يتساءل كثيرون عن الوجهة النهائية للمتغيرات العاصفة التي تضرب الشرق الأوسط والعالم بأسره. ويستنتج المراقبون من الرسائل المتتابعة التي تبعث بها إدارة الرئيس ترامب إلى مختلف الدول أن المشهد السياسي العالمي يسير نحو تغيير كبير. إن ملامح هذا التغيير تتركز في مراحله الأولى على منطقتين رئيسيتين: أوكرانيا والشرق الأوسط...
يتساءل كثيرون عن الوجهة النهائية للمتغيرات العاصفة التي تضرب الشرق الأوسط والعالم بأسره. ويستنتج المراقبون من الرسائل المتتابعة التي تبعث بها إدارة الرئيس ترامب إلى مختلف الدول أن المشهد السياسي العالمي يسير نحو تغيير كبير. إن ملامح هذا التغيير تتركز في مراحله الأولى على منطقتين رئيسيتين: أوكرانيا والشرق الأوسط، ثم تتوسع لاحقًا لتشمل منظومة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأوروبا، والمجال الحيوي المستقبلي لأمريكا
بما في ذلك غرينلاند، بنما، البحر الكاريبي، والأمريكيتين، وصولًا إلى المرحلة الثالثة التي تتعلق بجنوب شرق آسيا، وبحر الصين الجنوبي، والممرات الحيوية الكبرى.
بدأت استراتيجية ترامب تمارس ضغوطًا متزايدة على الحلفاء والخصوم والمحايدين، لدفعهم نحو الاستجابة لمشروعه القائم على استثمار فائض القوة الأمريكية في إعادة تشكيل النظام الدولي، ومن لا يستجيب عبر الإغراءات والضغوط، فسيواجه عقوبات وتدابير قسرية لإجباره على الامتثال.
ما يجري على الساحة العالمية أشبه بسباق محموم للتكيف مع التحولات القادمة. فقد سارع الأوروبيون إلى الإعلان عن استراتيجيتهم الدفاعية الجديدة بقيمة 800 مليار يورو، في مؤشر على أنهم -لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية- أدركوا أن أمن أوروبا لم يعد مضمونًا أمريكيًا كما كان في السابق. بات واضحًا أن واشنطن تريد أن تتسيد العالم دون إنفاق مالي كبير أو تحمل التزامات سياسية وأمنية تحت أي غطاء أخلاقي! كما كانت تتحدث سابقا.
أحد أبرز الإشارات إلى هذا النهج الجديد، تجلت في قضية الرسوم الجمركية، بالإضافة إلى الحديث عن ضم كندا إلى الولايات المتحدة، وهو طرح قد يبدو خياليًا، لكنه مدروس ضمن منطق التوسع الرأسمالي، فالفكرة تقوم على أن الدولة العظمى يمكنها ضم حلفائها وأصدقائها بذريعة الحاجة إلى أسواق أوسع، وتعزيز الرفاه الداخلي، وحماية مركزها الرأسمالي النابض بالحيوية، تحت شعار “الاستقرار العالمي”.
وقد اعتبر رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، أن فرض ترامب رسومًا جمركية بنسبة 25 بالمئة على الصادرات الكندية محاولة لدفع اقتصاد كندا نحو الإفلاس، تمهيدًا لضمها إلى الولايات المتحدة. فيما ردّ ترامب في خطابه الأطول أمام الكونغرس بأن هذه السياسة تجعل “أمريكا أغنى وأقوى”.
ان منطق المال والتوسع عبر الجباية والابتزاز هو ما يحكم عقل الإدارة الأمريكية. وإعلانها الصريح عن فرض الأمن والسلام بالقوة يكرس مبدأ جديدًا في العلاقات الدولية: “ادفع المال لإبعاد الخطر عن نفسك”.
في الشرق الأوسط، تشير التقديرات إلى أن صفقة كبرى تلوح في الأفق. من المتوقع أن تضع حرب أوكرانيا أوزارها عبر تسوية يتقاسم فيها الروس والأمريكان النفوذ، مقابل منح الولايات المتحدة حق الوصول إلى المعادن النادرة في أوكرانيا، التي تشكل عنصرًا أساسيًا في استراتيجية الحفاظ على التفوق التكنولوجي الأمريكي.
