إذا كان احد يعتقد انه يمكن تقديم اسلحة في منطقة المعارك لضرب أراضينا، فلماذا لا يكون لنا الحق في ارسال أسلحتنا من الطراز نفسه إلى مناطق في العالم توجه فيها ضربات إلى منشآت حساسة تابعة للدول التي تتحرك ضّدَ روسيا...
هدّدَ الرئيس الروسي بوتين الغرب بتسليح دول معادية له، (واقصد للغرب)، وجاء ذلك على لسانه، وبصراحة في الشهر الماضي، خلال لقائه مندوبي وكالات انباء اجنبية، وقال: ”إذا كان احد يعتقد انه يمكن تقديم اسلحة في منطقة المعارك لضرب أراضينا، فلماذا لايكون لنا الحق في ارسال أسلحتنا من الطراز نفسه إلى مناطق في العالم توجه فيها ضربات إلى منشآت حساسة تابعة للدول التي تتحرك ضّدَ روسيا ”؟
التهديد الروسي لدول حلف الناتو ولامريكا بسبب دعمهم اللامحدود بالسلاح والمال لأوكرانيا، ليس بجديد، ولكنه تصاعد في حدته وتنوّع في خيارات تنفيذه، بعدما رفعت امريكا منع استخدام سلاحها، من قبل الجيش الأوكراني، لضرب اهداف داخل الأراضي الروسية. ومن بين خيارات تنفيذ التهديد هو ما جاء على لسان الرئيس بوتين، في قوله: سنسلّح الدول المعاديّة للغرب !
اول ملاحظة على تصريح الرئيس بوتين هي ماوردَ في تصريحه “سنسّلح دولا معاديّة للغرب ” .. قالَ ” دول ” ولم يقلْ جهات او حركات او قوى معادية للغرب، وهي ايضاً كثيرة وفاعلة في منطقة الشرق الأوسط وفي أفريقيا، وربما مؤثرة و تؤذي الغرب اكثر من الدول! فها هي حركة انصار الله في اليمن، تحارب مصالح امريكا وبريطانيا و اسرائيل، وعلناً و بقوة. فهل كان مقصوداً حصر التسليح فقط بدول، ام وردَ ذكر ” الدول” على سبيل المثال والتعميم؟
عندما تكون قوة عظمى في حرب ناعمة او ”خشنة ” مع قوة او قوى عظمى، كما هو حال روسيا مع امريكا و مع دول حلف الناتو، فإن كل وسائل التأثير والقتال، التي تساعد على تحقيق النصر او الصمود، مُتاحة. بعبارة اخرى، روسيا لم ولن تتردّدْ بتسليح حركة او جهة او فصيل، يخدمُ مصالحها، فكيف الحال إذا كانت روسيا في حربٍ مُعلنة مع جبهة طويلة وعريضة، هي جبهة الغرب (امريكا وحلف الناتو ومَنْ معهم من دول اووربا، ليسوا اعضاء في الناتو)، وهذه الجبهة تحارب روسيا، في السلاح وفي المرتزقة، في أوكرانيا
الملاحظة الثانية هي مدى جديّة التهديد؟
لنا الحق، وكذلك القارئ المتتبع،ان نشكّك في جديّة التهديد. ليست المرّة الأولى التي تهددْ روسيا امريكا والغرب، ولكن بقي التهديد وعداً دون تنفيذ.. لماذا؟
هل تخشى روسيا من ردود فعل قاسية من دول حلف الناتو؟ هل تتحاشى روسيا مشاركة فعلية لجيوش دول غربية في حرب أوكرانيا، ما يفقد روسيا ميزة الانفراد بالجيش الأوكراني والانقضاض عليه؟ تساؤلات واردة وممكنة. روسيا لا تريد حربا مفتوحة مع الغرب في أوكرانيا، ولا الغرب يريد ذلك، وكل طرف منهما يعتقد انه يستنزف الآخر، وكل طرف منهما يعوّل على عامل الوقت، على الزمن وما يحمله من متغيرات .
