بدأت موجة جديدة باحالة الصراعات السياسية الى هذه المؤسسة المسؤولة عن الرقابة على دستورية القوانين وتفسير الدستوروالفصل في النزاعات التي تحصل بين المركز والاقليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، وبدل تسوية الصراعات السياسية خارج اطار المحكمة، رموا الكرة في ملعب المحكمة، وقد اصدرت المحكمة العديد من القرارات المهمة والشجاعة...
لاشك ان من يستغرب الهجوم المنظم على قرارات المحكمة الاتحادية العليا ووصفها بالمؤسسة الدستورية المتغولة على الدستور والسلطات الاخرى، هو لا يفهم سايكلوجية وايديولوجية الجهات التي تهاجم المحكمة، فالمحكمة الاتحادية العليا ولدت بنص في دستور جمهورية العراق لسنة 2005، الذي وضعه الفرقاء السياسيين الفاعلون في حينها، وهم من ارادوا وضع نظاماً للرقابة المركزية اللاحقة على دستورية القوانين والانظمة لضمان الالتزام بالدستور وعدم خرق مبادئه، ذلك ان الرقابة على دستورية القانون احد مرتكزات دولة القانون التي ارادوها.
ان الدفاع عن الدستور هو في حقيقته دفاع عن المبادىء الواردة فيه والتي تشكل في جوهرها قواعد للموازنة السياسية وضعتها الاطراف السياسية لضمان مصالحها السياسية بعد وصولها لسدة الحكم، وقد عبر عن هذه الحقيقة الاستاذ جورج سل في مقالة كتبها قبل اكثر من 200 سنة والتي جاء فيها (ان قواعد القانون الدستوري هي بالاحرى قواعد توازن سياسي اكثر من كونها اساساً للمشروعية) .
طبقة سياسية
وقد اثبتت الاحداث ان الطبقة السياسية مهتمة في حفظ مصالحها السياسية اكثر من اهتمامها لمشروعية الوصول للحكم، وعلى اساس ضمان المصالح السياسية تم خرق قواعد الاتحاد الفيدرالي عندما حولوا العراق من دولة موحدة بسيطة الى دولة اتحادية (فيدرالية) من خلال تجزئتها واعادة توحيدها باتحاد فيدرالي يتضمن كانتون او اقليم يتيم وهو اقليم كوردستان.
والهدف من ذلك ضمان مشاركة الاطراف الكردية ذات النزعة الاستقلالية في العملية السياسية، وان الفيدرالية ضمانه للمشاركة لاسباب تاريخية معروفه للجميع، ثم تم خرق قواعد اللامركزية السياسية عندما منحوا هذا الاقليم صلاحيات استقرت النظم الفيدرالية ان تكون من حصة الحكومة المركزية حصراً، كما جاء الدستور بنص فضفاض حول الثروات والمعادن الطبيعية وترك تنظيمها الى القانون ولم ينجح مجلس النواب العراقي لغاية هذه اللحظة من سن هذا القانون بسبب الخلافات السياسية بين الاقليم والمركز حول ادارة وتوزيع الوارادات النفطية رغم مرور عشرين سنه على صدور الدستور.
كما تضمن الدستور الغام كثيرة بدأت تنفجر على عجلة الحراك السياسي جعل دهاء الطبقة السياسية يقف مذهولاً امام المآزق الدستورية التي وضعوا انفسهم فيه نتيجة الصراع السياسي على السلطة والسيطرة على المؤسسات الدستورية وتعزيز المكاسب الحزبية، فالدستور الذي وضعوه بايدهم لم يعد يحقق مصالحهم ومطامحهم السياسية بل بدأ يتعارض معها عندما بدأت المحكمة الاتحادية العليا تمارس دورها المرسوم بالدستور نفسه.
وهنا بدأت موجة جديدة باحالة الصراعات السياسية الى هذه المؤسسة المسؤولة عن الرقابة على دستورية القوانين وتفسير الدستوروالفصل في النزاعات التي تحصل بين المركز والاقليم والمحافظات غير المنتظمة في اقليم، وبدل تسوية الصراعات السياسية خارج اطار المحكمة، رموا الكرة في ملعب المحكمة، وقد اصدرت المحكمة العديد من القرارات المهمة والشجاعة فاجئت الطبقة السياسية، ذلك ان قرارات المحكمة الاتحادية وان كانت تصدر باطار قانوني الاانها ذو ابعاد واثار سياسية بالنتيجة.
