فعاشوراء ليست معركة خاطفة بل أسست لمنهج قويم أساسه القرآن الكريم، والإسلام العظيم، وصارت ثقافة قيمية حضارية متنامية تقود الحياة عبر الأجيال المتتالية حيث تشيع في الأمة رفض الظلم والجور وثقافة الاستعباد والخضوع للسلطان الغشوم أو الحاكم الظلوم، لأن الإسلام يأبى لهم ذلك، ورسوله والنفوس الحرة...
قال رسول الله (ص): (حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ أَحَبَّ اَللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْناً حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنَ اَلْأَسْبَاطِ)
مقدمة حضارية
أخطأت الحضارة الرقمية حين أطلقت على نفسها هذا الاسم ولبست هذه الحلَّة القشيبة وهي خاوية على عروشها من كل معاني الحضارة الحقيقية وذلك لأنها أعطت قادتها لإمبراطورية الشيطان والشَّر العالمية لتقودها من فساد إلى فساد أبشع، ومن جريمة إلى جريمة أشنع، ولذا هي ليست حضارة بالمعنى الدقيق للكلمة بل هي مَدَنيَّة، وتقدم تقني، وثورة رقمية.
غيَّرت وجه التاريخ فعلاً، ولكن بدل أن تتقدَّم باتجاه الإنسانية وتحقيق حلم البشر بالسعادة وذلك في ظل دولة الحق والعدل والحقوق الإنسانية المشتركة في هذه الحياة، ساقتها سوق القطيع إلى سوق العمل ورمت بها جميعاً في أتونه لأنهم قاسوا القيمة بما يقدِّمه الإنسان إلى الحضارة من خدمة وتعطيه مقابلاً له من مال فصارت قيمة الإنسان بما يملك لا بما يؤمن ويعتقد، فترك الناس القيم الحقيقية والمنظومة القيمية الحضارية ومالوا إلى الحياة المادية بكل قساوتها وظلمها وظلامها فنسوا أنفسهم والله سبحانه نسيهم من رحمته وتركهم يتقاتلون ويتصارعون على الدنيا الفانية.
والحضارة -في الحقيقة والواقع- أنها حضور الإنسان لدى أخيه الإنسان وفق منظومة القيم المثلى والعمل والتكامل من أجل بناء الحضارة الإنسانية التي يكون فيها الإنسان هو المقياس وليس المال أو السلطة أو أي شيء آخر، لأن الإنسان يُعرف ويُقاس بإنسانيته وإلا تحوَّل إلى بهيمة لا يعي شيئاً، بل ربما يتحول إلى وحش من أشرس الوحوش بحيث أنه يبيد مدينة بكاملها بلحظات فيحرقها بالنووي دون أن ترجف له عين أو يطرف له جفن فأي وحش يمكن أن يفعل ذلك إلا الإنسان المثقف بثقافة المدَنية الرقمية المعاصرة؟
فالحضارة ليست أبنية وناطحات سحاب، ولا تقنيات عالية في المراقبة والتجسس، ولا أسلحة فتاكة ودقيقة من أسلحة الدَّمار الشَّامل، فهذه تعبِّر عن الحقارة وعقدة أوديب في النفوس الحقيرة لبعض أهل السياسة والخساسة من أولئك الطغاة من رؤوس العالم المتعفنة والمتعجرفة الذين يريدون أن يسيطروا على العالم والشعوب بالقوة ويفرضوا عليهم قيمهم التافهة وحضارتهم الداعرة بكل المعاني القذرة، والمباني الوسخة، وبالتالي يفرضوا ثقافتهم المنحلَّة وأخلاقهم المنحطَّة الخالية من كل قيمة وفضيلة وأنَّى لهم ذلك والعالم اليوم فيه أكثر من ثمانية مليارات من البشر وفيهم من المسلمين حوالي الربع وهؤلاء يأبى عليهم دينهم وقرآنهم وقيمهم أن يكونوا كأولئك الأشرار الأشقياء من شذاذ الآفاق، فسلَّطوا عليهم أذنابهم وإعلامهم وكل ما لديهم من آلات في التشويق والتشويه، والترغيب والترهيب في سبيل أن يتخلَّى المسلمون عن دينهم وعقيدتهم كما فعل بعض أصحاب المسيح (ع) حيث جعلوه محصوراً في الكنيسة ولدقائق معدودة في يوم الأحد.
