معظم العراقيين لا يحبذون المنافسة في العمل التي تخلق تبايناً في الدخل بحسب الجهد وتزيد من الانتاج والابداع، لذلك حينما أُعطي العراقيين خيارين للمفاضلة بينهما، فضل 50 بالمئة منهم خيار جعل أجور العمل أكثر تساوياً بين الناس على خيار منح حوافز أعلى وأكبر للجهد الفردي للعامل...
الهيع في اللغة هو كل ما أفزعك. شخصياً أشعر بالفزع والهلع من مستقبل العراق بسبب عقلية الرَيع السائدة بين شبابه! فالعراق اليوم بين خيارَي أدمان الريع أو أنتظار الهَيع!! فكيف ذلك؟ في 1980 كتب أثنان من الباحثين الأقتصاديين عن شيوع ما أسمياه بالعقلية الريعية Rentier mentality بين أبناء الخليج العربي الذين جعلتهم الثروة النفطية أقل ميلاً للعمل والأعتماد على عقولهم ومهاراتهم والمنافسة لتحصيل رزقهم،وأكثر ميلاً للوظيفة الآمنة «الوثيرة».
هذه العقلية تقترن غالباً بالدول الريعية التي تعتمد في اقتصادها على مزايا الحظ والصدفة والطبيعة التي لم يخلقها البشر، وليس على الانتاج أو الابداع أو المجازفة. أنها العقلية التي تريد تحصيل المال بأقل جهد وبحسب الكفاية الحدية للانسان.
ومن الأمثلة الشائعة في العراق عندنا خلال فترات الاقطاع البغيض قيام الفلاح بزراعة أرضه لموسم واحد في السنة وتحصيل ما يمكنه تحصيله، والجلوس باقي السنة في بيته يستهلك ما حصّله منتظراً السنة القادمة ليعمل من جديد، مهملاً بذلك لأي فرصة ممكنة لزراعة محاصيل أخرى في مواسم أخرى في السنة كي يزيد دخله وينمو رزقه.
قبل يومين أتصلت بشريكي الذي يعاني من نقص في الموارد البشرية للشركة في العراق الذي شكى لي من قلة الراغبين في العمل على الرغم من العوائد المادية الجيدة. قلت له: لكن نسبة البطالة بخاصة في المناطق التي نبحث فيها عن عاملين مرتفعة جداً وهناك جيش من العاطلين الذين يفترض أن نستطيع أستقطابهم بسهولة للعمل معنا ما دمنا نوفر لهم مردوداً جيداً، ونشملهم بالضمان الأجتماعي وكل المزايا الأخرى!! أجابني أنهم يريدون العمل الحكومي حتى ولو كان عائده أقل لكنه أكثر أمناً، وأقل عملاً وأوفر عُطَلاً. أنها العقلية الريعية التي تؤمن بأن الله قد (حباهم) بنفط وفير وخيرٍ كثير دون حاجةٍ لتدبيرٍ أو تفكير، فلماذا يسعون لعملٍ متعب ويدخلون في مجازفة الربح والخسارة.
وفي استطلاع أجريناه عام 2020 أفاد 55 بالمئة ممن أستُطلعت آرائهم من الآباء العراقيين بأنه (ليس مهماً) تشجيع أطفالهم على العمل الشاق. كما أنه في الوقت الذي يحبذ ويشجع 60 بالمئة من سكان العالم الذين أستُطلعت آراؤهم في نفس السنة على المنافسة competition في العمل فأن النسبة تنخفض بين العراقيين لتصل الى 17 بالمئة فقط.
فمعظم العراقيين لا يحبذون المنافسة في العمل التي تخلق تبايناً في الدخل بحسب الجهد وتزيد من الانتاج والابداع. لذلك حينما أُعطي العراقيين خيارين للمفاضلة بينهما، فضل 50 بالمئة منهم خيار جعل أجور العمل أكثر تساوياً بين الناس على خيار منح حوافز أعلى وأكبر للجهد الفردي للعامل، في حين أن النسبة العالمية لهذا الخيار هي 26 بالمئة فقط وتنخفض بشدة في الدول المتقدمة.
