إن المطلوب لكي تستقيم معادلات الخطأ والصواب في الأمم والمجتمعات المتأخرة أن تعمد إلى قلب الطاولة أمام الاستبداد السياسي، وكذا الاستبداد الثقافي، وعليها في هذا المسلك أن تبحث عن كفاءاتها الوطنية بحثا دقيقا، وتصنّفهم إلى فريقين رئيسيين أحدهما الممالئون للسلطات السياسية المستبدة، وثانيهما أصحاب المبادئ الحقّة...
في الدول التي يتحدد إطار القوى المؤثرة فيها بناءً على مصلحة الإنسان أولا ترى وجودا ماثلا لما يمكن نعته بسلطة الثقافة، وفي هذه الدول بنحو خاص تجري عمليات صناعة النجم على قدم وساق، وسواء أكان النجم يدور في فلك الفن أو العلم أو الأدب فإنه سيأخذ نصيبه كاملا من الاحتفاء، والإبراز فضلا عن التكريم المادي، وهو الأمر الذي لا تكاد تجد ما يناظره في الدول التي تعامل مواطنيها بوصفهم أعدادا مكرّسة لتبجيل الحاكم، وخدمة سلطانه، ولا تعمد عادة على تلميع صورة ذوي النباهة، والقدرة على الجذب والتأثير ما لم يدوروا في فلك ما يمكن تسميته بثقافة السلطة.
وعلى الرغم من المرجعيات الآيدلوجية المختلفة التي ينتمي إليها أصحاب الصفات المتفردة والقدرات المؤثرة فإنهم يشتركون بقاسم مشترك أكبر هو تقديم البيعة، والولاء المطلق لمن يملك أدواة الحكم والهيمنة في بلدانهم، وينهجون النهج ذاته في مضمار تسويغ أو تبرير مواقف، وقرارات المتحكمين والمهيمنين في الساحة السياسية، وفي هذا السياق ثمة فيديو متداول على نطاق واسع، وأخذ حيزا كبيرا مؤخرا في منصات (السوشيال ميديا) حيث يُظهر ذلك الفيديو أحد مشايخ الدين وهو يدافع دفاعا مستميتا عن أحد حكام العرب المتهمين بهدر أموال طائلة في بناء القصور الباذخة في حين يرزح قسم كبير من أبناء شعبه تحت وطأة الفقر والحرمان من أبسط متطلبات الحياة الكريمة.
إن هذا الموقف التبريري من ذلك الشيخ (المتدين) يمكن أن تجد له أمثلة كثيرة في صفوف ذوي المهارات الذهنية العالية في مجال تزوير الحقائق وبيع المواقف سواء أكانوا علمانيين أو ليبراليين أو تنويريين أو يساريين، وهؤلاء جميعا سيحضون حتما بحصصهم (التلميعية ) و(التموينية) كاملة غير منقوصة من طرف الطبقة السياسية الحاكمة غالبا ماداموا يدأبون على ممارسة طقوس البيعة، أو العبادة (الثقافية) لرؤسائهم وأولياء نعمتهم...
إن المطلوب لكي تستقيم معادلات الخطأ والصواب في الأمم والمجتمعات المتأخرة أن تعمد إلى قلب الطاولة أمام الاستبداد السياسي، وكذا الاستبداد الثقافي، وعليها في هذا المسلك أن تبحث عن كفاءاتها الوطنية بحثا دقيقا، وتصنّفهم إلى فريقين رئيسيين أحدهما الممالئون للسلطات السياسية المستبدة، وثانيهما أصحاب المبادئ الحقّة ممن يكونون عادة على استعداد تام للتضحية بمصالحهم الخاصة فداء للمصلحة العامة، ولا يهابون من احتمالات التعرّض إلى هجمات أصحاب الحكم والنفوذ مباشرة أو الوقوع فريسة لتنمّر الشرائح المستفيدة من الطبقة السياسية الفاسدة فتسعى لإبراز هذا الفريق الأخير، ودعمه ماديا، ومعنويا، وينبغي أن لا تكون أمراض النفس من غيرة وحسد مانعة من تقديم أقصى درجات التكريم والتبجيل لهم، وأفضل من يتولى إدارة ملّف كهذا هم الناشطون المدنيون لاسيما الذين حالفهم الحظ في تأسيس أو إدارة بعض منظمات المجتمع المدني التي تمتاز بمصداقية ومهنية عاليتين، وبرهنت الأحداث والمواقف على أنهم سند متين لأممهم، ومجتمعاتهم.
إن وجود مثقفين من هذا الطراز المنافح ضد الجور والطغيان كفيل ببناء جبهة حقيقية ضد الفاسدين والمفسدين السياسيين تستمد قدرتها في المواجهة وتحقيق الانتصار من القوة الناعمة التي تنبعث من مصادر الثقافة وروافدها الأكاديمية والفنية.
ومن هنا فإن تسليط الضوء على الأكاديمي الناجح والفنان الناجح والأديب الناجح يمنح قوة مضافة لأنصار مقارعة الظلمة والمستبدين، وبمقدار ما يستقطب هذا السلوك مزيدا من المتطوعين المخلصين نحو تبني عقيدة الدفاع عن الحق والعدل والخير سيعمل على جذب المنخرطين في خدمة الظلمة والمستبدين أو (تأليف قلوبهم) وتحييد أنشطتهم الضارة في أقل تقدير، وبذلك سوف يكون بمقدور الأمة والمجتمع أن يعزز من نقاط قوته، ويقلل إلى حد كبير من نقاط ضعفه وهو يخوض معاركه ضد حملة مشاعل الاستبداد والفساد.
إن من جملة المؤشرات التي تكشف عن تراجع الثقافة الحقيقية في بلد ما هو أن يحضى المثقف عالما كان أو أديبا أو فنانا بالتكريم والتبجيل خارج بلده الأم في حين يقابل هذا العالم أو الأديب أو الفنان بجفاء، وعدم اكتراث داخل مجتمعه المحلي، ولولا أن يُفهم من سطوري هذه بأنها لون من ألوان الدعاية أو الإعلان لفئة معينة أو أشخاص محددين لأقدمت على ذكر أسماء عراقية معروفة خارجيا على نطاق واسع لكنها للأسف الشديد مجهولة أو مهملة في عقر دارها...
اضف تعليق