يظهر أن بوتين قد فهم طريقة تفكير ترامب، وبدأ بتقاسم النفوذ معه، مستهلًا ذلك بملف أوكرانيا الذي يشكل أولوية أمنية لموسكو، قبل أن ينتقل إلى مقايضة الأوراق الروسية في الشرق الأوسط. ومن بين أهم مخرجات هذا التفاهم، تخلي واشنطن عن وسطائها التقليديين في الملف الإيراني لصالح روسيا، التي أصبحت الوسيط الجديد بين الولايات المتحدة وايران. فقد تم تكليف روسيا بدفع إيران نحو تسوية شاملة مع واشنطن، تشمل إنهاء ثلاثة ملفات رئيسية: المشروع النووي، الصواريخ الباليستية، و(وكلاء إيران وأذرعها الإقليمية). ومع اقتراب نهاية الحرب في أوكرانيا، يُتوقع أن تبدأ موسكو بالمراوغة لتحقيق مكاسب أكبر، في حين يجد “الصغار” أنفسهم مضطرين لحزم حقائبهم أو مواجهة العزلة والمطاردة.
أول الراحلين المحتملين سيكون الرئيس الأوكراني زيلينسكي، إذ من المرجح أن تُسقطه الانتخابات المقبلة بعدما فشل في تحقيق وعوده باستعادة الأراضي الأوكرانية وضمان وحدة بلاده. أما الخاسر الثاني فسيكون إيران وحلفاءها، إذ لا خيار أمامهم سوى التخلي عن المشروع العسكري الأيديولوجي والعودة إلى الحياة السياسية العادية، بلا مشروع توسعي.
هل سيتقبل حلفاء إيران هذه النتيجة؟
الجواب يعتمد على قدرة طهران على المناورة والصمود في مواجهة الضغوط المتزايدة. فهذه المرحلة تعد الأخطر على وجود (النظام) وحلفائه في المنطقة في ظل أزمات داخلية وصعوبات متعددة. إلا أن ثمة مشكلة رئيسة تعيق رسم (رؤية واضحة) للتعامل مع هذا الواقع: ضعف منهجية تحليل المخاطر والتقدير الواقعي للمتغيرات.
فمنذ عقود، تفتقر المنطقة إلى الخيال السياسي والحس الاستراتيجي القادر على فهم وتوقع مسارات الأحداث. إذ إن الكثير من الزعامات والقوى المناهضة للمشروع الأمريكي تصاب بسوء التقدير والغرور المبني على حسابات مثالية، ما أدى مرارًا إلى تضحيات ضخمة دون تحقيق نتائج ملموسة، ثم العودة إلى نقطة البداية بعد خسائر فادحة.
لكن هذه المرة، قد تكون الخسائر أكبر، لأنها لن تقتصر على الأفراد والجماعات، بل ستمتد إلى الدول والمساحات الجغرافية، والمشاريع الأيديولوجية نفسها. فالبنيات القائمة هشة، وليست بالقوة التي يظنها البعض، والواقع الجديد سيطحن الشعوب العادية في لقمة عيشها، بينما سيبقى أصحاب الثروات الكبيرة في مأمن.
في مواجهة هذه التحديات، تعمد القوى المتضررة إلى تعزيز الخطاب التعبوي، والرهان على فكرة “المشروع المهدوي”، التي تسوّغ استرخاص التضحيات في سبيل “النصر النهائي”. وهذه الفكرة، وإن كانت مقبولة دينيًا ونفسيًا لدى جمهور واسع، إلا أنها لا تعالج جوهر المشكلة: كيف يمكن بناء مشروع مستدام يحافظ على الوجود ويعزز الاستقرار والازدهار، دون الوقوع في أخطاء قاتلة أو رهانات طائشة؟
المراجعة والتكيف مع المتغيرات بوعي ومسؤولية يبقى الخيار الأفضل، بدلًا من التمترس في الخنادق دون أفق واضح.
اضف تعليق