وهنا ادرك بعض الساسة حجم المازق الجديد الذي وقعوا فيه وخصوصاً ان قرارات المحكمة بانه وملزمة وان هذه القرارات ذات الابعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية بدأت تمس مصالح بعض الطبقات السياسية وهذا ادى الى قيام الجهات التي ساهمت في ايجاد هذه المؤسسة بمهاجمتها واتهامها بالتغول على الدستور والسلطات الاخرى وممارسة دوراً تشريعياً.
في حين التاريخ يعطينا امثلة حية لدور المحاكم العليا في استنباط الاحكام والمبادىء من النصوص الدستورية واكمال النقص والقصور التشريعي لضمان فاعلية النص الدستوري او لضمان اعلان عدم دستوريه النص الطعين، فالمحكمة العليا في امريكا اصدرت الكثير من القرارات التي تضمن تعديلا للدستور الامريكي بل هي من انتزعت لنفسها اختصاص الرقابة على دستورية القوانين لان الدستور لم ينص عليه، وكانت اكثر جرأة وتجديداً عندما الغت الفصل العنصري المتجذر في المجتمع الامريكي، كما نهت في قرارها الاخير الحماية الدستورية لحق المرأة في الاجهاض.
فالمحاكم العليا ممكن ان تمارس دوراً يمكن ان يوصف تشريعياً من خلال قراراتها المكملة والمنشأة كون غالبية قضاة هذه المحاكم ينزعون الى ذلك بصورة طبيعية منطلقين من خلفياتهم القانونية والثقافية والاجتماعية الا ان هذا الموضوع لا يجب تضخيمه واستغلاله سياسيا لضرب هذه المؤسسة الدستورية لان المحاكم العليا تعمل وفق قيود ذاتية وكوابح داخلية تحول دون التعدي على السلطات الاخرى رغم النظام البرلماني الهجين الذ جاء به الدستور، والذي افرز مشاكل في التطبيق وصلت في بعض الاحيان لحافة انهيار العملية السياسية والحرب الاهلية.
ان مهاجمة المحكمة الاتحادية العليا ليس لكونها خرقت الدستور وانما بسبب تضرر بعض الاطراف السياسية من قراراتها، ويبدو ان عملية اخضاع المحكمة في تشكيلتها للمحاصصة السياسية بهدف ضمان مصالح الجهة التي يمثلها القاضي المرشح لشغل هذا المنصب قد اخفقت، وهذا ما اشار اليه القاضي عضو المحكمة المنسحب عندما علل سبب انسحابه هو عدم قدرته بالدفاع على مصالح الاقليم وكانه مندوب عن الاقليم في المحكمة وليس عضوا فيها.
لذا كنا ولازلنا نؤكد على عدم اخضاع التشكيلات القضائية لنظام المحاصصة السياسية لان ذلك بالتاكيد يخرق حياديتها، خلاصة القول لا تدمروا اخر معقل لحماية الدستور الذي وضعتوه بانفسكم فالمحكمة الاتحادية العليا اخر مؤسسة دستورية يمكن التعويل عليها في ظل نظام برلماني يثير اشكاليات في التطبيق وفي ظل دستور من الصعوبة بمكان تعديله ليواكب التطورات السياسية.
ان قرار المحكمة الاتحادية العليا بالعدد (224 وموحدتها 269/ اتحادية /2023) في 22/2/2023 المتضمن الزام حكومتي الاتحاد والاقليم بتوطين رواتب موظفي الاقليم لهذه السنة والسنوات القادمة بالتنسيق المباشر مع وزارة المالية الاتحادية دون الرجوع الى ممثلية اقليم كردستان لايمثل اي مساس بمبدأ الفيدرالية او التعدي على اختصاصات الاقليم بعد ان اخفق في توزيع الرواتب على موظفي اقليمه طيلة هذه السنوات، لانها مارست اختصاصها وفق الدستور وهي ملزمة بالفصل بالنزاع المعروض عليها، كما ان هنالك سابقة تاريخية على مستوى المحكمة العليا الامريكية تتعلق بتدخل القاضي الفيدرالي في اعمال المسؤول في الولاية في حال مخالفته للدستور وهو ما يعرف بمبدأ (يونج) 1908 وهي حالة يمكن قياسها على الحالة في الاقليم… والله الموفق .
اضف تعليق