نموذج التحديث الغربي قد غزا العالم بأسره وأصبح متغلغلاً في داخلنا وبيوتنا ومدارسنا ومصانعنا، في عقول شبابنا وفتياتنا، في نمط الإدارة والحكم، في مؤسسات القطاع العام والخاص، في النظام التعليمي والاقتصادي والإعلامي وما أشبه ذلك لا يمكننا أن نواجه هذا الغول بمنطق المتصوفين والمهزومين في الحياة أو بحقل...
في مفهوم الحداثة
إن الحداثة ليست صفة يتصف بها المجتمع، أو شكلا يتزنا به، وإنما هي مرحلة يبلغها المجتمع، ويدخل بتطوره النوعي الذاتي في نمط جديد من الحياة، قوامه الاستيعاب التام للحظة الراهنة التي يعيشها المجتمع في مختلف المستويات، وإدراك التطورات العلمية والصناعية والسياسية والاجتماعية..
فالظروف العامة، والعقلية التي تصاغ في خضم هذا التطور والاستيعاب والإدراك، هو الحداثة.. ودون ذلك لا يعني حداثة، وإنما لهثا وراء شكليات وقشور بدون جوهر ولباب..
وهذا إضافة إلى اكلافه الاجتماعية والحضارية، فإنه لا يوصل المجتمع إلى أهدافه.. بل هو بمثابة صب الماء في طاحونة الأزمة الاجتماعية _الحضارية التي نعيشه.
ولقد أورد الدكتور (معن زيادة) في كتابه (معالم على طريق تحديث الفكر العربي) جملة من خصائص المجتمع الحديث (العلم والمعرفة القائمة على التجربة الحسية، وعلى الوقائع المادية الملموسة ظهور أنظمة اقتصادية جديدة، وأنماط إنتاج مستجدة مرتبطة بهذه الأنظمة طبيعة النظام السياسي).
وعند التأمل في هذه المعالم، نكتشف أنها ليست علامات مجردة، بل هي مرحلة تبلغها المجتمعات الإنسانية، بعد أطوار مختلفة من التطور والتقدم في مختلف الميادين. فالاستخدام المتزايد للطاقة، والإفادة من التكنولوجيا المتطورة، والتوجه نحو المكننة، كلها أمور وقضايا وليدة تطور اجتماعي-اقتصادي محدد، وليست هي أمور مجردة لا يتم البناء التحديثي إلا بهما.
فالأبنية الثقافية والاجتماعية، هي التي تصنع تلك الأنماط الاقتصادية والصناعية المتقدمة. وهذه الأبنية لا يمكن استيرادها وإنما هي تنبثق من أرض المجتمع وتنمو كما ينمو الكائن الحي، وتحدث الدافعية والفاعلية اللازمة لتطوير تلك الأبنية والوصول بها إلى مرتبة أو مرحلة متقدمة في الاقتصاد والصناعة والعلوم الحديثة.
"والمثل الساطع الذي يمكن أن نسوقه في توضيحنا لهذه الفكرة هو ما حدث داخل الكنيسة المسيحية، صحيح أن أوروبا كانت مسيحية قبل القرن الخامس عشر وخلال العصور الوسطى، وقد ظلت مسيحية بعد ذلك ولا تزال، على الأقل من حيث كون شعوبها تدين بالمسيحية، إلا أن اختلاف المسيحيين في نظرتهم إلى أنفسهم، وإلى ما يحيط بهم، وإلى دورهم في العالم وعلاقتهم به يؤكد لنا أننا أمام رؤية مسيحية جديدة بكل معنى الكلمة وهذا ما يؤكده (كرين برينتون) الذي يؤرخ لفكر عصر النهضة عندما يقول: إنه يبدو أن أكثر ما كان يؤمن به رجال أوروبا ونساؤها خلال القرن الثامن عشر وماتلاه كان متناقضا مع بعض جوانب هامة جدا من العقيدة المسيحية التقليدية، أو إن شئت فقل إن عصر التنوير غير جذريا العقيدة المسيحية". (راجع معالم على طريق تحديث الفكر العربي-ص 18)
وبهذا فإن الحداثة وفق هذا المنظور، لا تتحدد في وجه واحد أو نمط محدد.. وإنما هي عملية تحمل وجوهاً متعددة، وتأخذ دورها وحيويتها في مجالات مختلفة. فقد تكون الحداثة في تنمية الاقتصادية مستديمة، لأن ذلك المجتمع يحتاج إلى التنمية الاقتصادية لعملية الإقلاع والوثوب الحضاري. وقد تأخذ شكل إعداد البنى التحتية اللازمة لنظام اجتماعي جديد، يزيل ركام التخلف والانحطاط من الجسم الاجتماعي.
