إن الجذر التاريخي للقول بالجبر، والسبب وراء إدخال هذه الفكرة في أذهان المسلمين هم بنو أمية، وذلك لتبرأة أنفسهم عن القبائح التي كانوا يرتكبونها، فنسبوها إلى اللّه تعالى، وابتدعوا فكرة الجبر. فقد كانوا يرتكبون المنكرات، ولمّا كان يُعترض عليهم كانوا يتذرعون بالجبر، ولكي لا يثور الناس...
قال اللّه تعالى في كتابه الكريم: {وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّامٖ لِّلۡعَبِيدِ}(1).
قبل الخوض في هذه الصفة الإلهيّة، نبدأ بمقدمة تدور حول الحسن والقبح.
الحسن والقبح العقليان
هناك بعض الفِرَق تزعم أن لا حَسَن واقعاً ولا قبيح واقعاً إلّا ما قبّحه الشارع أو حسّنه، فالحَسَن هو ما حسّنه الشارع والقبيح ما قَبَّحه، ويقولون في هذا الصدد: إنّ الظلم قبيح، لأنّ اللّه تعالى قال: إنه قبيح فهو قبيح، ولو قال عنه: إنّه حسن لصار حسناً، وإن العدل حَسَن لأن اللّه تعالى قال ذلك، ولو قال سبحانه: إنّه قبيح لكان قبيحاً!
ولكن هذا الأمر ليس صحيحاً، فحتى قبل أن يخلق اللّه تعالى مخلوقاً، ويشرّع أية شريعة كانت هذه الحقائق ثابتة في علم اللّه تعالى، فلمّا خلق اللّه العقل جعله بكيفيّة يدرك بعض هذه الحقائق، ولذا يعبر عنها بالحقائق العقلية، أو المستقلّات العقلية(2)، بمعنى أن العقل يدركها بقطع النظر عن الشرع؛ لذا حتى غير المتشرعين والكفار والملاحدة الذين ينكرون وجود اللّه يقرّون بحسن بعض الأشياء في ذاتها، وقبح أُخرى في ذاتها، فالشيوعيون ـ مثلاً ـ يقولون: إنَّ الأخلاق صنيعة الرأسماليين، فبعض الناس لكي يستعبدوا البعض الآخر صنعوا شيئاً باسم الأخلاق.
لكن إذا سألت الشيوعي بأنه إذا ارتكب العامل في جهاز الحكومة الخيانة، وارتبط بالعدو فهل عمله هذا جيد؟ سوف يجيب: كلا، إنه عمل قبيح، فنقول له: إنك تقول: إنَّ الأخلاق صنيعة الرأسماليين، فكيف حكمت على عمل الخائن بأنه عمل قبيح؟ هذا يعني أن عقله يدرك أن الخيانة أمر قبيح، وأن الأمانة أمر حسن، ويكشف ذلك عن أن حسن بعض الأشياء وقبحها يدركهما العقل حتى لو لم يكن هناك شرع.
ولو كان حسن الأشياء وقبحها متوقفاً على الشرع، فمن المفترض أن لا يعتبرها كثير من الناس حسنة أو قبيحة.
اللّه تعالى عادل، لكن بعض الفرق تزعم أن الظلم جائز على اللّه تعالى، فمثلاً يقولون: لو وضع اللّه تعالى فرعون في أعلى درجات الجنة، ووضع الصالحين في أسفل دركات الجحيم فهذا العمل حسن! لأنّ العدل لديهم ليس من الحقائق، وإنّما يرتبط بالشرع، فلا مانع من عدم عدله إطلاقاً.
إننا نسألهم ونقول: فما المانع من ظلم اللّه عزّ وجلّ؟ يقولون: إنّ اللّه وعدنا بأن الإنسان إذا عمل صالحاً فهو في الجنة، وإذا قام بعمل قبيح فيدخله النار، ولأن اللّه وعد فيفي بوعده.
هنا نوجه سؤالنا لهم فنقول: ما الذي يجعل اللّه يفي بوعده ويصدق في أخباره؟ ولماذا الوفاء بالوعد والصدق واجب على اللّه؟ فإذا لم تكن هناك حقائق ثابتة فما المانع من أن لا يفي بوعده؟ أو أن لا يصدق؟! سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً؟
طبعاً يوجد لدينا وعد ووعيد، فالوعد بالجنة وأمّا الوعيد فبالنار، والوفاء بالوعد واجب عقلاً، كأن يقول: (من صلّى أُعطيه كذا من الثواب) أمّا إذا كان وعيداً فليس الوفاء به واجباً عقلاً، مثل أن يقول: (إذا فعلت المعصية سأُدخلك النار)، فيجوز أن يغفر ذلك، كما لو أصدر الحاكم قانوناً ينص على أن أي شخص لا يرتكب مخالفة سأجازيه بمائة، أمّا إذا خالف هذا القانون فسوف نسجنه، فلو خالف أحد وعفا عنه الحاكم فلا إشكال في ذلك.
