من يجد نفسه متفوقاً علمياً في الدراسة، او متفوقاً اجتماعياً في انتمائه العشائري، او متفوقاً في عمله الإداري ما يمكنه من الصعود الى المراتب العليا، وحتى النجومية في الرياضة والفن، ما الذي يجبره على الالتفات الى الآخرين ومشاركتهم آرائهم وافكارهم، مادام تفوقه يضمن له تحقيق النجاح؟!...
الطريقة الصارخة لصناعة المستبدين تتمثل في الانقلابات العسكرية، والسياسات الفردية في بلدان تدّعي وصلاً بالديمقراطية ومفاهيم من قبيل "المشاركة السياسية"، و"الفصل بين السلطات"، وعلى مدى قرن من الزمن تستّرت انظمة سياسية مستبدة في بلادنا خلف جدران أبنية تحمل مسمّيات متعددة بمضمون يوحي بوجود تمثيل للشعب، وتعددية للآراء، مثل؛ مجلس الأمة، ومجلس الشورى، ومجلس الشعب، ومجلس النواب، بيد أن التطور الثقافي كشف حقيقة هذه الواجهات مما جعل أهل الحكم في موقف صعب بحاجة الى مصداقية جديدة تأتي من واقع الناس انفسهم.
مبدأ التفوق والتميّز يقتل التعددية
رغم انها نزعة نفسية تولد مع كل انسان، بيد إن الفترة الراهنة شهدت تنظيراً وترويجاً عبر مؤلفات عديدة لكتاب متخصصين في علم النفس والاجتماع بحثوا الموضوع من زاوية "التنمية البشرية" على أنها ضرورة للطامحين لحياة أفضل، فمن الطبيعي ان تتلقف شريحة الشباب الفكرة قبل غيرهم، وهم على مقاعد الدراسة او في ميدان العمل، فأصبح اللهاث لتقديم الأكبر، والأكثر، والأفضل بأي طريقة كانت، الشغل الشاغل للشباب ولفئات اخرى في المجتمع معرضة بالإصابة بهذا الداء الوبيل.
وحتى لا نبخس الناس أشيائهم؛ ربما تكون بعض النوايا سليمة في نشر مثل هكذا افكار لشريحة الشباب ولعامة المجتمع من منطلق التحفيز لتحقيق حياة أفضل يحلم بها الجميع، بيد أن المآلات الخطيرة لهذه الفكرة تجعلنا نسجل ثلاث خصال –وربما أكثر- يتّسم بها المتفوقون في الدراسة، او في الوظيفة الحكومية، وحتى العامل في المصنع، وهي؛ الفردية، وحب الذات، وتجاهل الآخرين.
انها سلسلة من الممارسات اليومية تغذيها النزعة النفسية بالتفوق والتميّز، وبمرور الزمن تتكون الشرنقة حول صاحبها فلا يجد حاجة او فرصة لاستجلاء آراء الآخرين، او حتى سماعها، فضلاً عن احتمال الاصطدام بها لشعوره بالاكتفاء الذاتي بما توصل اليه من تفوق وتميّز في اختصاصه وما يقدمه من عمل!
فمن يجد نفسه متفوقاً علمياً في الدراسة، او متفوقاً اجتماعياً في انتمائه العشائري، او متفوقاً في عمله الإداري ما يمكنه من الصعود الى المراتب العليا، وحتى النجومية في الرياضة والفن، ما الذي يجبره على الالتفات الى الآخرين ومشاركتهم آرائهم وافكارهم، مادام تفوقه يضمن له تحقيق النجاح؟!
نحن نتحدث عن الاستبداد السياسي باستمرار، وأن السياسي في الحكومة او في البرلمان لا يحترم آراء الآخرين، وفي نفس الوقت علينا البحث قليلاً عن الخلفية الاجتماعية لهؤلاء، وأنهم وصلوا الى المناصب العالية في الدولة وهم يحملون معهم كميات هائلة من تجارب الفردية، وعبادة الذات عندما كانوا مواطنين عاديين يعيشون بين اوساط المجتمع.
هذا على صعيد الفرد، أما على صعيد الجماعة السياسية والقبلية فان الخطورة نجدها أكبر عندما يكون التفوق سمة ايجابية رائعة تزهو بها أمام سائر الجماعات، فهي الأكثر عدداً وامكانات، وخطورتها تكمن في قربها من مراكز القرار المصيري لشعب بأكمله.
ولعل حادثة طريفة وقعت لجماعتين معارضتين لنظام صدام في بلاد المهجر، يكون مثالاً دقيقاً لما نذهب اليه، فذات مرة رأى ممثل إحدى الجماعات ان يزور مكتب الجماعة الاخرى بغية توطيد العلاقات، ثم التعاون والتشاور على أفضل السبل لكسب الجماهير العراقية التي كانت آنذاك ناقمة بالاساس عليهم كونهم تسببوا في تشريدهم على يد نظام صدام، وضياع حياتهم ومستقبلهم في الغربة، فما كان من جواب الشخص المضيّف بأن؛ "بالحقيقة، نحن الأغلبية في الساحة، بينما أنتم أقلية، فلا نرى تناسباً في الحوار والاتفاق على شيء"!