من الأمويين الجُدد
ونلاحظ أن استجابة البعض من المتأسلمين، أو البعض ممَّن نسميهم بـ(الأمويين الجُدد)، أن يستجيبوا بل ينبطحوا تحت أحذية أصحاب الإمبراطوريات البراقة والقوى العالمية الشريرة حيث رأوا فيها قوة لا تقهر وأنها استلمت مكان رب العالمين -كما يتصور الكثير من هؤلاء الجبناء- وأن قراراتها أوامر كالقضاء والقدر تماماً لا يمكن أن تتخلف عن هدفها ومرادها ومَنْ يخالفها له جهنم وبئس العقوبات والحصار والتجويع وكل أنواع الحرب الناعمة، والخشنة، التقليدية أو غير التقليدية، ثم اخترعوا الجيل الرابع من الحرب وهي الفناء الذاتي من الداخل حيث يشعلون الحرب الأهلية في البلد الذي يريدون فتحرق الأخضر واليابس ولا تبقي ولا تذر شيئاً فيه.
وانتبه أولئك الأشقياء إلى وجود مثل هؤلاء في صفوف الأمة فاخترعوا لهم قادة ودرَّبوهم ليس على السلاح الحديث والمتطور بل على الإسلام الأمريكي البريطاني الذي يريدونه، ثم أعطوهم كل الصلاحيات في تكفير الأمة الإسلامية إذا لم تستجب لبدعهم وترضخ لآرائهم الشاذة، فراح أولئك يلقون الفتاوى التي تدرَّبوا عليها وكل ما تطلب الأمر فتوى أصدروها بإشارة من سيِّدهم في أقبية الظلام في لندن وواشنطن وغيرها حتى أخرجوا الأمة من دينها وكفَّروها جميعها، ثم جاءهم الأمر أنه حان الآن بعد التكفير القتل والتهجير والتدمير، فأعلنوا الحرب باسم الجهاد حتى أنهم اخترعوا جهاد النكاح، وأجبروا الناس على تصديقه والعمل به، وما هو أقذر من ذلك بكثير ولكن لا نستطيع الكتابة والبوح هنا أكثر لأنه من الكوارث الإنسانية حقاً.
فنزلت الفتاوى علينا مثل المطر وخصصوا أكثر من ألف من القنوات الفضائية التي كانت مخصصة للفسق والفجور وللرقص والأغاني في أفضل الحالات ففي لحظة وبقدرة قادر تحوَّلت كلها إلى محطات لتكفير الأمة وجاؤوا بسقاطات من كل بلد، وبحثوا عن كل نطيحة ومتردية اجتماعياً وكل شاذ في الأمة وأطالوا له ذقنه، وقصَّروا له ثوبه، وتركوا لسانه على غاربه وخصصوا له الفضائيات وراح يبث وينفث سمومه كالأفاعي في صفوف الأمة فأدخلوها في حيص وبيص حتى اختلط الحابل بالنابل، والسليم بالقاتل، والكل صار يتحدَّث في الدِّين ويفتي بالقتل والتدمير واستباحة الأعراض والأموال لهذه الأمة المسكينة لا سيما أولئك الأراذل الذين لا يعرفون الوضوء، أو أوليات الصلاة فأطالوا ذقونهم وراحوا يتطاولون على أئمة المساجد ويقتلون العلماء وكل مَنْ لم يسر بطريقهم الإجرامي وكما تريد الحكومة العميقة في دول الشَّر العالمي لا سيما إمبراطورية الشيطان.
