إسلاميات - القرآن الكريم

الرحمة الإلهية ووجود الشرور

تفسير الآية.. الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ

هذه الآفات ـ كالأمراض والزلازل والفياضانات ونحوها، توجّه الإنسان إلى الله تعالى، وتنبّهه إلى ضعفه وعجزه، وتجعل روحه أكثر شفافية وإشراقاً، وما أعظمها من فوائد؟!. وينبغي أن نشير هنا إلى أنّ (عدم العلم بالفائدة) غير (العلم بعدم الفائدة) والإنسان يمكنه أن يقول: إنّني لا أعلم. وأمّا الموقف...

المفردات

الرحمن: ذو الرحمة الشاملة.

{الرَّحِيمُ}: ذو الرحمة الدائمة.

كيف نوفّق بين الرحمة الإلهية ووجود الشرور؟

مضى بعض الحديث حول الرحمة الإلهية في الآية الأُولى من هذه السورة المباركة.

ولكنّ السؤال هو: كيف ينسجم وجود الشرور كالزلازل والأمراض ونحوها مع الرحمة الإلهية؟

والجواب على ذلك ـ على ما يستفاد من كلمات بعض الفلاسفة ـ: إنَّ الأُمور بلحاظ الخير والشر على خمسة أنواع:

1 ـ ما هو شرّ محض.

2 ـ ما شرُّه غالب على خيره.

3 ـ ما تساوى شرُّه وخيره.

4 ـ ما هو خيرٌ محض.

5 ـ ما خيره غالب على شرّه.

والقسم الأوّل؛ لا يصدر من الحكيم، لمنافاته للحكمة، فالتاجر الحكيم لا يقدم على تجارة يعلم أنّه سوف يخسر فيها 100%(1).

وكذا القسم الثاني؛ فالعاقل لا يقدم على تجارة يربح فيها (400) ديناراً، ويخسر فيها (600) ديناراً مثلاً.

وأمّا القسم الثالث؛ فهو لا يصدر أيضاً من الحكيم، وذلك لأنَّ العاقل لا يندفع نحو عمل إلاّ بمحرِّك يدفعه نحوه، ويطلق على هذا المحرِّك (العلّة الغائية)، والعلّة الغائية هي علَّةُ فاعليةِ العلّةِ الفاعليةِ بماهيتها ـ أي صورتها الذهنية ـ وإن كانت معلولة لها بإنّيتها ـ أي بوجودها الخارجي ـ على ما قُرّر في محلِّه(2).

ومع تساوي نسبة الخير والشرّ في العمل لا يوجد هنالك محرّك يدفع الفاعل نحو العمل، فإذا علم التاجر أنه سوف يربح في هذه التجارة ألف دينار ولكنَّه يخسر فيها ألف دينار أيضاً، فلن يكون له حافز يدفعه للقيام بهذه التجارة.

وبعبارة أُخرى: القسمان الأوّلان من مصاديق (ترجيح المرجوح على الراجح)، والقسم الثالث من مصاديق (الترجيح بلا مرجِّح)، وكلاهما قبيح، بل محال على الحكيم -على ما ثبت في محلِّه-.

والقسم الرابع: لا شكّ في إمكان صدوره من الحكيم، وتحقُّقه في الخارج.

وأمّا القسم الخامس: فهو أيضاً كذلك، وذلك لأنّ ترك (الخير الكثير) لأجل (الشرِّ القليل): شرٌّ كثيرٌ، ولا يمكن صدور (الشرِّ الكثير) عن الحكيم.

وبعبارة أُخرى: إذا كان (فعل الشيء) من قبيل (ما خيره غالب على شرِّه) فيكون (ترك ذلك الشيء) من قبيل (ما شره غالب على خيره) فيستحيل صدور هذا (الترك) على الحكيم، لما سبق من أنَّ القسم الثاني لا يصدر عن الحكيم.

مثلاً: إذا اضطرَّ الأب إلى تطعيم ولده بإبرة مؤلمة ضدّ مرض وبائيّ منتشر، ففي زرق الطفل الإبرة (شرٌ قليل) يتمثّل في الألم الذي يعانيه الطفل، والعوارض المرضية التي قد تستمر مع الطفل لعدّة أيام، ولكن ترك زرق الإبرة يعرض الطفل للإصابة بذلك المرض الخطير، وهو (شرٌ كثير) ولا يمكن صدوره من الحكيم الملتفت إلى أبعاد الأُمور.

وعلى هذا الأساس يمكننا أن نقول: إنّ الشرور التي نلمحها في عالم الطبيعة هي من قبيل القسم الخامس؛ إذ فيها من الخير الشيء الكثير، فلا ينبغي صرف النظر عن ذلك الخير الكثير لأجل الشرِّ القليل الكامن فيها.

