يحتاج عالمنا اليوم إلى السلام أكثر من أي وقت مضى، والأسباب واضحة، فالكوكب الذي بات يكتظ بما يتجاوز الـ ثمانية مليارات من البشر، صار يغص بالنزاعات والتصادمات، ومنها ما يصل في خطورته إلى إشعال حروب عالمية قد تأتي على الأخضر واليابس...
(هناك حاجة عالمية لتطبيق قانون السلم والسلام ومعرفة مقوماته في مختلف مجالات الحياة) الإمام الشيرازي
يحتاج عالمنا اليوم إلى السلام أكثر من أي وقت مضى، والأسباب واضحة، فالكوكب الذي بات يكتظ بما يتجاوز الـ ثمانية مليارات من البشر، صار يغص بالنزاعات والتصادمات، ومنها ما يصل في خطورته إلى إشعال حروب عالمية قد تأتي على الأخضر واليابس، ويمكنها أن تفني الأرض بما عليها من أشياء ومن مخلوقات، حتى بات هذا التهديد جدّيا.
هذا الواقع المستجد في واقع السلم العالمي، يجب أن يكون مبعث قلق للعالم أجمع، لاسيما القوى التي تقود العالم، وتتحكم بحركته ونشاطاته المختلفة، فكما هو معروف هناك ترسانة نووية مخيفة تمتلئ بها (تجاويف الأرض) في دول كثيرة، بدءا من الكبرى ونزولا إلى بعض دول الشرق المكتظة بالمشاكل والسكان.
هذا الفائض النووي الخطير، يمكنه أن يفتك بالأرض وبالكوكب الوحيد الذي يستقبل البشر ويسمح لهم بالنشاط والحركة فيه، وفي حال حدث ما لا يحمد عقباه، وانفلت عقال (السلاح النووي)، فلا أحد يتفيد من حالة الفناء بما في ذلك القوى الكبرى نفسها، وهذه النتيجة الواقعية المحتملة يجب أن تعيد لقادة العالم رشدهم، وتجعلهم يتمسكون بالسلام.
فالسلم كلمة يتفوّه بها الجميع، لكن تطبيقها لم يعد مستساغا، كأن البشر لم يعد يحتمل بعضه بعضا، فصار يبحث عن الفناء، وهذا بمثابة ناقوس الخطر الذي على الجميع الانتباه له وعدم الغوص أكثر في الأزمات والنزاعات والحروب.
هذا ما حذر منه الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) قبل عقود، وطالب ذوي الأمر بالكف عن تصادم المصالح العالمية وغيرها. حيث يقول في كتابه القيّم المسوم بـ (فقه السلم والسلام):
(السلم والسلام كلمة ترددها الألسن في المحافل الصغيرة والكبيرة، الدولية والمحلية، خصوصا في هذا العصر الذي تقدَّمت فيه العلوم والحضارة، وتضاعفت فيه الحروب وأسباب التناحر، حيث أصبحت الحياة ضيقة إلى أبعد الحدود، والكل يريد الخير لنفسه وإبعاد الشر عنها، لهذا تصادمت المصالح بسبب إرادة الاستحواذ، وفي هذا الإطار بدأت تنشأ الحروب والثورات والإضرابات والمظاهرات وأسباب العنف كما مذكور في علم الاجتماع).
الترويج الإعلامي لترسيخ السلام
وهكذا بات قادة العالم من الساسة أو غيرهم، يدركون أهمية السلام للعالم أجمع، وآمنوا وفهموا أيضا بأن لا أحد ينتفع من إغراق العالم في الحروب والنزاعات، فصاروا يتكلمون عن لك ويدعون إلى عقد المؤتمرات التي تسعى للتهدئة ومعالجة الأمور، ولكن لم تكن هناك سياسة واضحة المعالم لتحقيق السلام العالمي العادل.
ولكن ظلت الدعوات قائمة لنشر الحاجة للسلم في وسائل الإعلام وسواها مما يمكنه من ترويج هذه الأهداف التي تحتاجها البشرية كلها، فصارت تدور في المحافل الدولية، السياسية وغيرها، ولكن الحال ظل على ما هو عليه، بل في الحقيقة تفاقم أكثر.
يقول الإمام الشيرازي: (لذا تنبّه الإنسان في هذا العصر إلى ضرورة البحث عن السلم والسلام، وصار الشغل هذا الهدف هو الشاغل للناس، وانتشر في وسائلهم الإعلامية وغيرها، وفي مدارسهم الخاصة ومدارسهم الدولية).
حصل نوع من الازدواجية في قضية إشاعة السلام العالمي، حيث بات الجميع يدعو للسلام، والكل يطالب بنبذ الصراعات، وإطفاء الأزمات، وتقليل المواجهات، ينحصر هذا في المجال اللفظي، لأن الدول والجهات التي تثير المشكلات والنزعات العالمية هي نفسها تدعو للسلام أيضا، وهذا أمر أربك الجميع، فكيف تطالب بنبذ الحروب وتشعلها في نفس الوقت.
الواقع العلمي يؤكد وجود هذه الحالة بوضوح، نعم هناك دول مثيرة للرعب وللأزمات وصانعة للنزاعات، لكنها تصطف في نفس الوقت إلى جانب تلك الدعوات التي تهدف إلى تجنيب الكوكب أوار الحرب، فكيف تشعل الحرب أو تكون سببا في إشعالها وفي نفس الوقت تطالب بمنع حدوثها، هذا التناقض موجود ومؤشَّر من قبل المنظمات الحقوقية المعنية.
