التعصب إنما ينشأ ويتشكل في أرضية ومناخ القطيعة والانغلاق عن الآخر، وعلى خلفية البناء والتكوين الأحادي والمنقطع عن معارف الآخرين وعلومهم وإنجازاتهم، والذي يخرج ذهنيات لا ترى الحق إلا عندها وما سواها إلا في ضلال، وتصوب نفسها دائماً وتخطئ غيرها. التعصب يعمي العقل، ويحجب الإنسان عن إعمال الفكر...

التعصب هو نمط من السلوك يتصف بالتحيز الظاهر، والميل الشديد الذي يتداخل فيه ويتمازج العامل النفسي مع العامل الذهني، ويتمحور حول شيء ما، إما تجاه فكرة أو مبدأ أو معتقد، وإما تجاه شخص أو عشيرة أو جماعة، وبشكل يكون ظاهراً ومنكشفاً عند الآخرين.

والتعصب له صورتان، صورة مع، وصورة ضد، فتارة يكون التعصب مع شيء ما، وتارة يكون ضد شيء ما، وهذا الشيء إما أن يكون فكرة أو شخصاً، مبدأ أو جماعة، معتقداً أو عشيرة.

ودائماً ما يكون التعصب ناظراً إلى طرف آخر، وبدون هذا الآخر لا يكون للتعصب من حاجة أو معنى، وبالتالي فإن التعصب هو موقف سلوكي تجاه الآخر المختلف أو المغاير، فالذي يتعصب لفكرة يكون ناظراً لفكرة أخرى عند طرف آخر، ومن يتعصب لمبدأ يكون ناظراً لمبدأ آخر عند طرف آخر، ومن يتعصب لمعتقد يكون ناظراً لمعتقد آخر عند طرف آخر، وهكذا من يتعصب لشخص أو عشيرة أو جماعة.

والآخر في مثل هذه الحالة يمثل حاجة وضرورة لاستثارة روح التعصب، وتحريك كوامنه، وإطلاق دفائنه، وإشعال حميته. وبدون الآخر والاحتكاك به، والتعرض له، والتراشق معه، يخبو روح التعصب، ويفقد فورته وحرارته، ويصاب بالخمول والانطفاء.

وهذا يعني أن الآخر هنا يجري استحضاره بطريقة منقوصة ومشوّهة، ولأغراض توظيفية، ويتحول فيها إلى صورة نمطية تكون مبسطة بقصد التداول والتعميم السهل والسريع.

وذهنية التعصب لا تحتمل إلا صورة منقوصة ومشوّهة عن الآخر، ولا تتعامل معها إلا بطريقة نمطية وتوظيفية، ولا تتقبل صورة نزيهة وموضوعية عن الآخر، فمثل هذه الصورة النزيهة والموضوعية يمكن لها أن تنتقص من الذات، وتقلل من شأنها وشأن مكانتها ومنزلتها، أو تمس من هيبتها وشوكتها، أو هكذا يمكن أن تفسر عند أصحاب هذه الذهنيات. كما إن مثل هذه الصورة النزيهة والموضوعية عن الآخر، يمكن لها أن تمتص روح التعصب وتذوبه، أو تحد منه ومن سطوته.

وإذا نظرنا إلى منطق التعصب نجده أنه قائم أساساً على تقابل متعارض، يرتكز من جهة على المبالغة والإفراط في مدح الذات وتمجيدها والتفاخر بها، ويرتكز من جهة أخرى على المبالغة والإفراط في ذم الآخر ومقته والاستنقاص منه.

وعند النظر في التعريفات التي أشار إليها الدكتور معتز سيد عبد الله، لمعنى التعصب في كتابه (الاتجاهات التعصبية) الصادر سنة 1989م، نجد أن معظمها أو جميعها كان ناظراً إلى الآخر ومعاداته أو التفاضل عليه، ومن هذه التعريفات: أن التعصب هو التفكير السيء عن الآخرين ودون وجود دلائل كافية. وفي تعريف البعض: أن التعصب هو اتجاه بعدم التفضيل يمثل استعداداً للتفكير والشعور والسلوك بأسلوب مضاد للأشخاص الآخرين بوصفهم أعضاء في جماعات معينة. وفي تعريف ثالث: أنه اتجاه سلبي يتبناه أعضاء جماعة معينة مستمدة من معاييرها القائمة ويوجه نحو جماعة أخرى. أو أنه نسق من الادراكات والمشاعر والتوجهات السلوكية السلبية المتصلة بأعضاء جماعة معينة. أو أنه اتجاه انفعالي متصلب نحو جماعة من الأشخاص.. إلى غير ذلك من تعريفات أخرى.

