إن الفكر الأيديولوجي فكر لا يبحث عن الحقيقة المجردة في كمال ذاتها، وإنما عن الفكرة النافعة، بينما الفكر الفلسفي يبحث عن الحقيقة المجردة، والغاية فيه غاية إنسانية شاملة لا تخص جماعة بعينها، كونها تعالج الوجود الذي يعني الإنسان بما هو إنسان...
إن فعل الأيديولوجي هو فعل بروكست ذلك البطل الأسطوري قاطع الطريق، الذي كان يخطف من على قارعة الطريق ويضع المخطوف فوق سرير، وكأن السرير قالب جاهز، فإذا كان المخطوف أطول من السرير قطعه حتى يكون متناسبا مع طول السرير، وإذا كان أقصر منه مطه ليناسبه، إن عقلنا لا يتصرف إلا في ضوء قانون الفعل، ورد الفعل هذا قاعدته المكان والزمان، اللذان ينطلق منهما العقل وطالما كان هذا العقل
أسيرا في المكان ومكبلا بقيود الزمان، أي خاضعا لقيود المحدود لا يستطيع أن يفهم محيطه، ولا أن يتعامل مع هذا المحيط إلا من خلال قناع فكري معين، هذا القناع هو الأيديولوجيا، فالايديولوجيا لا تجعل الانسان ينظر إلى الواقع بعين تحليلية نقدية، بل من خلال أطر مسبقة.
لذلك يطلب ناصيف نصار أن يكون الوعي النظري العلمي والفلسفي في أعلى حالات التنبه والتحفز، وأن يصقل أدوات التحليل والنقد الموجودة أو نخترع أدوات جديدة، حتى يتمكن هذا النوع من الوعي أن ينمو بحرية، بعيداً عن الاغراءات التي تنتجها الأيديولوجيا في كفاحها المستميت لبلوغ أهدافها، وهذا يعني أن الفلسفة تخوض معركة يتعين عليها أن تخوضها مع الأيديولوجيا، لا تهدف إلى الغلبة أو الاستتباع بقدر ما تهدف إلى تحرير الفكر من هيمنة الأيديولوجيا.
إن الأيديولوجيا لا تستطيع ان تنقلب فلسفة بالمعنى الصحيح، والفلسفة لا تستطيع أن تحل محل الأيديولوجيا، وهذا لا يمنع من وجود من يقول إن للفلسفة وظيفة أيديولوجية، ونحن نعتقد أن هذا خلط بين الأيديولوجيا والسياسة، فللفلسفة وظيفة سياسية، أو أن للسياسة جذورا فلسفية، لأن واحدة من مهمات الفلسفة العملية هو البحث عن مجتمع مثالي وتحقيق الدولة المثلى، ولكن يبقى هذا على مستوى التفكير النخبوي للفلسفة، ولا يعني هذا انغلاقها على تفسير نهائي لطبيعة الدولة، وليس من مهمة الفلسفة التحزب لاتجاه دون آخر، وهي لا تستغل العاطفة الجمعية لتحقيق أهدافها، بقدر ما تطرح خياراً لتحقيق الدولة المثلى، بينما نجد الفكر الأيديولوجي يلعب على وتر العاطفة مغيبا للجانب العقلاني، ولذلك نحن نعارض القول بارتباط الفلسفة بالأيديولوجيا، وإن كان أصحابها يحاولون تأطيرها برؤى نظرية محاولين إخراجها من الانغلاق والتقوقع، وإن كانا من أهم صفاتها، محاولة توظيف الفلسفة بجعلها تبريراً، وجعل التنظير الفلسفي في مجمله مجرد قناع للأيديولوجيا.
إن الفلسفة ترفض التبعية، لأن التبعية تستلزم الخضوع، بينما نجد التبعية من شروط الأيديولوجيا، بوصفها تشكيلا لتكتل أو تجمع، يكون شرطاً من شروط تحقق غاية المجموعة.
إن الفكر الأيديولوجي فكر لا يبحث عن الحقيقة المجردة في كمال ذاتها، وإنما عن الفكرة النافعة، بينما الفكر الفلسفي يبحث عن الحقيقة المجردة، والغاية فيه غاية إنسانية شاملة لا تخص جماعة بعينها، كونها تعالج الوجود الذي يعني الإنسان بما هو إنسان.
الفلسفة التي ندعو لها هي فلسفة الممارسة بلغة كرامشي، التي تحاول النهوض بالبسطاء نحو تصور أرقى للحياة، والسعي في الوقت ذاته لتخطي النظرة المتعالية، التي تُنظّر وتشرّع لاقامة الفيلسوف في برجه العاجي.
الأيديولوجيا نظام من أفكار اجتماعية يرتبط بمصلحة جماعة معينة، ويشكل أساسا لتحديد أو تبرير فاعلية تلك الجماعة في مرحلة تاريخية معينة. الحقيقة في الأيديولوجيا معلومة سلفًا. في كتابه «الأيديولوجيا» يؤكد محمد سبيلا أن الأيديولوجيا تُقدم للجماعة صورة مرآوية عن ذاتها صورة تمجيدية للذات صورة إيجابية، تجعل الجماعة هي المركز الاساس وهي الفاعل الأول. لعل كل ايديولوجيا لا تكسب صلابتها الذاتية وتحضن مواقعها، إلا على أشياء الآخر فهي في حاجة دوما إلى خصم « إلى آخر» تسقط عليه كل الصور السلبية.. لا يعني هذا أن الأيديولوجيا لا تتبنى رؤية فلسفية معينة، بل هي النتاج الجدلي لامتزاج تجريدات الفلسفة بمحسوسات التاريخ، فكل أيديولوجيا إذن هي ذات بعد فلسفي تجريدي معين، أو أنها ذات بعد حسي مادي أو واقعي معين، أي أن الايديولوجيا هي عبارة عن مشروع قيمي قابل للتحقيق.
اضف تعليق