ويكفي في ذلك: أنّ هذه الآفات ـ كالأمراض والزلازل والفياضانات ونحوها، توجّه الإنسان إلى الله تعالى، وتنبّهه إلى ضعفه وعجزه، وتجعل روحه أكثر شفافية وإشراقاً، وما أعظمها من فوائد؟!.

وينبغي أن نشير هنا إلى أنّ (عدم العلم بالفائدة) غير (العلم بعدم الفائدة) والإنسان يمكنه أن يقول: إنّني لا أعلم.

وأمّا الموقف الثاني فهو يفتقر إلى الإحاطة التامّة بالمعادلات الحاكمة على هذا الكون الرحيب؛ واكتناه جميع أبعاد الحاضر والمستقبل، وأنّى للإنسان أن يدّعي ذلك!؟.

ونظرة إلى كتاب (الإنسان ذلك المجهول) للدكتور (الكسيس كاريل) كفيلة بالكشف عن جوانب من هذه الحقيقة.

عيِّنات خارجية

1 ـ روي أنّ الذباب وقع على المنصور مرّة فذّبه عنه، ثمّ وقع عليه فذّبه عنه، ثم وقع عليه فذَّبه عنه!

فالتفت إلى الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً: يا أبا عبد الله، لأيِّ شيء خلق الله الذباب؟ فقال (عليه السلام) ليذلّ به الجبّارين(3).

2 ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: دُعي النبي (صلى الله عليه وآله) إلى طعام، فلمّا دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت، فتقع البيضة على وتد في حائط فثبتت عليه، ولم تسقط ولم تنكسر!. فتعجب النبي (صلى الله عليه وآله) منها.

فقال له الرجل: أعجبت من هذه البيضة؟ فوالذي بعثك بالحقِّ ما رزئت شيئاً قطّ.

فنهض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم يأكل من طعامه شيئاً، وقال: من لم يُرزأ فما لله فيه من حاجة(4)!.

3 ـ حكى القزويني: أنّ رجلاً رأى خنفساء فقال معترضاً: ما يريد الله من خلق هذه؟ أَحُسْنَ شكلِها أم طيبَ ريحها؟

فابتلاه الله تعالى بقرحة عجز عنها الأطبّاء حتّى ترك علاجها.

فسمع يوماً صوت طبيب من الطريق وهو ينادي في الدرب.

فقال: هاتوه حتّى ينظر في أمري.

فلمّا أحضروه ورأى القرحة طلب أن يأتوا إليه بالخنفساء، فأحرقها وذرَّ رمادها على قرحته.

فبرئ الرجل. فقال: إنّ الله تعالى أراد أن يعرفني أن أَخَسَّ المخلوقات أعزّ الأدوية(5).

فلسفة الشرور في النصوص الشرعية

1 ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «إنّ العبد إذا كثرت ذنوبه ولم يجد ما يكفِّرها به ابتلاه الله عزَّ وجلَّ بالحزن في الدنيا ليكفِّرها، فإن فعل ذلك به، وإلاّ أسقم بدنه ليكفِّرها به، فإن فعل ذلك به، وإلاّ شدّد عليه عند موته ليكفِّرها به...» الحديث.(6)

2 ـ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «لولا ثلاث في ابن آدم ما طأطأ رأسه شيء [أي ما تواضع ولا خضع وكان يتكبّر ويتجبّر]: المرض، والفقر والموت، وكلّهم فيه وإنَّه معهم لوثّاب»(7).

3 ـ وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال ـ في حديث ـ: «ثمَّ خلقهم [أي الخلق] في داره وأراهم طرفاً من اللَّذات ليستدُّلوا به على ما وراءهم من اللّذات الخالصة التي لا يشوبها ألم، ألا وهي الجنّة، وأراهم طرفاً من الآلام ليستدّلوا به على ما وراءهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذّة، ألا وهي النار، فمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطاً بمحنها، وسرورها ممزوجاً بكدرها وغمومها»(8).

4 ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلاّ عرض له أمر يحزنه، يَذَكَّرَ به»(9).

5 ـ وعنه (عليه السلام) أنه قال: «إذا أراد الله عزَّ وجلَّ بعبد خيراً فأذنب ذنباً تبعه بنقمة، ويذكره الإستغفار»(10). 

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

..................................... 

(1) الأمثلة المذكورة إنما سيقت لمجرد تقريب الذهن، ولا تقصد بحرفيتها.

(2) راجع كتب (علم الكلام) بحث العلة الغائية.

(3) بحار الأنوار 47: 166.

(4) بحار الأنوار 64: 214.

(5) سفينة البحار 1: 431 (بتصرُّف).

(6) بحار الأنوار 5: 315.

(7) بحار الأنوار 5: 316.

(8) بحار الأنوار 5: 316.

(9) بحار الأنوار 64: 211.

(10) بحار الأنوار 64: 229.

اضف تعليق