لقد بات العراقي-بخاصة الشاب- يعيش يومياً هذا التناقض-وليس ازدواج الشخصية كما يعتقد البعض- بين واقعه الاجتماعي الحقيقي المليء بثقافة العيب، والجماعة، والخوف، والقيود، وبين واقعه الافتراضي المليء بالحرية وعدم القيود وتجاوز الحدود! أنه التناقض بين الايمان بما يقوله الشيباني وما يفعله السيبراني...
"لقد بات واضحاً تماماً أن التكنولوجيا المتاحة لنا قد تفوقت على أنسانيتنا" البرت أنشتاين
خلصنا من سلسلة المقالات السابقة عن نهاية التاريخ في العراق، بأن زلزالَي الاحتلال والتكنولوجيا، اللذان تعرض لهما العراق في مطلع الألفية الثالثة أنتجا لنا مجتمعاً يرتدي ثوب الحداثة، ويفكر بعقلية الوراثة، فانتشرت وشاعت مظاهر التكنولوجيا الرقمية، تصحبها ممارسات الثقافة الزراعية.
فها هو طفل مراهق (يرتدي الغتره والعبائة والعكال) لا يكاد يميز بين الضاد والظاء، يملأ الفضاء الرقمي بمقاطع يروج فيها لثقافة عشائرية عبر التكنولوجيا الرقمية. وها هو سياسي تسلق عبر سلّم الديموقراطية، ليقول لك «مالك هيبه يلمالك شر». ثم يأتيك ثالث بملايين الدولارات ليصرفها على جيوشه "الالكترونية" التي تنشط في فضاء «سيبرنيتي» ليروج لثقافة ميليشيات القرون الوسطى.
فكيف تتفق العشائرية مع التكنولوجيا الرقمية؟ وكيف تتفق الديموقراطية مع «مالك هيبة يلمالك شر»؟ وكيف تتفق ثقافة الترويج الالكتروني مع ثقافة الميليشيت والقوة؟ تذكرت في منتصف سبعينات القرن الماضي عندما حصلت طفرة اقتصادية كبرى في العراق، أن أحد كبار تجار اليرسيم «الجت» في البصرة ممن فتح الله عليه وأغتنى فجأةً اشترى، قصراً لأحدى العوائل البصرية المعروفة وفيه مسبح كبير وجميل. ولأنه متعود على تربية الغنم واطعامها الجت فقد تفاجأ أحد زواره ،حين رأى المسبح الجميل ممتلئاً بالغنم وال جت بدلاً عن الماء !!
أسمع كثيراً مصطلح ثقافة التفاهة أو الرثاثة التي سادت كل المجتمعات ومنها العراق. لكني أعتقد أننا نعيش في عصر الحداثة لا الرثاثة، غير أن سرعة التغير التكنولوجي وصعوبة فهمه من الجميع صعّبت على الناس هضم جوهر التكنولوجيا. هذه الظاهرة لا يواجهها الأنسان لأول مرة فقد سبق وواجهها حينما أنتقل من عصر الصيد والتقاط الثمار الى عصر الزراعة، مثلما واجهها (بأشكال مختلفة) عند الانتقال من الزراعة للصناعة، اذ حلّت المدن وأجوائها الملوثة بالدخان بدل القرى وهوائها النقي، وحلت العوائل الصغيرة محل الأسر الممتدة، وحلت السيارة محل الحصان والبغل، وحلّت الطباعة والقراءة محل القصص والحكايات المروية شفاهاً، وتراجعت أهمية المُلّه والحلاق والعطار، لصالح المدرسة والطبيب والصيدلي…الخ.
وحين هجر الناس الريف للمدن باتوا أكثر براغماتيةً، وأقل مشاعراً، وأكثر قلقاً وهي جميعها مظاهر للعصر الذي نعيشه اليوم. الفرق الآن هو أن الثورة الرقمية باتت تتحرك وتتغير بسرعة جعلت الكثيرين يمتلكون التكنولوجيا، لكنهم لا يجيدون استخدامها تماماً مثل الذي يمتلك هاتفاً متطوراً لا يعرف كيف يستخدم أكثر من 5-10 بالمئة من امكاناته. أننا لا نعيش عصر التفاهة، بل عصر البلاهة، حيث عدم القدرة على استيعاب التغيير تجعل الناس يبدون كالسكارى وما هم بسكارى ولكن التطور والتغيير سريع.
