فكيفَ تتحقَّق العقلانيَّة في واقعِنا لنتجاوزَ بها أَو على الأَقلِّ لنُقلِّل بها من مشاكلِنا وعُقدِنا وتخلُّفِنا وهزائمِنا وفشلِنا، وعلى المُستويَينِ الفردي والمُجتمعي؟ الجواب بالشُّورى لنضعَ حدّاً لظاهرةِ الإِستفرادِ بالقرارِ المُميتةِ لننتزِعَ الأَمَّة من مخالبِ الزَّعيم الأَوحد والقائد الضَّرورة] والرَّمز الإِستثنائي ولنُقرِّر في العامِ الجديد أَن لا نتَّخذَ قراراً...

لا أَتحدَّث هُنا عن العقلانيَّةِ كمذهبٍ فلسفيٍّ وخلافهِ المذهب التَّجريبي، إِنَّما أَقصد بالعقلانيَّةِ تحديداً [إِتِّباعُ العقلِ وتقديمهِ على العاطفةِ] في إِدارةِ شؤُونِنا الخاصَّة مِنها والعامَّة وعندَ قراءةِ المُقدِّماتِ والنَّتائجِ وحالَ تشخيصِ الفَوزِ والخسارةِ والنَّصرِ والهزيمةِ، فالعقلُ يهدينا إِلى الصَّوابِ لأَنَّهُ يضَع الأُمور في نِصابِها بِلا تضخيمٍ أَو تقليلٍ أَمَّا العاطِفةُ فتُضلِّلُنا كالسَّرابِ الذي يُقرِّبُ البعيد ويُبعدُ القريب، أَو كالمرايا المُقعَّرةِ لا تعطيكَ صورةً حقيقيَّةً!. 

 فلو تتبَّعنا بدقَّةٍ الكثيرِ من أَسبابِ مشاكلِنا سواءً على مُستوى الفردِ أَو الجماعةِ أَو حتَّى على المُستوى العام [الشَّأن العام] فسنجدُ أَنَّ [العاطفةَ] هي أَوَّل وأَهم وأَخطر أَسباب هذهِ المشاكلِ والمصائِبِ.

 وأَنَّ من أَكثر الأَسباب التي تتشكَّل منها الصَّدمة عند كثيرينَ هي [العاطِفة] على العكسِ من [العقلِ] القادرِ على إِستيعابِ المُتغيِّراتِ لدرجةِ الصَّدمةِ والسَّببُ هوَ؛ أَنَّ العاطِفةَ تدرُس وتُحلِّل وتُفسِّر النَّتائج [المُخرجات] أَمَّا العقلُ فيدرُسُ ويُحلِّلُ ويُفسِّرُ المُقدِّمات.

 طبعاً ليسَ المقصودُ هُنا الدَّعوةَ لإِلغاءِ العاطفةِ أَبداً فهي جزءٌ لا يتجزَّأ من شخصيَّة الإِنسان [النَّفس] الذي يقُولُ عنهُ ربُّ العزَّةِ (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) إِنَّما المقصُود أَن يكونَ حضورَها وتأَثيرَها في قراراتِنا وخياراتِنا ضمنَ الحدُودِ الطبيعيَّةِ فإِذا فلتَت من عِقالِها وتمرَّدت وتمدَّدت على حسابِ العقلِ ودورهُ في القرارِ فستُدمِّر كُلَّ شيءٍ.

 خُذ مثلاً على ذلكَ تربية الأَطفال في الأُسرة فإِذا تمدَّدت العاطِفة وأَخذت حيِّزاً أَكبر من طبيعةِ الأَشياءِ فبالتَّأكيدِ ستفشَل التَّربية وتتحوَّل إِلى نقمةٍ ليس على الأَطفالِ فقط وإِنَّما كذلكَ على الأُسرةِ نفسِها ومن ثمَّ على المُجتمعِ، لأَنَّ البناء المُجتمعي السَّليم يعتمِد بالأَساسِ على البناءِ الأُسري السَّليم على اعتبارِ أَنَّ الأُسرةَ هي نواة المُجتمع فإِذا صلُحت صلُحَ المُجتمع وإِذا فسدَت فسدَ المُجتمع، ولذلكَ نُلاحظ أَنَّ المُشرِّع الحكيم الخبير إِهتمَّ بكُلِّ خطواتِ بناءِ الأُسرةِ السَّليمةِ ولم يغفلْ عن شيءٍ من ذلكَ.

 وفي الإِصلاحِ والحمايةِ يبدأ المُشرِّع من الذَّاتِ والأُسرةِ بقَولهِ تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).

 أَمَّا إِذا تمدَّدت العواطِف على مساحاتِ العقلِ في القراراتِ التي تخصُّ الشَّأن العام، أَي في الأُمور التي تتعلَّق بمصيرِ المُجتمع والأُمَّة فبالتَّأكيد ستحلُّ الكارِثة وأَنَّ المصيبةَ تكونُ أَعظم وأَخطر وأَشمل وأَعمق، وهوَ الأَمرُ الذي أَوصلنا إِلى ما نراهُ اليَوم من هزيمةٍ وتخلُّفٍ وانحطاطٍ وتراجُعٍ في ظلِّ نظُمٍ سياسيَّةٍ طائفيَّةٍ وعُنصريَّةٍ فاسدةٍ وفاشلةٍ ومُستبدَّةٍ وطاغيةٍ وشموليَّةٍ ونحنُ الذينَ نفتخِرُ بأَنَّنا خيرَ أُمَّةٍ، إِذا بنا أَفشلَ أُمَّةٍ في هذا العالَم يلفَّها التَّخاذُل على الرَّغمِ من عديدِنا الذي قد لا يُضاها، وصدقَ رسولُ الله (ص) الذي قالَ (يُوشِكُ أن تَدَاعَى عليكُم الأممُ من كلِّ أُفُقٍ كما تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، قيلَ؛ يا رسولَ اللهِ! فمِن قِلَّةٍ يَوْمَئِذٍ؟! قالَ لا ولكنَّكُم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ يُجْعَلُ الْوَهَنُ في قلوبِكم ويُنْزَعُ الرُّعْبُ من قلوبِ عَدُوِّكم لِحُبِّكُمُ الدنيا وكَرَاهِيَتِكُم الموتَ).