ثقافة (بالذبح جيناكم)
وهكذا راحوا يعيثون الفساد في الأرض فقد أعدُّوا لكل حق باطلاً، ولكل سُنَّة بدعة تضاهيها وتنافسها وتسقطها، ولديهم لكل طائفة تهمة لتكفيرهم جاهزة، فكل المذاهب، والطوائف، والملل الإسلامية كافرة ويباح دمها ومالها وعرضها إلا ما سار بنهجهم التكفيري الأموي، ولما ظهرت شوكتهم وقوتهم كان شعارهم (بالذبح جيناكم)، أي يجب ذبح كل مسلم لا يؤمن بما يؤمنون به من تكفير وتهجير وقتل وإجرام فخافهم الناس فسكتوا عنهم، أو هربوا منهم في كل أرض تحملهم وتحميهم من هذه الوحوش الكاسرة المنفلتة من كل رباط، ولكن مَنْ كان مثلهم ومن طينتهم وجدها فرصة ليحقق كل ما في نفسه من إجرام كالقتل والسرقة والنهب وركوب المحرمات ما ظهر منها وما بطن فصار مثلهم وربما أسوء منهم لأنهم لا يقبلون منه الولاء إلا أن يقتل أكبر عدد ممكن من الأبرياء وربما طلبوا منه أن يقتل أقرب الناس منه كأمِّه كما فعل ذلك الشَّقي في الرَّقة السورية.
والعجيب أن كل هذه القطعان التكفيرية يوحدِّهم شعار واحد وانتماء وهدف واحد أيضاً وهو (إعادة بني أمية) أو حكومة بني أمية وسلطة الأمويين وكم سمعناهم ينادون بسلطان معاوية ويزيد وبني أمية اللعناء على لسان الوحي المقدس في القرآن الحكيم، وعلى لسان الصدق والحق من الرسول الكريم (ص)، ولكنهم يرونهم أيقونة الحكم وتاج الدولة الإسلامية بل درَّة التاج في الحضارة الإسلامية كما قال ذاك الرجل في كتابه.
بهذه الثقافة التدميرية المنحطة ينادي أرباب وأصحاب الحضارة الرقمية اليوم ومَنْ استجاب لهم من هؤلاء الأشقياء، تاركين الثقافة الإسلامية الأصيلة التي صنعها وبينها القرآن الحكيم ورسخها الرسول الكريم في سيرته وسنته المطهرة، ولكن أين هؤلاء الأمويين الجدد من ثقافة الإسلام المحمدية الراقية فهم أبعد ما يكونوا عنها لأنهم عرفوا ثقافة أبو سفيان الذي يُقال: إن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال: (صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة، واجعل أوتادها بني أمية فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار). (الاستيعاب: ج2 ص690)
وفي تاريخ الطبري: (يا بني عبد مناف! تلقفوها تلقف الكرة، فما هناك جنة ولا نار). (تاريخ الطبري: ج11 ص 357)
وفي مروج المسعودي: (يا بني أمية! تلقفوها تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة). (مروج الذهب: ج1 ص440).