بمعنى أن هناك انتشار لعقلية المساواة في الاجور على عقلية العدالة فيها والفرق كبير بين العقليتين. والواقع ان قيم العمل التي تقلل من أهمية مكافأة الجهد الفردي، ولا تشجع على المنافسة والابتكار والمجازفة تزداد بروزاً وتشيع في المجتمعات الجماعية حيث الجماعة أهم من الفرد.
مخاطر امنية
لقد وجدت الأبحاث العديدة في هذا المجال ان هذه العقلية المدمّرة للابداع وللتطور والتفوق تزداد في الدول التي تعرض أهلها لمخاطر أمنية كثيرة تجعلهم لا يميلون للمجازفة ويؤثرون الواقع الحالي حتى لو لم يكن جيداً (أمشي شهر ولا تطفر نهر).
كما أنها تنتشر حينما تقل الثقة بالآخر (الشَين التعرفه أحسن من الزين الماتعرفه). وتتفاقم في النظم الشمولية والنظم الابوية Patriarchy التي تجعل الدولة محور الحياة وغايتها، وتسعى لربط مصير المواطن ورفعته بمصيرها وبقائها فلا يميل لتغييرها ولا حتى انتقادها.
لاحظوا أن كل الدول الديموقراطية في العالم تعتمد في موازنتها على الضرائب والانتاج وليس ريع النفط والأستخراج. فالمواطن (لا الدولة) هو صاحب الفضل وبالتالي صاحب الحق الذي لا يناقَش في محاسبة كل موظف عام أبتداءً من رئيس الجمهورية نزولاً لأصغر موظف، وهو أيضاً صاحب الحق النهائي في تعيين الحكومة أو عزلها.
ان المعادلة الصحيحة للحكم يجب أن تُقلب عندنا لتصبح (المواطن أهم من الدولة) وليس العكس. هنا سيكون المواطن أحرص على المال العام لأنه ماله وليس مال الدولة. كما أن التعيين في الوظيفة العامة لن يرتبط بالولاء للحكومة (بأعتبارها الطرف الأقوى) بل بالجهد والمهارة التي يقدمها شاغل الوظيفة.
لقد أدمن العراقيون لوم الدولة التي يجب أن توفر لهم كل شيء، وهذه عقلية متوارثة وليست جديدة نمت كثيراً بعد أكتشاف النفط في العراق. وهي عقلية جرى تشجيعها من قبل الحكومات التي تعاقبت على العراق الحديث خلال القرن الماضي، أذ بات صدر الدولة هو المصدر الوحيد للحليب والغذاء للمواطن.
فكل النظم الشمولية التي حكمت العراق جعلت الدولة مسؤولة عن كل شيء في حياة المواطن منذ ولادته الى وفاته. ولا يبدو ذلك حباً في المواطن وحرصاً عليه بقدر ما هي سوء ادارة أو سوء ارادة. فالنظم الشمولية تسعى دوماً لربط أرادة المواطن ومعيشته بها، وجعله بالتالي عبداً لها، وجرماً صغيراً في فلكها، قابلاً (بل ساعياً) لسلطتها، راضياً بدور القطعان التي تعيش على (رعاية) حكوماتها لها.
لاحظوا أن كلمات الراعي والرعية والريعية كلها من جذر لغوي واحد يشير للأتكال على الآخر (سواء كان أنسان أو طبيعة أو مؤسسة) للبقاء والهناء، والولاء والبراء. لقد آن الاوان للتثقيف والتوعية بخطورة العقلية والسلوك الريعيَين. فهي عقلية الوارث تالف الارزاق، وشديد الانفاق، وكثير النعاق. أنها عقلية»التمبل» المتواكل (مالك الثروة) لا صانعها. صحيح أن أمتلاك الثروة والتمتع بها أسهل من صنعها ودفع ثمنها جهداً وعرقاً وأبداعاً،لكن من يعتقد أن الخيار الاسهل غير زائل، فهو زائل.
اضف تعليق