لنمضي في التحليل، معتقدين بجدّية التهديد، وهذا ما يقودنا إلى الملاحظة الثالثة، وهي عنوان المقال: بأي دولة تبتدأ روسيا بالتسليح، ليبيا ام سوريّة ام ايران؟
ابدأ في ليبيا، والمنقسمة شرقاً وغرباً، وهو تقسيم سياسي وجغرافي في آنٍ واحد، وتسعى حكومة طرابلس او حكومة الغرب الليبي، او حكومة الوحدة الوطنية، وهي المعترف بها دولياً وأممياً إلى توحيد البلاد، ومن خلال مسار سياسي حثيث، يجمع فواعل المشهد السياسي الليبي، المتنوعة والمختلفة، وجهود الامم المتحدة، وكذلك جهود و اجراءات الاتحاد الأوروبي .
الشرق الليبي، بقيادة المشير حفتر، هو من حصّة روسيا، ولم تبخلْ روسيا عليه بالدعم في السلاح وفي المال، والدعم السياسي يأتي قبل الدعم العسكري. لم يتوقف السلاح الروسي عن الوصول إلى موانئ شرق ليبيا، يعني إلى جيش المشير حفتر، أمّا التقارير التي تتحدث عن وصول الأسلحة لشرق ليبيا او لغربها، لا تُعدْ ولا تحصى، وغالباً ما تُنشر في صحف مُعتبرة، اذكر فقط على سبيل المثال، التقرير الذي نشرته جريدة “التايمز” البريطانية، منتصف نيسان (أبريل) الماضي، عن وصول سفينة روسيّة محملة بالسلاح، رست في ميناء طبرق، إلى جيش المشير حفتر (جريدة الشرق الأوسط اللندنية،تاريخ 2024/6/4) .
لتبيان معضلة اغراق ليبيا بالسلاح، في شرقها وغربها، يكفي الاستشهاد بقرار مجلس الامن، بتاريخ 2024/5/30 والذي بموجبه، تّمَ تمديد التفويض الممنوح للدول الاعضاء بمهمة تفتيش السفن المارة في المياه الدولية، قبالة ليبيا، المشتبه بها بانها تنتهك القرارات الامميّة، لمدة سنة اخرى. وكانت مهمة التفتيش، والتي جاءت بمبادرة طرحها الاتحاد الأوروبي (أيريني)، قبل 4 سنوات، حين شّنَ الجيش الوطني بقيادة حفتر هجومه على طرابلس، وتبناها مجلس الامن بقرار، وانتهت مدة التفويض في 2024/6/2 .
طبعاً تحفظّت روسيا والصين والجزائر و دول اخرى على تمديد القرار. الترحيب الغربي بالتمديد لمهمة تفتيش السفن والتحفظ الروسي والصيني ودول اخرى على التمديد يظهر تباين المصالح بين امريكا والغرب من جهة وروسيا والصين من جهة اخرى، ازاء الملف الليبي، بل ازاء مصالحهما ودورهما في أفريقيا.
لا أُريد الاطالة في التفصيلات، والتي هي معروفة،المهم معرفة توجّه روسيا في ليبيا. هل ستصعّد من منسوب التسليح لحفتر؟
لا اعتقد .. روسيا تتصرف بذكاء في ليبيا المنقسم جغرافياً وسياسياً وقبليا وحتى أمنياً، مثلما تتصرف إيران بذكاء تجاه شيعة وسُنّة وكرد العراق . بل يبدو أن روسيا استعانت بالوصفة الإيرانية في تعاملها مع الدول التي ” تمقرطت ” بتدخل غربي. مفاد قولي هو ان روسيا الآن لها علاقات جيدة ووديّة مع جميع فواعل المشهد السياسي الليبي ( مع حفتر، ومع حكومة الوحدة الوطنية، ومع سيف القذافي والقبائل المؤيدة للنظام السابق )،هي في” زواج مع حفتر وجيشه الوطني، وفي عشق مع الآخرين ). سبقَ وان استقبلت روسيا في منتصف العام الماضي السيد محمد تكالة، رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا .
لا يمكن لروسيا ان تتخلى عن ليبيا او الا يكون لها دور في ليبيا، ومن مصلحة روسيا دعم استقرار وسلطة دولة ليبيا، وذلك لاسباب منها: لروسيا تاريخ وارث عسكري وسياسي في ليبيا ولمدة طويلة بعمر النظام الليبي السابق، كما ان روسيا لن تغفر للغرب خدعته وكذبه في تدخله العسكري في ليبيا وما فعله وتداعيات ما فعله، أضف إلى ذلك رغبة وسعي روسيا لتعزيز مصالحها في أفريقيا، وليبيا هي احدى البوابات المهمة لهذه القارة، ودول هذه القارة التي حققت نجاحات سياسية في تحررها من الهيمنة الغربية، وخاصة الفرنسيّة.
دعم استقرار وحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، يتطلب من روسيا علاقات ايجابية متوازنة مع الجميع، ومن اجل ان تحظى حكومة الوحدة الوطنية بدعم روسي او على الاقل بدور روسي ايجابي في ليبيا، يتطلب من حكومة الوحدة الوطنية ومن المؤسسات السياسية الليبية الأخرى مراعاة التوازن في علاقات ليبيا الدولية وسياستها الخارجية، وحالَ ليبيا، ما بين روسيا وامريكا والغرب كحال العراق مابين امريكا وايران، ونجاح العراق في الحفاظ على علاقات طيبة و متوازنة مع الطرفييّن (مع إيران و مع امريكا) مردّه اتخاذ مبدأ المصلحة الوطنية وحسن العلاقات مع الجميع وعدم التمحّور اساساً للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية .
ماذا عن سوريّة ؟
تواجه سوريّة، ويعاني الشعب السوري من حصار اقتصادي وسياسي واحتلال عسكري أمريكي في شرق وشمال شرق سوريّة، وتواجه ايضاً اعتداءات و انتهاكات اسرائيلية متكررة، وهي في امّس الحاجة إلى وسائل دفاع متطورة، وخاصة في الدفاع الجوّي، وروسيا تمتلك الوسائل، وسبق وان زودت سوريّة ببعضٍ منها (س 300)، ولكن لم تسمحْ بعد لسوريّة بإستخدامها ضّد الاعتداءات الاسرائيلية، لذا نستبعد جداً ان تكون سوريّة من ضمن الدول المُرشحّة للتسليح ضّدَ المصالح الغربية .
ايران هي اكثر الدول خصومة وعداء مع المصالح الأمريكية في المنطقة، ولكنه عداء سياسي ونفوذ اكثر مما هو مناوشات ومعارك عسكريّة، وهي اصلاً لديها ما يكفيها من سلاح نوعي ومتطور، ولايران استراتيجية للمصالح وللسياسة اكبر من ان تكون مرتبطة بمصالح روسيّة او بشروط روسيا.
حركة انصار الله في صنعاء واليمن هي اكثر من باقي دول وحركات مؤهلة لمثل هذا العرض الروسي، في التسليح ضّد المصالح الغربية، وهي في حرب فعلية ضّدَ سفن و بواخر ودفاعات امريكا والغرب، فهل تُقدِم روسيا فعلاً على تزويدها بسلاح مثلما يزّود الغرب الجيش الاوكراني لمقاتلة الروس؟
قد تُقدِم روسيا على ذلك، ولكن ستشترط، ربما عدم استخدامه ضّدَ اسرائيل، حيث بين روسيا وإسرائيل حسابات أُخرى، وروسيا لا تنظر إلى إسرائيل على انها جزء من الامن القومي الأمريكي، ولا تضعها ضمن مساحة المصالح الغربية، بيد انها (اسرائيل)، ووفقاً للإدارات الأمريكية المتعاقبة، جزء من الامن القومي الأمريكي .
واذا ارادَ فعلاً الرئيس بوتين ايذاء امريكا والغرب في مصالحهما، لن يجدْ افضل من اسرائيل هدفاً .
اضف تعليق