وروى ابن عساكر في تاريخه عن أنس: (إن أبا سفيان دخل على عثمان بعد ما عمِي فقال: هل هنا أحد؟ فقالوا: لا. فقال: اللهم اجعل الأمر أمر جاهلية، والملك ملك غاصبية، واجعل أوتاد الأرض لبني أمية). (تاريخ دمشق: ج6 ص 407)
هذه هي ثقافة القوم الجاهلية بكل تجلياتها ولكن حاول معاوية بمكره ودهائه أن يلبسها ثوباً رقيقاً من الدِّين وما نطلق عليه الإسلام الأموي الشامي الذي كان جاهلاً بكل معنى الكلمة بالإسلام المحمدي الذي جاء به رسول الله (ص) وذلك لأن بني أمية كانوا على الطرف النقيض والمعادي والمحارب لهذا الدِّين ورسوله الكريم فكيف يحيط به علماً وسيده وقائده معاوية كان حامل راية وعَلَم المشركين في كل غزواتهم للنبي والمسلمين في المدينة المنورة، وما دخل هو وأبوه وإخوته وأهله من الأمويين الإسلام إلا بعد الفتح وكانوا من الطلقاء أي أنهم من عبيد رسول الله (ص) الذين أطلقهم وما أعتقهم ولذا كانت الحكومة والخلافة محرَّمة عليهم أبداً، فاخترعوا ديناً يناسبهم ليس فيه ذكر لأمير المؤمنين وأهل البيت (عليهم السلام) وسابقتهم وجهادهم وتضحيتهم فعندهم كان أول مَنْ صلى مع رسول الله سبع سنين لا يصلي، أو معاوية الملعون خال المؤمنين وكاتب الوحي.
وعندما سلَّطه الخلفاء من قريش على رقاب أهل الشام راح يعدَّهم للانقضاض على المشروع الإسلامي وحييت فيه روح أبو سفيان ومشروعه الجاهلي من جديد، ولما تمكن من بناء قوة وجيش صنعه لمآربه وهيَّأه لمشروعه المناهض للإسلام وجعل عثمان الأموي سلَّماً ليصعد على كتفه وبالفعل استخدم مقتله حجة لقتل الإسلام وإحياء الجاهلية الأموية، فما كان منه إلا أن حرَّض طلحة والزبير وأمهما لحرب الجمل لإضعاف قوة الإمام علي وجيشه حيث أعلن الإنشقاق عن الدولة الإسلامية بل والحرب عليها فكانت حرب صفين التي كادت أن تقضي عليه لولا حيلة صاحبه وربما أخاه عمرو بن العاص في رفع المصاحف والاتفاق مع المنافقين لوقف الحرب ومن ثم مهزلة التحكيم وقصة أبو موسى الأشعري وما جرى مع الخوارج وفي الأثناء كان معاوية لا يفتر لحظة في أن يرسل جيوشه وطلائعه ليغيروا على القرى والبلدات الآمنة فيقتلوا ويسرقوا وينهبوا ويرهبوا ويرعبوا الناس في أطراف العراق، ووادي القرى وحتى أطراف اليمن ومصر وغيرها مع حركة ملحوظة في مسألة الاغتيال السياسي لرجال الدولة الإسلامية كعمَّار وسعد والأشتر ومحمد بن أبي بكر وغيرهم من القادة.
فاستخدم بكل قوة ما يُسمَّى في هذا العصر بالإرهاب بل والإرعاب وكان شعاره (بالذبح جيناكم) كما يرفع أتباعهم وأنصارهم الجدد في هذا العصر والتي رفعها قطعان التكفير والإرهاب في كل مكان ومازالوا أزالهم الله من الحياة وأراح منهم الخلق لأنهم شر الخلق والخليقة كالخوارج الذين خرجوا من الإسلام وحاربوا أهله بتلك الثقافة النشاز والتي جاءت من الجاهلية وليس لها في الإسلام لا اسم ولا رسم ولا نصيب.
ثقافة عاشوراء الحضارية
وإذا عرفنا ملابسات تلك الظروف التي عاشها الإمام الحسين (ع) خلال عشرين سنة من حكم معاوية نستشعر مدى الخطر الكبير الذي أحدثه في ثقافة الإسلام والمسلمين، حيث قلبها رأساً على عقب، لا سيما بعد أن أشاع وأمر بلعن ومسبَّة أمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين المطهرين على منابر المسلمين واستمرت لستين سنة حتى عالم 101ه حيث رفعها عمر بن عبد العزيز بقصة معروفة، تلك هي ثقافة التكفير، والتقتيل، والحرق، والتدمير التي أشاعها معاوية وبنو أمية في الأمة الإسلامية بمحاولة لدفن الإسلام وإحياء الجاهلية.