صحيح أنَّ العقل لا يكتشف كثيراً من الحقائق، لكنه في الوقت نفسه يكتشف بعضها، ومنها مسألة عدل اللّه عزّ وجلّ.
أسباب الظلم
ثم إن سبب الظلم أحد أمور ثلاثة:
1- الحاجة: فقد لا يتمكن أحد من الوصول إلى شيء إلّا بالظلم، كما لو احتاج إلى مال لا يتمكن من الوصول إليه إلّا بالسرقة.
2- الخبث: فقد يكون الإنسان غير محتاج ولا عاجز، لكن خبثه يسوقه إلى الخطيئة.
3- الجهل: وهذا يرجع إلى العجز، بمعنى أن الإنسان قد يظلم الناس لأنه جاهل بأن ما يفعله ظلم.
وجميع أسباب الظلم ـ من العجز والخبث والجهل ـ يتعالى اللّه عنها، فهو القادر العالم المنزه عن كل نقص، وله الأسماء الحسنى.
نعم، إنه قادر على أن يظلم، لكنه يتعالى عنه؛ لذا يدرك العقل أنّ اللّه تعالى عادل.
كما أن الإنسان إذا لاحظ خلق اللّه اكتشف عدله إذ كل شيء بميزان.
لأن العدل في اللغة: هو الاستواء وعدم الاعوجاج(3)، فإذا كان الشيء مستوياً يقولون عنه: إنه عدل.
وهكذا يكشف لك خلق اللّه عن عدله فكل شيء بموقعه، وإذا صار أمر سيّئاً فإنّما هو بسبب سوء تصرّف الإنسان.
ومِن عدل اللّه تعالى أنه لا يعاقب إلّا الشخص المختار، بمعنى يعاقب الشخص الذي يختار بإرادته القيام بعمل قبيح، أمّا إذا كان الإنسان غير مختار في شيء فإن اللّه عزّ وجلّ لا يعاقبه؛ لأن عقاب غير المختار ظلم، وإن اللّه تعالى ليس بظالم.
بطلان الجبر
إن هناك بعض الفرق تقول: إن الإنسان مجبور في أفعاله(4)، بمعنى أن مَنْ يصلّي فقد أجبره اللّه تعالى على ذلك، وأن مَنْ يسرق فإن اللّه أجبره على ذلك!!
إن الجذر التاريخي للقول بالجبر والمنشأ له، والسبب وراء إدخال هذه الفكرة في أذهان المسلمين هم بنو أمية، وذلك لسببين:
السبب الأوّل: لتبرأة أنفسهم عن القبائح التي كانوا يرتكبونها، فنسبوها إلى اللّه تعالى، وابتدعوا فكرة الجبر.
فقد كانوا يرتكبون المنكرات، ولمّا كان يُعترض عليهم كانوا يتذرعون بالجبر وأن اللّه هو شاء المعصية!
ومن نماذج ارتكابهم المعصية ما رواه صاحب كتاب تاريخ مدينة دمشق، فقال: «إن عبادة بن الصامت مرّت عليه قطارة وهو وبالشام تحمل الخمر، فقال: ما هذه أزيت؟ قيل: لا، بل خمر تباع لفلان، فأخذ شفرة من السوق فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلّا بقرها، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام.
فأرسل فلان إلى أبي هريرة فقال: ألا تمسك عنا أخاك عبادة بن الصامت، أمّا بالغدوات فيغدوا إلى السوق فيفسد على أهل الذمة متاجرهم، وأمّا بالعشي فيقعد بالمسجد ليس له عمل إلّا شتم أعراضنا وعيبنا، فأمسك عنا أخاك.
فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة فقال: يا عبادة، ما لك ولمعاوية، ذره وما حمل، فإن اللّه يقول: {تِلۡكَ أُمَّةٞ قَدۡ خَلَتۡۖ لَهَا مَا كَسَبَتۡ وَلَكُم مَّا كَسَبۡتُمۡۖ}(5)، قال: يا أبا هريرة، لم تكن معنا إذ بايعنا رسول اللّه صلّى اللّه [وآله] وسلم، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن نقول في اللّه لا تأخذنا في اللّه لومة لائم، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأهلنا ولنا الجنة، ومن وفى وفى اللّه له الجنة مما بايع عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه، فلم يكلمه أبو هريرة بشيء.