وقد تأخذ شكل نهضة ثقافية، تزيل كل رواسب التخلف الفكري والثقافي، وهكذا تتعدد وجوه الحداثة، بتعدد حاجات المجتمع ومتطلباته الأساسية. فـ "للحداثة وجه خارجي يتجسد بالمنجزات المادية والتطورات العلمية والتكنولوجية أي بالمحيط الإنساني، ووجه داخلي يتجلى بالسلوك والشعور والقيم الإنسانية. فالحداثة لا تقوم بذاتها، إنها بحاجة إلى ذلك الإطار أو النسق الاجتماعي الذي يشمل الوجهين المادي والمعنوي، وهي بحاجة دائما إلى الإنسان المحدث تقيم معه تلك العلاقة الجدلية الضرورية التي تغذي الطرفين.. الإنسان المحدث لا يولد من العدم، إنه بحاجة دائما إلى تلك الشروط المادية التي تجسد الحداثة الخارجية كما سميناها، وهذه بدورها لا تقوم بدون الإنسان الفاعل المنفعل بها".. (المصدر السابق ص 69).
وبالتالي فإن الحداثة وفق هذا المفهوم، تعني المساهمة والمشاركة في صنع الحاضر في مختلف الحقول والمجالات.
فعلى المستوى الثقافي، فإن الحداثة تقتضي رفض الجمود والانغلاق، والقبول بمبادئ الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية. وعلى المستوى الاجتماعي تعني: إطلاق الحرية وفسح المجال لكل التعبيرات الاجتماعية من القيام بدورها، وفق تصورها ومرجعيتها الثقافية. وعلى المستوى السياسي تعني: القبول بنتاج وإبداع الفكر الإنساني في هذا الحقل. وهكذا بقية الجوانب والحقول.
فهي مشروع نظري مفتوح، على كل قيم المساهمة والمشاركة، وضد الجمود والتكلس والهروب من الواقع والابتعاد عن معادلاته وتحدياته.
وهذا بطبيعة الحال يعني النقاط التالية:
1- إن الحداثة لا يتم استيرادها من الخارج، بل تنبثق انبثاقا من المجتمع. بمعنى حدوث جملة من التطورات في مختلف المجالات والجوانب، بحيث يصل المجتمع إلى مستوى الدخول في عالم الحداثة ومتطلباته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
ولعل الخطيئة التاريخية الكبرى، التي وقعت فيها الكثير من البلدان العربية والإسلامية، حينما تعاملوا مع الحداثة، باعتبارها مجموعة من السلع والمواد التي يمكن استيرادها من موطنها الأصلي. إذ أن هذه الخطيئة أوهمت الكثير، وجعلتهم يلهثون وراء عمليات الاستيراد للسلع الموصوفة بالحداثة. دون أن يبذلوا جهوداً حقيقية، في سبيل استنهاض القدرات الذاتية في المجتمع، للوصول إلى مراحل متقدمة في التطور الإنساني.
2- إن الحداثة كمرحلة يبلغها الاجتماع الإنساني، بحاجة إلى توفير الشروط الثقافية والاجتماعية لبلوغها
إذ لا تتم التطورات الاجتماعية صدفة، أو بدون توفير مقدماتها. وإنما هي بحاجة إلى توفير كل العوامل والشروط التي تؤهل الاجتماع الإنساني إلى بلوغ عالم الحداثة.
من هنا فإن الحديث عن الحداثة وضرورتها وثمارها العامة، دون توفير مقدماتها وشروطها الاجتماعية ومناهجها الثقافية، يعد جهدا ضائعا، أو في أحسن الحالات لا يوصلنا إلى مرادنا العام.
إن مشروع الحداثة، لا ينجز في الساحة الاجتماعية، إذا لم تتوفر ثقافة تدعو إليه، وتوضح سبل الوصول إليه، وإذا لم يكن هناك الوعي الاجتماعي المناسب، الذي يحتضن كل المناشط التي تصب في هذا السبيل. ويضاف إلى كل ذلك، وجود روح معنوية رفيعة لدى أبناء المجتمع، بحيث ينطلقوا منها لاستيعاب التطورات، وتجاوز العقبات، وصناعة المنجز الحضاري.