 أَو كما يصِفُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) الحالَ بقَولهِ (إِنَّكُمْ، واللَّه، لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَاتِ قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ).

 فكيفَ تتحقَّق العقلانيَّة في واقعِنا لنتجاوزَ بها أَو على الأَقلِّ لنُقلِّل بها من مشاكلِنا وعُقدِنا وتخلُّفِنا وهزائمِنا وفشلِنا، وعلى المُستويَينِ الفردي والمُجتمعي؟!.

 الجواب؛ بالشُّورى لنضعَ حدّاً لظاهرةِ الإِستفرادِ بالقرارِ المُميتةِ لننتزِعَ الأَمَّة من مخالبِ [الزَّعيم الأَوحد] و [القائد الضَّرورة] و [الرَّمز الإِستثنائي] ولنُقرِّر في العامِ الجديد أَن لا نتَّخذَ قراراً إِلَّا بعدَ مَشورةٍ فلا نستعجلَ (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ) فالعجَلةُ في اتِّخاذِ القرارِ يعني سيطَرة العاطِفة وتمدُّدها فهي عادةً لا تحتاجُ إِلى مُدَّةٍ طويلةٍ لإِقناعكَ برُؤيةٍ معيَّنةٍ أَو لتشكُّلِ مُقدِّماتِ القرارِ فهيَ حاضِرةٌ دائماً في الميُولِ والإِتِّجاهاتِ على العكسِ من العقلِ الذي يحتاجُ إِلى وقتٍ ليُساعدكَ في صياغةِ القرارِ والمَوقفِ والرُّؤيةِ السَّليمةِ.

كما أَنَّ الإِستعجال في اتِّخاذِ القرارِ يعني أَنَّك لم تُحِط علماً بالأَمرِ من كُلِّ جوانبهِ وإِنَّما اكتفيتَ بدراسةِ جانبٍ وغفلتَ أَو تغافلتَ عن أُخرى.

 يلزَم أَن نتذكَّر دائماً حقيقةً في غايةِ الأَهميَّة وهي أَنَّ العِبرة ليسَ في الزَّمن الذي تأخُذهُ لاتِّخاذِ القرارِ وما إِذا كُنتَ مُتأَنِّياً أَو مُتسرِّعاً في صياغتهِ، وإِنَّما العِبرةُ في نتائجهِ ومُخرجاتهِ وتأثيراتهِ على الواقعِ، فكَم من قرارٍ غيَّر مجرى التَّاريخ وعلى المُستويَينِ الشَّخصي والعام، وكَم من قرارٍ دمَّر أُمَّةً وهزمَ جيشاً وحطَّم [مِحوراً]!.

 من سمحَ لكَ أَن تستفرِدَ بالقرارِ لتجُرَّ أُسرةً أَو جماعةً أَو أُمَّةً، إِلى مُنزلقِ التفكُّكِ والإِنحرافِ وإِلى أُتُونِ الحربِ والدَّمارِ ثمَّ تختفي وراءَ أَصابِعكَ لتهربَ من تحمُّلِ المسؤُوليَّةِ المُترتِّبةِ على كُلِّ ذلكَ؟!.

 لقد شرَّع القُرآن الكريم الشُّورى لأَبسطِ الأُمورِ المُتعلِّقةِ بالأُسرةِ بقولهِ (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ) وفي نفسِ الوقتِ لم يغفَل عن تشريعِها في أَعظمِ الأُمورِ بقولهِ (وَٱلَّذِينَ ٱسۡتَجَابُواْ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَيۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ) وأَنَّ قَولهُ تعالى (أَمۡرُهُمۡ) هُنا يتعلَّق بالسِّلمِ والحربِ وإِدارة الدَّولة وكُل ما يتعلَّق بالشَّأنِ العام وما يخصُّ الأُمَّة.

 لقد أَرادَ المُشرِّع أَن تكُونَ [الشُّورى] ثقافةٌ في الأُمَّة وتالياً لإِشاعةِ كُلِّ القِيمِ والأَخلاقِ والمناقبيَّاتِ التي تترتَّب عليها أَو تُنتِجها الشُّورى، كما في قولهِ تعالى (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

 العامُ الجديدِ يلزم أَن يكُونَ عامُ [العقلانيَّةِ] فالمِشوارُ أَمامنا طويلٌ طويل فقد نُنقِذُ بالعقلانيَّةِ ما يُمكِنُ إِنقاذهُ أَو نوقِفَ التَّدَهوُر الذي سببهُ الفرديَّة المُتهوِّرة، ولا فرقَ في ذلكَ إِن كانَ على المُستوى الفردي أَو على مُستوى الجماعةِ!.

اضف تعليق