يشهد العالم عامة والعراق خاصة في السنوات الأخيرة تحولات وتغيرات مناخية معقدة تضيف عبئاً على المواطن يضاف إلى ما يعانيه أصلاً من تلوث بيئي وغذائي ومخاطر جمة على المستوى الأمني والصحي، بسبب الجوائح والأوبئة والإرهاب والعصابات الخارجة عن القانون وغيرها...
يشهد العالم عامة والعراق خاصة في السنوات الأخيرة تحولات وتغيرات مناخية معقدة تضيف عبئاً على المواطن يضاف إلى ما يعانيه أصلاً من تلوث بيئي وغذائي ومخاطر جمة على المستوى الأمني والصحي، بسبب الجوائح والأوبئة والإرهاب والعصابات الخارجة عن القانون وغيرها.
إذ شهدنا في السنوات الأخيرة تصاعد مخاطر الارتفاع الكبير والتاريخي لدرجات الحرارة، والتراجع المستمر في الخدمات العامة بل العجز الحكومي في مواجهة المخاطر الطبيعية أو التي من صنع الإنسان، من هنا بات التساؤل عن جدوى الإنذار المبكر ليس لمواجهة المخاطر التقليدية فحسب بل المخاطر السيبرانية المستحدثة والحروب والهجمات الإرهابية والجريمة المنظمة وغيرها من التطبيقات التي تهدد الأمن الإنساني، بعبارة أخرى أيك المخاطر من شأنها ان يهدد حياة الفرد والمجتمع وتعرقل جهود التنمية والاستقرار، وتعصف بالحقوق والحريات الفردية والعامة، بل أنها وفي الكثير من الأحيان تهدد التعايش بين الفرد والأخر أو بين الفرد والطبيعة أو البيئة المحيطة لذا بات من الواضح أهمية تحسين نظم الإنذار المبكر في العراق لترتق إلى مستوى المخاطر التي تحيق بالعراقيين.
فحين تضع الحكومات العراقية في مقتبل عمرها برنامجاً حكومياً يفترض ان تأخذ بنظر الاعتبار أهمية الحد من المخاطر بكل مستوياتها وصورها وتضع في مقدمة أولوياتها برنامج الإنذار المبكر للتأكيد على تغييره من حيث الكم والنوع فبالأمس القريب تلوح في الذاكرة فاجعة مستشفى ابن الخطيب في بغداد ومستشفى الحسين في محافظة ذي قار، فلو ان نظم الإنذار المبكر فعالة لما كانت النتائج كما هي في الواقع، وحماية الأرواح والممتلكات يفترض ان يتم بمستويين (الأول الاستباقي بوضع وسائل التنبيه للمخاطر أولاً وتوفير أدوات الحد من الخطر ومحاصرة أسبابه) (والمستوى الأخر بمعالجة الكارثة والحد من أثارها ولو كان الأمر بصيغة تعويض ضحايا تلك الحوادث وجبر الخواطر).
وعودا على بدء نقصد بأنظمة الإنذار المبكر منظومة لاستكشاف المخاطر والتحذير منها مسبقاً لدرء الكوارث والأزمات، والاستعداد لاتخاذ القرارات والسياسات الإستراتيجية والإجراءات الإدارية المناسبة لمواجهتها بمنع حدوثها بشكل كلي أو جزئي أو على الأقل الحد من حجم أضرارها، فنحن نتحدث عن نظام متكامل للرصد والتحليل للأخطار ورفع مستوى التأهب والاستعداد للمواجهة، ويتطلب الأمر بالعادة توفير الإمكانيات البشرية والمادية المناسبة، وليس الأمر بما تقدم فقط بل لابد من التأسيس لمراكز بحث أو التعاون مع الموجود منها لدراسة الأسباب والمخاطر واقتراح الحلول كما يتطلب الأمر تطوير مديريات الدفاع المدني في جميع المحافظات ورفدها بالعناصر الكافية والآليات المناسبة لتقوم بدورها الطبيعي بالمواجهة المبكرة للمخاطر.