التفكير طريقة
لذا فالناس منقسمين بين كثرة من الرافضين والمبتعدين عنها (رافضون)، أو المتقبلين لقشورها والجاهلين بجذورها (المتباهون)، أو قلةٍ من الماسكين بقرارها، والمدركين لآثارها، والمحركين لأسرارها (المحرّكون). وللأسف فأن غالبية العراقيين يقعون ضمن الفئتين الأولى والثانية، لجهلهم بها أو خوفهم منها، بخاصة وأن طريقة تفكيرهم المتصلبة تخشا التغيير وتبحث عن الامان، وهما الشيئيان اللذان لا تستطيع التكنولوجيا الحديثة للأسف توفيره. فالتطور يأتي مع المجازفة كما يقول أحد المحرّكين للتكنولوجيا وقادة ثورتها.
وكأي مركبة تركبها، فكلما زادت سرعتها كلما زادت مخاطرها وتطلبت تدريب أفضل عليها ومعرفة أحسن بأسرارها. أن ما يضاعف أثر التغيير التكنولوجي على العراقيين والثقـافات المشابهة، هو المظهرية التي تميّز الثقافة الاجتماعية في العراق.
فثقافة أهمية الجماعة وحكمها ورأيها في تصرفاتنا تجعلنا نهتم كثيراً بمظاهرنا. انها ثقافة "أكل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس وأنا وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب، واللي ما له كبير يشتري له كبير.
لذلك فأن من الضروري للعراقي-مهما كان علمه أو عمله- أن يبدو متحضراً ومثقفاً أمام جماعته، فيمتلك هاتفاً ذكياً وهو لا يجيد استخدامه، ويمتلك حسابات تواصل على كل المنصات وهو لا يعرف استخداماتها، ويلبس «ملركات» ملفته لنظر الجماعة…الخ. أن ما لا يدركه كُثُر هو أن التكنولوجيا لا تأتي خاليةً من تأثيرات على نمط التفكير والثقافة السائدة. فالتكنولوجيا الرقمية مثلاً مبنية على ثقافة الفردانية والوحدانية، وليس الثقافة الجماعية التي ينشأ على أهميتها كل عراقي.
أنها تأتي مع ثقافة اللامحدود واللا ممنوع واللا محرم، وهذه جميعها تتناقض مع ثقافة الممنوع والعيب والمحرم التي ينشأ عليها العراقي! لاحظوا مثلاً الاختلاف بين ثقافة المضيف والديوان حيث يجتمع الجميع على وفق تراتبية اجتماعية معينة، وضوابط حديث وسلوك معينة، وبين ثقافة غرف الدردشة على مواقع التواصل حيث لا حدود للفردانية والسرية، ولا حياء من الجماعة ولا خوف من سلطتها.
لقد بات العراقي-بخاصة الشاب- يعيش يومياً هذا التناقض-وليس ازدواج الشخصية كما يعتقد البعض- بين واقعه الاجتماعي الحقيقي المليء بثقافة العيب، والجماعة، والخوف، والقيود، وبين واقعه الافتراضي المليء بالحرية وعدم القيود وتجاوز الحدود! أنه التناقض بين الأيمان بما يقوله «الشيباني» وما يفعله السيبراني !!
ان التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم هو أننا غير قادرين على منع أو تقليل سرعة هذا التطور، وغير مؤهلين أو مدرّبين للتغير، وغير قادرين على الحد من سرعة هذا التدهور!! فما الحل؟ وما الطريق لمواجهة تحديات العصر؟ الحل في اعتقادي يكمن في العودة للجذور، فكيف ذلك؟
اضف تعليق