فكتب فلان إلى عثمان بالمدينة: إن عبادة بن الصامت قد أفسد علي الشام وأهله فإمّا أن يكف عبادة وإمّا أن أخلي بينه وبين الشام.
فكتب عثمان إلى فلان أن أرحله إلى داره من المدينة فبعث به فلان حتى قدم المدينة، فدخل على عثمان الدار وليس فيها إلّا رجل من السابقين بعينه، ومن التابعين الذين أدركوا القوم متوافرين، فلم يفج عثمان به إلّا وهو قاعد في جانب الدار، فالتفت إليه فقال: ما لنا ولك يا عبادة، فقام عبادة قائماً وانتصب لهم في الدار، فقال: إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلم أبا القاسم يقول: سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى فلا تعتلوا بربكم، والذي نفس عبادة بيده إن فلاناً لمن أولئك، فما راجعه عثمان بحرف»(6).
أمّا السبب الآخر: فلكي لا يثور الناس ضد حكمهم؛ لأن من عادة الناس أنهم يثورون ضد الحاكم الظالم الجائر، فلذا كانوا يقولون للناس: إن جورهم وظلمهم مقدّر من اللّه عزّ وجلّ وليس باختيارهم، فلماذا تثورون عليهم؟!
يُقال: إن أحد وعاظ السلاطين جاء إلى بعض سلاطين بني العباس ورآه يلعب بالحمام، فافترى على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «لا سبق إلّا في خف أو حافر أو نصل أو جناح»(7)، ففرح الخليفة وأعطاه نقوداً، فمضى هذا وأعطاه قفاه، فقال: أشهد أن قفاه قفا كذاب(8).
فقد أضاف (أو جناح) إلى كلام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) تزلفاً إلى السلطان، والسلطان مع علمه بافترائه فرح بذلك؛ لأنه يبرّر له أفعاله.
آيات الهداية والضلال
لقد أضافوا لفكرة الجبر أحاديث موضوعة، وفسروا بآرائهم آيات القرآن الكريم، ومنها: {إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ}(9)، وقوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ}(10)، وقوله: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ}(11)، لكي يقولوا: إن الإضلال يكون من اللّه وبالجبر، كما أنّ الهداية تكون منه تعالى وبالجبر، في حين أنّ معنى هذه الآيات واضح؛ لأن ثمة آيات اُخرى تفسر هذه الآيات، ويجب أن يؤخذ القرآن كله كمجموع، فإذا جزأناه وقعنا في المحذور، كما قال اللّه تعالى: {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفٖۖ}(12) بمعنى على طرف، أو على جهة(13)، أي: يأخذ جهة ويترك الأُخرى، كما قال يزيد بن معاوية:
ما قال ربك ويل للذين شربوا---بل قال ربك ويل للمصلينا(14)
ما تعنيه الآيات هو أنّ اللّه عزّ وجلّ شاء أن يضع قوانين في الكون، وإذا لم يشأ تعالى وضعها فلن نتمكن من الحركة، يعني: إن اللّه شاء أنّ العنب إذا عولج بكيفية خاصة يتحول إلى خمر، وهذا قانون تكويني، وإذا لم يكن اللّه قد شاء ذلك فلم يكن العنب ليتحوّل إلى خمر أبداً، كما أنه تعالى إذا لم يشأ تأثير الطلقة أو السيف في مقتل الإنسان لما تحقق القتل أصلاً، فاللّه قدّر أنّ اللحم والعظم إذا أصابه شيء حاد ينشق وينخرم، فالإنسان إذا عمل طبق هذا القانون التكويني فإن عمله سوف ينفذ، سواء أكان حسناً أم قبيحاً.
فمعنى {وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ}(15) هو أن اللّه شاء اختيار الإنسان، فلا يكون فعله إلّا لمشيئة اللّه أن يكون مختاراً، وكذلك بمعنى أنكم لا تتمكنون من الامتثال التشريعي إلّا بعد أن يشاء اللّه التشريع بالوجوب والتحريم.
وكذلك آية: {إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ}(16) معناها أن الإنسان إذا صار ظالماً فاللّه لا يهديه، كما قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهۡدِي مَنۡ هُوَ مُسۡرِفٞ كَذَّابٞ}(17)، وقال: {وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ}(18)، وقال: {وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِينَ}(19)، وغيرها من آيات، فسبب الهداية من الإنسان، فإذا هيّأ الإنسان السبب فاللّه يُهيء له النتيجة، واذا لم يهيئ السبب فالنتيجة لا يرتبها اللّه تعالى.
إنّ اللّه عادل، ومن عدله أن لا يعاقب مُجبراً، بل يعاقب المختار لفعل القبيح، قال تعالى: {وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيۡسَ بِظَلَّامٖ لِّلۡعَبِيدِ}(20).
اضف تعليق