فالثقافة الإسلامية مبنية على السلام والمحبة والعيش المشترك للجميع، ولكن ثقافة معاوية مبنية على قتل كل المعارضين، وحرق بيوتهم ومدنهم وسرقة وسلب ونهب مقدراتهم وأموالهم كما فعل بسر بن أرطاة في وادي القرى وطريقه إلى اليمن حيث أحرق عشرات القرى بأهلها، كما أن رجال معاوية وجيشه من قطاع الطرق شنوا الغارات على أطراف العراق فخطب أمير المؤمنين خطبته المعروفة بخطبة الجهاد حيث قال فيها: (حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ اَلْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَوْطَانُ وَهَذَا أَخُو غَامِدٍ وَقَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ اَلْأَنْبَارَ وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ اَلْبَكْرِيَّ وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ اَلْمُسْلِمَةِ وَاَلْأُخْرَى اَلْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَقُلْبَهَا وَقَلاَئِدَهَا وَرُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَاَلاِسْتِرْحَامِ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً). (نهج البلاغة: ج۱ ص6۹ خ 24)
بهذه الثقافة حكم معاوية بن هند الهنود ثم ورَّثها لدعيِّه يزيد الشَّر ليُكمل الطريق والمشوار بقتل الصالحين وأهل الفكر والتدبير في هذه الأمة ولذا في أول رسالة يرسلها لوالي المدينة كان يأمره فيها بأخذ البيعة له منهم، ثم أرفقها برسالة أخرى كأنها أذن الفأرة يقول فيها: (فخذ حُسيناً، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا)، ومَنْ أبى فابعث إليَّ برأسه، وذلك لأنه تربَّى على القتل وقطع الرؤوس والذبح، ولذا وصفه الإمام الحسين (ع) للوليد قائلاً: (يَزِيدُ رَجُلٌ فَاسِقٌ شَارِبُ اَلْخَمْرِ قَاتِلُ اَلنَّفْسِ اَلْمُحَرَّمَةِ مُعْلِنٌ بِالْفِسْقِ، وَمِثْلِي لاَ يُبَايِعُ مِثْلَهُ)، (بحار الأنوار: ج44 ص۳۲4)، فالذي يستهين بالدماء والأعراض والأموال كيف يمكن أن يُبايَع ويُعطى الشَّرعية في الحكم؟
فعاشوراء ليست معركة خاطفة بل أسست لمنهج قويم أساسه القرآن الكريم، والإسلام العظيم، وصارت ثقافة قيمية حضارية متنامية تقود الحياة عبر الأجيال المتتالية حيث تشيع في الأمة رفض الظلم والجور وثقافة الاستعباد والخضوع للسلطان الغشوم أو الحاكم الظلوم، لأن الإسلام يأبى لهم ذلك، ورسوله والنفوس الحرة الأبية، كما قال الإمام الحسين (ع): (أَلاَ وَإِنَّ اَلدَّعِيَّ اِبْنَ اَلدَّعِيِّ قَدْ تَرَكَنِي بَيْنَ اَلسَّلَّةِ وَاَلذِّلَّةِ، وَهَيْهَاتَ لَهُ ذَلِكَ مِنِّي هَيْهَاتَ مِنَّا اَلذِّلَّةُ أَبَى اَللَّهُ ذَلِكَ لَنَا وَرَسُولُهُ وَاَلْمُؤْمِنُونَ وَحُجُورٌ طَهُرَتْ وَجُدُودٌ طَابَتْ أَنْ يُؤْثَرَ طَاعَةُ اَللِّئَامِ عَلَى مَصَارِعِ اَلْكِرَامِ). (الاحتجاج: ج۲ ص۳۰۰)
هذه هي ثقافة العزة والكرمة والحقوق والعدالة والقسط الاجتماعي، وهي التي أعادتها عاشوراء فأحيت الإسلام وثقافته الربانية ولذا كانت مقابل ثقافة الجهل والجاهلية، ونعم ما قاله الباحث البحراني في كتابه (ثقافة عاشوراء): "لقد ترك الإمام الحسين (ع) في قضية عاشوراء تراثاً إنسانياً ومعرفياً ضخماً وعملاقاً سيظل يرفد الفكر الإنساني وحركة المجتمعات البشرية إلى نهاية التاريخ بما يحتاجه من قيم ومبادئ حيَّة لمواجهة تحديات الحياة والمعرفة وذلك من خلال ما تنضح به عاشوراء من قيم معرفة هائلة.