وكل ما تقدم نستطيع ان نسميه بالعمل المبكر الذي لا يقل أهمية عن الإنذار المبكر بقرب حلول كارثة أو ما سواها من المخاطر، ويشار إلى ان التشريعات العراقية أشارت إلى بعض المفاهيم المتقدمة نذكر منها أن الدستور العراقي للعام 2005 الزم الحكومة بالعمل على توفير الظروف المناسبة للحياة الكريمة إذ ورد في المادة (30) منه أن (تكفل الدولة للفرد وللأسرة وبخاصة الطفل والمرأة،... المقومات الأساسية للعيش في حياةٍ حرة كريمة)، وتنص المادة (46) من قانون الصحة العامة رقم (89) لسنة 1981 المعدل على ان لوزير الصحة (ان يعلن ببيان إي مدينة أو أي جزء منها منطقة موبوءة بأحد الأمراض الخاضعة للوائح الصحية الدولية، وللسلطات الصحية في هذه الحالة اتخاذ جميع الإجراءات الكفيلة بمنع انتشار المرض ولها في سبيل ذلك: أ- تقييد حركة تنقل المواطنين، ب- غلق المحلات العامة كدور السينما والمقاهي، ج- منع بيع الأغذية والمشروبات والمرطبات، د- عزل ومراقبة ونقل الحيوانات)، وما تقدم من إجراءات لاحقة للكارثة في حين نحن بحاجة إلى إنذار مبكر من شأنه احد من وقوعها أصلاً.
لذا عملت المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ومنذ مدة ليست بالقصيرة على التأكيد المستمر بضرورة اتخاذ كل الاحتياطات اللازمة لمواجهة الكوارث بالنظر لما شهده العالم من كوارث تسببت بفقدان أرواح الآلاف من الناس كالكوارث النووية التي وقعت في الاتحاد السوفيتي سابقاً والفيضانات وأمواج تسونامي التي اجتاحت في غير مرة سواحل دول جنوب ووسط أسيا أو الأمريكيتين، كما نهضت العديد من الجهات بدور موازي ومنها المنظمات غير الحكومية الدولية كمنظمة العفو الدولية والصليب الأحمر والهلال الأحمر وغيرها والتي دأبت على تطوير وتحسين وتبني وسائل وإجراءات تتصل بالإنذار المبكر.
ومن مقتضى الواجب ان المنظمات غير الحكومية العراقية مدعوة هي الأخرى لتبني هذا النهج الإنساني بلفت الأنظار إلى المخاطر المحتملة والترويج للآليات المناسبة للتصدي لها كمخاطر التغير المناخي والحركة الكبيرة للسكان بسبب المخاطر الاجتماعية أو الاقتصادية أو الإرهابية وحتى السياسية الناشئة عن الأطماع في الاستحواذ على السلطة بشكل غير مشروع.
ويعتمد نظام الإنذار المبكر الفاعل على عناصر جوهرية لابد من اجتماعها جميعا ليكون لدى الجهات المعنية القدرة والفاعلية في المواجهة وهي:
1- المعرفة: بجمع البيانات بشكل متكامل ومبكر والقدرة على تحليلها لاستنتاج الخطر وحجمه.
2- لرصد والمراقبة الفاعلة: والأمر يتطلب توافر أجهزة ومعدات خاصة ومناسبة.
3- نشر المعلومات والبيانات: المتعلقة بالخطر من حيث مصدره وحجمه وكيفية مواجهته.
4- الاستعداد الفاعل: لمواجهة المخاطر لابد من الاستعداد بشكل جيد وبناء القدرات الذاتية للأفراد أولاً وكذا الأمر في القدرات المحلية واخيراً بناء القدرات على المستوى الوطني.
وتتجلى المخاطر التي تحدق بالمجتمعات في جوانبها السلبية التي تنعكس ولا شك على التنمية ورفاهية الشعب العراقي فبدل الانتقال وعلى سبيل المثال إلى المستشفيات التخصصية والارتقاء بالخدمة الصحية والتمريضية نجد وزارة الصحة تكافح لتتخلص من تبعات الحلول الترقيعية كالمستشفيات أو الأقسام الكرفانية التي تعد وبحق خطراً محدقاً بحد ذاتها، وكذا دوائر الدفاع المدني التي تتصدى للمخاطر تجد نفسها في دوامة مراقبة النشاطات الفردية غير المسؤولة التي تسببت بكوارث إنسانية كغرق العبارة في مدينة الموصل أو الحريق في قاعة المناسبات في قضاء الحمدانية وغيرها من المناسبات الأليمة.
فلا مفر والحال هذه من إيجاد استراتيجية حقيقية تشترك فيها الوزارات المعنية كالبلديات والداخلية الصحة والتخطيط والمحافظات للتأسيس لمستوى متقدم من الإنذار المبكر في جميع المباني العامة والخاصة وإيجاد المتحسسات اللازمة للتنبؤ بالمخاطر التي تتجدد بتقلب فصول السنة أو الأوضاع العامة في العالم والمنطقة الإقليمية والبلاد، وبهذا فقط يمكن ان يكون لمنظومة الإنذار الدور الريادي بالتهيئة لتحقيق سبل السلامة العامة والإسهام في تحقيق التنمية الشاملة في المجتمع العرقي، إذ لا يمكن إنكار الدور الذي تؤديه مثلاً أرقام الهواتف المعلنة للدوائر الخدمية في الحد من المخاطر بيد ان ما ينقصنا العمل واتخاذ الإجراءات الاستباقية أو ما يعرف بالتدابير الاحترازية الكفيلة بمنع وقوع المخاطر والحد من أثارها، كما يعوزنا الثقافة الشعبية القائمة على إدراك المخاطر ونتائجها والإسهام الفاعل في الحد منها حين يكون الفرد ايجابياً ساعياً إلى المساهمة في الشأن العام.
