إن النظرة المستقبلية قضية أساسية في عمليات البناء المختلفة، وأي مشروع خدمي أو إنتاجي صناعي أو اقتصادي لا يحتوي على رؤية مستقبلية، فإنه غير مرحّب به لأنه لا يخدم الناس، وهو عبارة عن سرقة للمال العام، ونوع من الاحتيال على حقوق العراقيين...

تعاني سياسة البناء في العراق من مشكلة أو معضلة تشبه المرض العضال الذي يصيب جسد الإنسان، هذه المشكلة يمكن أن نلخصها بثلاث كلمات لا أكثر وهي (الافتقار للنظرة المستقبلية)، فحين نتابع المشاريع المختلفة التي تقدمها الدولة أو الحكومات المتعاقبة، نج أن معظم هذه المشاريع أو كلها تقريبا خالية من البعد المستقبلي، وكأنها أقيمت أو أُنشئت لعدة أيام أو عدة شهور فقط لا غير، بغض النظر عن المبالغ الطائلة التي صُرفَت عليها.

ولعل ما يُقال عن حجم المصروف من الأموال على قطاع الكهرباء، والذي يبلغ أكثر من 80 مليار دولار أمريكي، يوضح لنا بجلاء عدم وجود نظرة مستقبلية في معالجة المشاريع الخدمية أو سواها، حيث يتم هدر الأموال (بلا وجع قلب) وكأن هذه الأموال خرجت من ثقب الحائط، وليس هناك بشر تعود لهم، مع أن العراقيين هم أصحاب هذه الأموال، وهم يستحقون أن يحصلوا على أفضل الخدمات بعد معاناة كبيرة دمرت حياتهم.

لذا نقول إن النظرة المستقبلية قضية أساسية في عمليات البناء المختلفة، وأي مشروع خدمي أو إنتاجي صناعي أو اقتصادي لا يحتوي على رؤية مستقبلية، فإنه غير مرحّب به لأنه لا يخدم الناس، وهو عبارة عن سرقة للمال العام، ونوع من الاحتيال على حقوق العراقيين، لذا لابد من وجود النظرة المستقبلية العميقة في جميع المشاريع. 

لذا تحمل جملة (الرؤية المستقبلية) معانٍ كثيرة من بينها، وربما أكثرها وضوحا، صواب الرؤية الدقيقة أو الصحيحة للأمور، وما يدور اليوم في مجالات التنمية أو الخدمات في العراق كله، يخضع لهذه الجملة ومعانيها، إذ هناك نظرة قاصرة في التعاطي من قضايا البناء ومجالات العمل المتعددة والمتنوعة في العراق.

وهكذا يوجد لدينا مجالات خدمية وتنموية وحياتية عديدة يمكن الخوض فيها، ومنها على سبيل المثال الموارد المائية، إذا عدنا للسنة الماضية حيث كان الجفاف يعصف بالعراق، كانت وزارة الموارد المائية تشكو من قلة الخزين المائي ومن إفراط الناس في استهلاك الماء أكثر من الحاجة، وتحذر من الاستهلاك غير المنظم للماء. 

وبسبب النظرة القاصرة، أعلنت الموارد المائية في السنة الماضية بأنها قامت بتأمين ماء الشرب لموسم الصيف القادم، هذا الخبر في وقته على الرغم من أنه كان يبدو خبرا عاديا، لكنه يدل على غياب الحنكة والنظرة بعيدة المدى، لأن الأربعين مليون الذين يعيشون في العراق لا يكفيهم تأمين ماء الشرب لموسم صيفي واحد، وإنما نحتاج إلى توفير مياه شرب صالحة إلى ما لا نهاية، وقد زعزع هذا الخبر ثقة الناس بالمسؤول.

لذلك فإن إعلان تأمين ماء شرب صالح لموسم واحد (ثلاثة أشهر)، بالقياس إلى الحاجة الأبدية لماء الشرب، تبدو قضية غريبة حقا، لهذا فإن النظرة القاصرة، والإعلام قصير النظر هو الذي دفع الموارد المائية لإعلان مثل هذا الخبر في حينه، وكأنها حققت (بهذا التأمين لفصل واحد) إنجازا يستمر مدى الحياة، في حين أن تأمين شرب الماء لموسم واحد للعراقيين يبدو خبرا مضحكا، بالقياس إلى مسؤولية تتطلب توفير الماء إلى الأبد.

وبالقياس إلى خبر الموارد المائية، يمكن أن ننتقل إلى قطاع الكهرباء، حيث اللغز العجيب الغريب في هذه الوزارة، وهذا التعثر في القضاء على تذبذب توفير الطاقة الكهربائية، وخلق مشكلة المولدات الأهلية، فبسبب النظرة القاصرة لهذه الوزارة في مشاريعها، وعدم دقتها، وفسح المجال أمام الشركات الوهمية الفاسدة، هو الذي ضاعف من هذه المشكلة وجعلها شبه أزلية، لا يمكن الخلاص منها.

السبب بالطبع هو النظرة القاصرة وغياب النظرة الدقيقة والصحيحة في التعامل مع المشاريع الآنية والمستقبلية لتوفير الكهرباء، المهم مطلوب هنا أن يتخلص المسؤولون من النظرة القاصرة، والتركيز على النظرة البعيدة، وعدم التعجّل في الحصول على نتائج آنية سريعة، لكنها أيضا سريعة الزوال، إذ نحن نحتاج إلى بعد النظر في تأسيس المشاريع، وفي معالجة النواقص في المجالات كافة.

وأخيرا لابد من الإشارة إلى أن ظاهرة أو مشكلة النظرة القاصرة تكاد تكون موجودة بقوة في مجالات العمل والنشاطات المختلفة في العراق، حتى أننا لا نستطيع أن نستثني وزارة واحدة من هذه المشكلة، لذا من الواجب أن يتخلص المسؤولون العراقيون من مرض (النظرة القاصرة)، والانتقال إلى سياسة (بعد النظر)، أو اعتماد النظرة البعيدة المدى، لرؤية المستقبل بعيون متفحصة ثاقبة ترى بوضوح ما سيحدث في المستقبل.  

اضف تعليق