فهناك مجموعة ضخمة من الكلمات والمواقف التي جسَّدها الإمام الحسين (ع) في هذه المحطة التاريخية المهمة من حياة الإنسانية والتي بموجبها أصبحت عاشوراء ليست مجرد قصة مواجهة عابرة من قصص المجابهات التاريخية في حياتنا الإنسانية والتي يمكن المرور عليها سريعاً، أو التي يمكن سلق قضاياها سلقاً سريعاً دون اهتمام وروية وتأمل.
إن عاشوراء هي جامعة سياسية ثقافية تاريخية إنسانية اجتماعية وأخلاقية شاملة تحت سقف واحد يجب أن تحظى منَّا بكل عناية واهتمام وأن تكون في قمَّة سلَّم أولوياتنا في عالم الوعي والمعرفة والبصيرة، حيث شكَّلت عاشوراء بما هي ثورة وحركة ونهضة في كل مفردة من مفردات الفكر الإنساني حضوراً مذهلاً في هذا الفكر بل وأغنت تراثه بما يحتاجه من معانٍ وقيمٍ، وتمثَّل ذلك في تفاصيل قصة عاشوراء وحيثياتها وذلك منذ شرارتها الأولى وحتى لحظات وقائعها الدامية، عندما قدَّمت عاشوراء قامة بحجم الإمام الحسين (ع) قرباناً عظيماً من أجل قيمها وأهدافها العليا". (ثقافة عاشوراء، الدكتور راشد الراشد: ص26)
فعاشوراء صنعت ثقافة راقية وحضارة إنسانية متنامية رائعة جداً في الحياة الإنسانية برمتها، حيث خرجت عاشوراء من حيِّز الشيعة والموالين وعشاق الإمام الحسين (ع) وصارت قضية إنسانية وتشيع في العالم ثقافة حضارية إنسانية مناهضة ورافضة لثقافة الخضوع والخنوع للحاكم الظالم، والذل والاستكانة لأنظمة الجور والطغيان الذين همّهم امتهان كرامة الإنسان، وما أكثرها في هذا العصر الأغبر ولذا نجد كل البشر يبحثون عن البطل الذي يلوذون به ولن يجدوا كالإمام الحسين (ع) قائداً، وعاشوراء ثقافة إنسانية وحضارية.
فما أحوجنا كأمة، وما أحوج العالم كله لثقافة عاشوراء العزة والكرامة الإنسانية، لأن الشعوب كلها والأمم قاطبة تئنُّ من وطأة الظلم والجور الذي يُمارس عليها من قوى الطغيان العالمي وراحت تتململ وتبحث عن القائد والفرص المناسبة للنهوض لتحقيق العزة والكرامة والحرية المسلوبة والحقوق المنهوبة وجميعهم يرون بالإمام الحسين (ع) مثالاً وقدوة إذا اطلعوا على قصته وعرفوا عاشوراء وثقافتها القيمية الحضارية الإنسانية.
السلام على الإمام الحسين المظلوم المقتول عطشاناً ظلماً وعدواناً على شط الفرات..
اضف تعليق