشمول) في الجهات الحكومية، وهي الإدارات المعنية بالتأكد من عدالة تمثيل الأقليات والنساء والمختلفين جنسيًا. وكرر ترامب في خطابه، تعهداته باستعادة قناة بنما والاستحواذ على غرينلاند "بطريقة أو بأخرى". 

ومن المفارقة أن ترامب، قد كرر في بداية خطابه ما قاله جو بايدن في بداية ولايته الرئاسية عام 2021، بأن "أمريكا قد عادت"، وهو نفس التعبير ونفس السطر الذي استخدمه بايدن آنذاك. وأن إعادة تأكيد هذا التعبير، ربما يؤشر بوضوح على حجم الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين، فضلًا عن حالة الانقسام التي تعاني منها البلاد، بشأن الاتجاه الذي يجب أن تسلكه ومستقبلها، وهو ما تظهره استطلاعات الرأي والمحللين والمتخصصين، وما يمكن أن تؤول إليه الامور؛ جراء السياسات الراديكالية التي يتبعها الرئيس ترامب، ومدى تأثيرها على مستقبل أمريكا والأمة الأمريكية بشكل عام. 

فضلًا عما يظهره حجم الخلاف بين الحاضرين في خطاب الاتحاد. إذ بدا واضحًا، أن الجمهور الذي حضر في القاعة قد انقسم إلى فريقين، الأول بدا متجهمًا ولم يتفاعل مع كلمته، والآخر كان متحمسًا ويصفق بقوة للرئيس. ويبدو أن ترامب كان يدرك ذلك الانقسام، ووجه انتقادات ضمنية أثناء خطابه إلى الديمقراطيين المعترضين على سياساته. وما أن بدأ ترامب بإلقاء خطابه، حتى انبرى عدد من المشرعين الديمقراطيين إلى إطلاق صيحات استهجان لمقاطعته، بينما رفع آخرون لافتات تندد بسياساته. وفي حين هاجم ترامب الديمقراطيين الذين حضروا خطابه، قائلا إنه "لا يوجد شيء يمكنه فعله لإسعادهم"، تواصلت صيحات الاستهجان، وهدد رئيس مجلس النواب الجمهوري، مايك جونسون، بإخراج مطلقيها من القاعة إذا لم يكفوا عنها. 

إذ بدأت المواجهة عندما قاطع ترامب النائب الديمقراطي آل غرين، ممثل ولاية تكساس، المعروف بمواقفه الحادة ضد ترامب منذ ولايته الأولى، بل وكان من أوائل من طالبوا بعزله قبل سنوات. صرخ غرين متهمًا الرئيس بـ” الكذب وتقسيم الأمة”، فما كان من رئيس الجلسة إلا أن أمر بطرده، في مشهد زاد من توتر الأجواء داخل القاعة. لكن ذلك لم يكن سوى شرارة البداية. رفع نواب ديمقراطيون لوحات كُتب عليها “كاذب وكاذب" "وماسك يسرق"، "أنقذوا الرعاية الطبية". وارتدت بعض المشرعات الديمقراطيات بزات وردية احتجاجًا على سياسات ترامب التي يرون أنها معادية للمرأة. بينما اختار آخرون الانسحاب بالكامل، وكأنهم يرفضون مجرد التظاهر بالإنصات. أما التصفيق، فلم يخرج من أي مقعد ديمقراطي، في موقفٍ نادر داخل أروقة الكونغرس.

 إلا أن الرئيس ترامب واصل توجيه سهام النقد اللاذع نحو إدارة سلفه بايدن، محملًا الديمقراطيين مسؤولية ما وصفه بــ” سنوات الفوضى والتراجع”. أما حين تطرّق إلى سياساته الاقتصادية والأمنية، فقد زاد غضب معارضيه، ليهمس بعضهم غاضبًا، بينما أطلق آخرون تعليقات لاذعة بصوت مسموع. في حين واجه الملياردير الأمريكي، ايلون ماسك، الذي كان من بين الضيوف، هجومًا صامتًا من النواب الديمقراطيين، فإنه يحظى بترحيب حار من الجمهوريين. وبلغ التوتر ذروته حين هاجمت إحدى النائبات الديمقراطيات ماسك، في إشارةٍ إلى تصاعد الخلافات حول سياساته في مجال التكنولوجيا والإعلام. 

ويبدو أن الانقسام لم ينحصر بداخل قاعة الكونغرس، إذ أبرزت وسائل الإعلام الأمريكية الانقسام الواضح في السياسة الأمريكية، مع تباين كبير في كيفية تناول الخطاب استنادًا إلى الأيديولوجيا السياسية لكل وسيلة إعلام، فبينما سلطت بعض وسائل الإعلام الكبرى الضوء على الانقسامات والصراعات الداخلية، أشادت وسائل الإعلام المحافظة بالخطاب باعتباره علامة على القيادة القوية والفعالة. واتخذت وسائل الإعلام الأمريكية الكبرى، مثل شبكة (سي إن إن) الإخبارية CNN وشبكة "إيه بي سي" ABC موقفا نقديًا من خطاب ترامب، إذ وصفته بأنه "مُقسم ومواجه"، أي أنه يثير الانقسام والمواجه، مشيرة إلى أن الخطاب كان يهدف إلى تنشيط قاعدة ترامب الانتخابية بدلاً من السعي نحو توحيد الأمريكيين.

بالمجمل، إنَّ ما جرى في خطاب الاتحاد، لم يكن مجرد خطابٍ رئاسي، بل كان معركة مفتوحة على الهواء مباشرة، إذ لم يعد الاعتراض يقتصر على الكلمات، بل أصبح عرضًا سياسيًا يعكس انقسامًا كبيرًا بين الحزبين وسيمتد إلى المجتمع الأمريكي، وكل المؤسسات الأمريكية، فضلًا عن ذلك، سيولد هذا الانقسام أرضية رخوة وهشة في مواقف الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية ومكانتها الدولية والعالمية. 

ولاسيما في ظل غياب السياسة الخارجية الواضحة في خطاب ترامب، إذ لم يذكر ترامب بشكلٍ كافٍ الدور الأمريكي في العالم أو استراتيجيته المستقبلية في السياسة الدولية؛ مما أثار تساؤلات حول استقرار العلاقات الأمريكية مع حلفائها، ومستقبل النظام الدولي الذي بنته الولايات المتحدة نفسها على مدى ثلاثة أرباع قرن من الزمان، من خلال المشاركة العالمية والتحالفات المتعددة الجنسيات.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2025

www.fcdrs.com

اضف تعليق