وعلى هذا الأساس يمكن القول أن التعصب إنما ينشأ ويتشكل في أرضية ومناخ القطيعة والانغلاق عن الآخر، وعلى خلفية البناء والتكوين الأحادي والمنقطع عن معارف الآخرين وعلومهم وإنجازاتهم، والذي يخرج ذهنيات لا ترى الحق إلا عندها وما سواها إلا في ضلال، وتصوب نفسها دائماً وتخطئ غيرها.

في نقد التعصب

التعصب يعمي العقل، ويحجب الإنسان عن إعمال الفكر، ويسلب منه قدرة التبصر في اختيار الموقف السليم، لهذا فإن التعصب هو موقف غير عقلاني، ومناقض للعقلانية، وينتهك قيم العقلانية ومعاييرها، لأنه موقف لا يستند على قوة البرهان، ومنطق الاستدلال، وليس من غايته البحث عن الحقيقة واكتشافها والتمسك بها، حتى لو كانت عند طرف آخر مغاير، ولأنه موقف يتسم بالتوتر والانفعال النفسي والذهني، ويغلب عليه منطق الغلبة والاحتجاج.

والتعصب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل، لأنه يغلق عليه منافذ المعرفة، والوصول إلى علوم الآخرين ومعارفهم، واكتساب الحكمة أنى كان مصدرها ومنبعها، والذي لا يستمع القول لا يتبع أحسنه، كما في قوله تعالى (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) ـ سورة الزمر آية 18ـ والتعصب يجعل الإنسان على قول واحد يتحيز إليه بشدة، وينافح عنه بغلظة، ولا يقبل الاستماع إلى قول آخر ينازعه، أو يتضايف معه، أو يتفاضل عليه.

وهذا بخلاف سلوك أهل الحكمة وأولي الألباب الذين يعرفون باستماع القول، وكل ما يفيد معنى القول، فيتبعون أحسنه، لأنهم من أهل الدراية والنظر، وفي غايتهم دائماً انتخاب وإتباع الأحسن، طلباً للرشد والحق وإصابة الواقع، أما الذي يستمع قولاً واحداً فإنه بالتأكيد لا يهتدي إلى أحسن الأقوال.

والتعصب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل، لأنه لا يجعل من الحكمة ضالته أنى وجدها فهو أحق بها، كما جاء في الحديث النبوي الشريف (الحكمة ضالة المؤمن حيث ما وجدها فهو أحق بها). والحكمة يصل إليها من يبحث ويفتش عنها، ويطلبها وتكون ضالته، والمؤمن هو أحق بها حتى لو وجدها عند من يختلف معه في العقيدة أو المذهب أو الدين، لأنه يطلب الحق والعدل والفلاح، ولسان حاله ما ورد عن نبي الله عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ في قوله: (خذوا الحق من أهل الباطل، ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق).

أليس من الحكمة اليوم اكتساب العلوم والمعارف الطبيعية والتطبيقية والطبية، كعلوم الفيزياء والرياضيات والطب والبيولوجيا وغيرها، من اليابانيين والصينيين والغربيين وغيرهم، وهم الذين يختلفون معنا في العقيدة والدين.

والتعصب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل، لأنه يحجب عنه اكتشاف عيوبه، والتعرف على نواقصه، والالتفات إلى ثغراته، والتنبه إلى نقاط الضعف فيه، وذلك نتيجة الاعتزاز بالذات، والتفاخر على الآخر، والانشغال بأجواء السجال والاحتجاج، وما يصاحبها من توتر وانفعال.

وفي هذه الحالة يظل الإنسان يحمل ضعفه وعيوبه، وتبقى معه نواقصه وثغراته إلى أن تتفشى وتتراكم وتصل إلى وضع تنكشف فيه بشكل خطير.

والتعصب لا يهتدي بالإنسان إلى سواء السبيل، لأنه يجلب معه العداوة والبغضاء من الآخرين، ويورث الاحتقان والانقسام بين الناس، ويتسبب في خلق النزاعات والخصومات التي تهدر بدورها الطاقات والإمكانات بدون طائل وبلا ثمرة أو نتيجة، وهذا ما ينبه عليه ويحذر منه العقلاء والحكماء من الناس.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة

http://www.almilad.org

اضف تعليق