قد تبدو المقارنة غير موضوعية، أو ربما قاسية بسبب الفارق الكبير بين مناخي المرحلتين، أقصد مرحلة النصف الأول من القرن الماضي، ومرحلتنا الحالية، إلّا أن نفوس العراق القليلة وقتذاك قياسا بثرواته الهائلة تجعل المقارنة ممكنة. لقد كانت لدينا في العهد الملكي مشكلات كان بالإمكان حلّها أو التعامل مع استحقاقاتها بواقعية...

قد تبدو المقارنة غير موضوعية، أو ربما قاسية بسبب الفارق الكبير بين مناخي المرحلتين، أقصد مرحلة النصف الأول من القرن الماضي، ومرحلتنا الحالية، إلّا أن نفوس العراق القليلة وقتذاك قياسا بثرواته الهائلة تجعل المقارنة ممكنة. لقد كانت لدينا في العهد الملكي مشكلات كان بالإمكان حلّها أو التعامل مع استحقاقاتها بواقعية.

 لكنها تركت فتوّرمت وتفاقمت، وكانت من بين أبرز الأسباب التي أدت إلى ما حصل يوم 14 تموز 1958 الذي كان بداية لعلاقة مختلفة مع بريطانيا، راعية النظام السياسي العراقي في تلك الحقبة. لقد بدأت ارهاصات الخلاف بين بعض النخب العراقية وبريطانيا منذ تسلم الملك غازي الأول عرش العراق العام 1933 بعد رحيل والده الملك فيصل الأول. 

إذ أخذ الملك الشاب ينحو باتجاه المانيا الطامحة بأن يكون لها مكان في الشرق الأوسط، وانطلاقا من مبدأ عدو عدوي صديقي، تعززت علاقة الملك غازي بألمانيا التي عملت على التقرّب من العراق، وتحديدا مع الملك، الذي أحاط نفسه بمجموعة من الضباط القوميين، ممن استلهموا التجربة القومية النازية لما حققته من نجاحات في بداية وصول هتلر وحزبه الاشتراكي القومي (النازي) إلى السلطة في ثلاثينيات القرن الماضي، وقد وصل الأمر لاحقا إلى مواجهة مسلحة فاشلة قام بها هؤلاء الضباط ضد بريطانيا في العام 1941 إثر قيام ما عرف بحكومة الدفاع الوطني برئاسة رشيد عالي الكيلاني، التي كانت غطاء سياسيا لانقلاب العقداء الاربعة في القصة المعروفة. 

لكن نهاية الحرب العالمية الثانية وظهور الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى وظهور المعسكر الاشتراكي، كان بداية لمرحلة جديدة عاشها العالم كله، وتحوّل ثقافي سياسي وضع أنظمة الحكم التي أقيمت على خلفية الحملة الكولونيالية مطلع القرن الماضي أمام تحديات غير مسبوقة، تمثلت بانقلابات عسكرية بخلفيات سياسية (يسارية - ثورية) محاكية للنظام السوفييتي أو مستلهمة لنموذجه، وقد كان الواقع الحياتي المزري لمختلف الشرائح الاجتماعية، يمثل حافزا للانقضاض على السلطة، لا سيما للطامحين اليها ممن لم يفصلهم عنها سوى تحريك الدبابات باتجاه قصور الحكم والسيطرة عليها! 

لقد تزاحمت العشوائيات حول بغداد، وكان سكانها من الهاربين من جور النظام الزراعي (الإقطاعي) الذي كان سائدا وقتذاك، لكن النظام الملكي لم يحرك ساكنا أو يعقد ولو ندوة لقراءة ومعرفة ما يحصل، وازداد وعي الناس بشكل عام، إلّا أن واقع الفلاحين والعمال في العراق بقي على حاله ولنحو اربعة عقود من الحكم الذي تكلّس، مثلما تكلّس نوري السعيد على كرسي الحكم فيه، بعد أن شكل خلال تلك العقود 14 وزارة نجحت في بناء سياج للدولة من الخارج. 

لكنها فشلت في تحقيق توازن نسبي بين شريحتي الفلاحين والعمال، مقارنة بشريحة كبار الموظفين والضباط وعائلات الاقطاع الزراعي الذين يمثلون بمجملهم نحو 10 بالمئة أو أقل من مجموع الشعب. لقد كان على نوري السعيد وهو المتنفذ وقتذاك، ان يعمل وبشكل جاد على نوع من العلاقة مع بريطانيا، تقوم على بناء الدولة العراقية وإقامة برنامج للتنمية المستدامة ينصف غالبية الشعب التي أخذت تشعر بالحيف. 

لقد تشكل (مجلس الاعمار) لكن بعد فوات الأوان، ولم يتمتع بحيوية اتخاذ قرارات مماثلة لما اتخذ بعد 14 تموز. وعلى الرغم من أن بريطانيا أقامت قبل تشكيله الكثير من المشاريع المهمة في العراق، لكن كان على الحكومات العراقية وقتذاك، أن تعمل على شراكة اقتصادية استراتيجية حقيقية مع بريطانيا تغيّر من واقع الحال بشكل جاد، والدليل ان عراق ما بعد 14 تموز 1958 نفذت فيه مشاريع كثيرة وبزمن قياسي نسبيا، واتخذت قرارات مهمة خدمت الغالبية المقهورة.

وكان بالإمكان اتخاذها قبل عقدين في الأقل لتسبق أي عملية تغيير راديكالي، لا سيما أن احتمال حصول هذا بسبب تغيّر الواقع العالمي والتذمر الداخلي بات ممكنا جدا والمنطقة شهدت تجارب بهذا الاتجاه. اخيرا نقول، اذا ما تم تنفيذ الاتفاقيات التي وقعتها حكومة السوداني مع بريطانيا خلال زيارته الاخيرة للندن، فإنها ستغيّر من الواقع الحياتي للكثير من العراقيين وسيشعرون بالفرق حتما. نأمل أن يحصل ذلك. لكي نبدأ علاقة جديدة مع بريطانيا وغيرها من دول العالم التي تريد ان تبني لنا.. لتفيدنا.

اضف تعليق