أضف لما تقدم يستحسن إلزام الشركات المشغلة لخدمة الهواتف والاتصالات والانترنيت في العراق بموجب العقود الموقعة معها بالتعاون مع الجهات المعنية لإرسال رسائل تحذيرية ان وقع خطر ما في ناحية من نواحي العراق، وكذا الأمر بتتبع مصادر الخطر وإبداء المساعدة الممكنة في ذلك، ولا يخلو الأمر من أهمية التوسل بوسائل الذكاء الاصطناعي وتقنيات الأقمار الاصطناعية والمناطيد المتطورة والطائرات غير المأهولة والروبوتات بكل أنواعها واستحداث مراكز رصد وتحليل البيانات في كل محافظة، وتوثيق التعاون مع المنظمات العالمية والدول المجاورة لتفعيل منظومة الإنذار الإقليمي والعالمي المبكرة.
كما يشار إلى أهمية إيجاد العوامل التي تساعد الأجهزة والجهات والأشخاص المكلفين بمهام إطلاق الإنذار المبكر ومنها:
أولاً: البرامج التوعوية التي تستهدف رفع الوعي الشعبي بالمخاطر المحتملة وسبل المواجهة وهو ما أشار إليه قانون الدفاع المدني العراقي رقم (44) لسنة 2013 في المادة (11) بالنص على (توعية المواطنين بالتدابير الوقائية للدفاع المدني من خلال وسائل الإعلام).
ثانياً: غرس الثقة الشعبية بالأجهزة المعنية بالدفاع المدني والمتخصصة بتشخيص المخاطر.
ثالثاً: إيجاد وسائل مبتكرة للتنسيق والاتصال بين مختلف الجهات المعنية بالتشخيص أو المعالجة في حالة وقوع الكوارث.
رابعاً: أبعاد السياسيين عن الاستثمار في الكوارث إذ كثير ما يحصل ان أعضاء المجالس التمثيلية والأحزاب السياسية يقومون بالتصريحات السلبية والتي تنعكس بشكل خاص على الرأي العام وعلى جهود احتواء الكوارث إذ نحن بحاجة لتشريع يمنعهم من أي تصريح غير نشر ثقافة النجاة من المخاطر قبل الانتهاء من جهود الاحتواء والتحقيق المتكامل في الموضوع.
خامساً: الدور الريادي الذي تلعبه وسائل الإعلام في التوعية والتثقيف وقيادة جهود الإنقاذ.
سابعاً التأسيس لأجهزة حكومية قادرة على مواجهة المخاطر السيبرانية والواقعية والقادرة على التأثير في الواقع أثناء الكوارث.
ومما يشار إليه ان الاتفاقيات الدولية أشارت إلى أهمية الإنذار المبكر ومنها اتفاقية التبليغ المبكر عن الحوادث النووية للعام 1986 حيث جرى التأكيد على قيام الدولة التي تشهد حادثاً نووياً وعلى الفور إلى إبلاغ الدول التي يحتمل ان تضار من ذلك، وكذلك اتفاقية حماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات المائية لسنة 1992 بصيغتها المعدلة للعام 2003 إذ ألزمت في المادة الرابعة عشر منها الدول على تبليغ الأطراف المتشاطئة دون إبطاء في حال حصول حالة طارئة، واتفاقية استخدام المجاري المائية للملاحة للعام 1997 والتي اشتملت على نص مماثل.
والأمر ذاته في اللوائح الصحية الدولية للعام 2005 التي ألزمت بضرورة إخطار الدول ومنظمة الصحة العالمية في حال تفشي مرض يمكن أن يشكل وباءً أو جائحة، لذا الحكومة العراقية مدعوة إلى عقد اتفاقيات مع الدول المجاورة للإنذار المبكر في أحوال مثل تشكل موجات السيول على المناطق الحدودية مثلاً أو تزايد احتمالية حصول اختراق للحدود من قبل مجموعات خارجة عن القانون وكذا الأمر بتبادل الخبرات والإمكانيات لمواجهة المخاطر ان وقعت.
اضف تعليق