يقول الإمام الشيرازي:
(معظم دول العالم في الشرق والغرب أصبحت تتكلم عن السلم والسلام، فصاروا يبحثون عنه في المؤتمرات الدولية وفي المؤتمرات القطرية، وينشدونه في كل محفل من المحافل، حتى تلك الدول التي تثير الرعب وتشيع الخوف في بلدانها وبين جيرانها، نراهم يبحثون عن السلام أو يتكلمون حوله).
أينما نلتفت نرى كرة نار مشتعلة في هذه البقعة من الأرض أو تلك، لهذا نسمع بالكثير من الدعوات في وسائل الإعلام عن ضرورة عدم تغذية ألسنة نيران الحروب، ومحاصرة الصراعات، وتحييد أسباب النزاعات، وهذه دعوات مهمة تثبت أن الإنسان بالفعل يحتاج إلى السلم العالمي الذي دعا إليه الإسلام في جميع أدبياته وتعاليمه.
كما أن الإمام الشيرازي نبّه منذ عقود إلى أهمية نشر السلام العالمي في ربوع العرض، والكف عن السلوكيات (الدولية) التي كانت ولا زالت سببا في زراعة الحروب والنزاعات في بقاع الأرض المختلفة، وهذا دليل على أن البشرية تصنع الحرب بنفسها ثم يطلق صانعو الحروب دعواتهم لإطفائها.
الإمام الشيرازي يقول:
(من الشواهد الواضحة أنه كلما اشتد البحث عن السلم والسلام في الوسائل الإعلامية وغيرها، وعلت الأصوات في ترويج كلمة السلام وتكرارها، ربما دلَّ ذلك على مدى مشكلة البشرية ومعاناتها وصعوبة الوصول إلى السلام وتعقّد مسالك سبلـه وضياع معالمه، وإلا لم يكن البحث عنه شديداً، فإن الإنسان إذا فقد شيئاً طلبه حثيثاً لكي يصل إليه).
ظاهرة أزلية في السياسة الغربية
إن تحقيق السلم والسلام في العالم، بات من القضايا المعقدة عالميا، والمشكلة تكمن في أساليب التحايل والخداع، وعدم وجود الثقة اللازمة، والثبات على قواعد العلاقات السلمية بين دول العالم جميعا، وإبعاد مبدأ التعامل الظالم وما يسمى بسياسة (الكيل بمكيالين)، حيث تغيب العدالة في التعامل مع الأطراف المتنازعة أو المتحاربة.
وهذه ظاهرة أزلية في السياسة الغربية، فقد تعاملت وفق سياسة الكيل بمكيالين، فحين يتعلق الأمر بمصالحها تضرب مصالح الآخرين عرض الحائط، وتجعل أهدافها محاطة بالخطوط الحمر، أما عندما يتعلق الأمر بحقوق الآخرين فإن كل شيء ممكن ومتاح للقوى الغربية، فالمهم مصالحها أولا بغض النظر عن العدالة الدولية من عدمها.
هنا يتساءل الإمام الشيرازي قائلا:
(كيف يمكن تحقيق السلام العالمي، وقد أصبح الوصول إليه هدفا صعبا، وذلك بسبب سلوك بعض الانتهازيين والمنحرفين والدول التي تسعى لعرقلة عملية السلم والسلام العالمي، وتجعل من الوصول إلى طريق السلام أمرا صعبا، وإنْ أخذوا يتظاهرون بالنداء به؟).
نعم بات الوصول إلى السلام العالمي هدفا صعبا، والأسباب واضحة ومعروفة، وإذا أراد العالم معالجة هذه المشكلة، يجب العودة بشكل حقيقي إلى القواعد العادلة في التعامل بين حقوق الدول و واجباتها، ومن الممكن الاستفادة من تطبيقات الإسلام في مجال السلم والسلام والأسس الواضحة التي حدّدها لإشاعة السلم بين جميع الأمم والخَلْق.
هناك اسس للسلم والسلام واضحة المعالم وضعها الإسلام، وبيّنها الإمام الشيرازي بوضوح، تتقدمها أولا العدالة في التعامل العالمي، وعدم تفضيل دولة أو جهة على أخرى، واعتماد ثوابت وقواعد عادلة تكون هي الحكم الأول والأخير في معالجة الاختلافات والمنازعات بين الدول، وأهم هذه القواعد والثوابت نشر وتطبيق العدالة الاجتماعية بين الجميع.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(لقد أسس الإسلام أسسَ السلام وبيَّن مصاديقه، لذا على المحافل الدولية أن تأخذ ذلك بنظر الاعتبار للاستفادة من الأفكار الإسلامية في تطبيق العدالة الاجتماعية ونشر السلم والسلام في العالم).
خلاصة القول، منذ عقود بعيدة أكد الإمام الشيرازي من خلال كتابه (فقه السلم والسلام) المكوّن من عدة أجزاء، إلى أهمية أن يتنبّه قادة العالم إلى المنحدر الخطير الذي تسير فيه البشرية كلها، بسبب فقدان القواعد الثابتة والعادلة في التعاملات الدولية، والتعامل المتباين بين دولة وأخرى بعيدا عن أسس العدالة والحقوق المكفولة قانونيا وأخلاقيا، لذا، إن أرادت البشرية العيش بسلام عليها الالتزام بقواعد السلم المعروفة.
اضف تعليق