هذه الجماعة "المعارضة"، وهي في حالة تشرّد وتهجير في الغربة، تحمل صورة ذهنية بهذا الحجم الهائل من التفوق، كيف يكون موقفها ممن يعرض عليها فكرة معينة وهي في قمة السلطة اليوم؟!
ولا يقتصر الأمر على من هم في السلطة، بل حتى خارجها، عندما تتحدث جماعة عن تفوقها في النزاهة ونظافة اليد، والتاريخ الجهادي امام جماعات تحكم بالفساد والمحاصصة والتبعية للخارج، وتقول بشكل علني: أن "لا يوجد تيار او جماعة حقيقية في الوسط الجماهيري غيرنا"! فهل مثل هذه الجماعة، هل نتصور لها القابلية لتقبّل انتقاد بسيط على ممارسة خاطئة لدى افرادها، او فكرة غير صحيحة لدى قائدها؟!
ربما يؤخذ علينا التنكّر لمفهوم التفوق والتميّز الذي يحتاجه كل انسان للنجاح، حتى في المسائل المعنوية، وتوثيق العلاقة بالله –تعالى- والسمو الروحي والنفسي، وهو مطلوب جداً عندما يكون في إطار الجماعة وليس في شرنقة الفرد الواحد. وحسناً ما قاله أحد السياسيين عندما اقترحوا عليه الانضمام الى تحالف مع جماعات اخرى قال: "اريد ان أكون أسداً بين الأسود لا أسداً على مجموعة من الخراف".
صمت الأعلم!
إذاً؛ كيف نستفيد من مبدأ التفوق الغريزي والانساني بعد انتزاع صاعق الاستبداد بالرأي منه؟
لنقوم بزيارة تاريخية الى مقر الخلافة العباسية في بغداد في عهد الامام الجواد، عليه السلام، حيث جيئ بسارق الى الحاكم الشرعي (القاضي) ليصدر بحقه الحكم العادل، وكان في المجلس العلماء والفقهاء الى جانب الحاكم العباسي آنذاك؛ المعتصم، فأمر بقطع يد السارق من الكرسوع، ولكن "الخليفة" لم يقتنع بالحكم، فطلب من الآخرين الأدلاء بدلوهم، فجاء رأي آخر بقطع اليد من المرفق، وتكاثرت الآراء الفقهية، هذا والإمام الجواد صامت لا يتكلم، فلاحظه المعتصم وطلب منه المشاركة في أبداء الرأي الفقهي، فاعتذر الامام بدايةً، فألحّ عليه، فأجاب بأن تقطع من "مفصل أصول الأصابع"، ثم قدم الاستدلال من القرآن الكريم، بأن {إن المساجد لله}، فإن قطعت من الكرسوع أو المرفق لن يبق للمصلي شيء يسجد عليه.
الامام الجواد، عليه السلام، يجعل من الصمت في محضر العلماء والفقهاء أعظم علاج للاستبداد بالرأي عندما يتحاشى التطاول لإبداء الرأي ثم الاعتداد به وبصحته على سواه من الآراء المطروحة، وهذه ربما تكون سهلة بالكلام، بيد أن صاحب الرأي السديد والصحيح يحتاج الى مقدرة عالية للضغط على نفسه بعدم الاستعجال في ابداء الرأي والاستبداد به، والسماح للآخرين بعرض ما عندهم، لعلها تكون مكملة لما عنده هو، فالامام الجواد كان لديه الرأي الصحيح مئة بالمئة وسكت، وهو الامام المعصوم، ولديه علم الأولين والآخرين، فما بالنا نحن اليوم؟
ومثال آخر، و أروع لدينا من أمير المؤمنين، وهو مهمّش سياسياً في زمانه، يقول في كلام له عن طريقة تعامله مع من يُسمون أنفسهم "الصحابة": "أسفت إذ أسفوا و طرت إذ طاروا"، وهم قد سمعوا من فم رسول الله أن "أعلمكم علي"، و "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها"، ولم يمض على هذا الكلام إلا بعض سنوات، ولكن أمير المؤمنين يتواضع الى مستوى اسفاف بعض الصحابة صوناً لمبدأ التعددية والشورى في الإسلام، وليس التعكّز على مبدأ التفوق الذي مابرح أهل السلطة والحكم منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم يتخذونه وسيلة للهيمنة والتسلّط.
إن الرأي السديد والصحيح يفرض نفسه على الواقع بحكم المنطق والعقل، ولا يحتاج كثير عناء من صاحبه، إنها الشمس التي لن يحجبها غربال مهما حاول الحاسدون والماكرون، وإن غيبوا الحق والحقيقة لبعض الوقت، بيد أن شمس الحقيقة تسطع بعد حين، وهذه تجارب التاريخ وسنة الحياة ماثلة للجميع.
اضف تعليق