3- لم تعد أشكال الحداثة وسلعها الصناعية والتكنولوجية، محصورة في المجتمعات والأمم ذات التقدم العلمي والصناعي الهائل.. بل أصبحت متوفرة في الكثير من المجتمعات والأمم بصرف النظر عن درجة تقدمها العلمي وتطورها التقني. من هنا وحتى لا تكون علاقتنا بهذه الأشكال والسلع، علاقة شكلية ولا تتعدى الاستفادة المادية منها، دون الاستفادة من الخلفية الثقافية والحضارية، التي أنتجت تلك الأشكال والسلع، من الضروري أن نحدد طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تربط المواطن العربي بسلع الحداثة وأشكالها، حتى نضمن تناغما محمودا وفاعلية دائمة في علاقة المواطن العربي بسلع الحداثة..
ولكي نتمكن كمواطنين عرب من الاستفادة القصوى من هذا التقدم العلمي والتكنولوجي في شكله المؤسسي.
مفهوم الحداثة.. قراءة تاريخية
يتميز مصطلح الحداثة، عن غيره من المصطلحات، من أنه يستدعي الكثير من الأسئلة والإجابات المتعددة، المرتبطة بمسيرة هذا المصطلح وواقعه الاجتماعي والحضاري، سواء في فضاء الآخر المعرفي، أو في فضائنا المعرفي.
ولعل هذا الاستدعاء الدائم لجملة الأسئلة والإجابات، هو من جراء اختلاف قاعدة الانطلاق، ومعايير التقويم.
إذ إن التكوين المعرفي المختلف، هو الذي يؤدي إلى النظرات المتباينة والعديدة لهذا المصطلح، وبإشكالياته التاريخية والراهنة.
وبهذا تداخلت المفاهيم والمضامين، بين مصطلح الحداثة، وغيره من المصطلحات كالعصرية والجديد والتقدم.
ويبدو أن مصطلح الحداثة في هذا الإطار، وكأنه نص مفتوح، على كل مضامين التقدم المعاصر. بحيث إنك لا تفرق بشكل صارم في الكثير من الكتابات، بين مضمون مصطلح الحداثة، وبين المضامين التي تطرحها هذه الكتابات لمصطلح التقدم أو العصرية أو الجديد.
ويمتد التداخل، ليشمل المعايير والقيم وأنماط السلوك واللباس وطراز السكن، أي كل مناحي الحياة في آخر المطاف.
وعليه نجد من يمد الحداثة عالميا إلى تخوم العصور الكلاسيكية (أدونيس في بحثه مفهوم الحداثة في إطار الإتباع والإبداع انطلاقا، من أن ازدواجية القديم - الحديث، ثنائية شاملة تبرز في كل عصر وحين)..
وهناك من يمد المفهوم (أوروبياً) من بدايات القرن السادس عشر (1513م تاريخ ظهور البروتستانتية)حتى يومنا الحاضر. وبذلك يشمل المفهوم بين دفتيه ثورة الكنائس ضد الكنائس، اللاهوت المعقلن ضد اللاهوت غير المعقلن، ثورة العلوم الطبيعية في عصر النهضة الأوروبية (كوبر نيكوس - غاليلو - نيوتن) والثورات الفلسفية (هوبز - بيكون - ديكارت اسبينوزا - كانط) والثورات الصناعية والثورات السياسية (هنري لوفيفر: ما الحداثة)..
فالحداثة وفق هذا الفهم بنية مركبة إبستمولوجية - إنطلوجية. ولهذا فإن الحداثة في النموذج الغربي إدغام عناصر تقليدية في مقدمة انطلاق الحداثة.
ويجد هذا الإندغام نفسه مظاهر شتى على حد تعبير (فالح عبد الجبار) انطلاقة تحطيم اللاهوت من اللاهوت نفسه، انطلاقة الفلسفة من أسر اللاهوت، الاعتراف بثنائية العقل الإلهي - العقل البشري، وبالتالي ثنائية الحقيقة (الرشدية في صورتها الأوروبية) وانفساخ المجال لانطلاقة العلوم الطبيعية والإنسانية، إلغاء التوسط بين الخالق والإنسان عبر الكنيسة وبالتالي إلغاء التوسط بين الحق الطبيعي (البشري) والحق الإلهي، تصارع و / أو تصالح الفلسفة والدين المسيحي (توفيقية ديكارت، نزعات التصالح مع الدين المسيحي عند كانط، توحيد الدين والفلسفة في صورة الفكر المطلقة التي تتطور ذاتيا بفعل تناقضها الداخلي، كما عند هيغل... الخ.
إننا نجد هذا الإندغام والحركات الملتوية، على امتداد فسحة واسعة من التاريخ الأوروبي.
فالحداثة تعني مجمل التفاعلات التراكمية التي يدعم بعضها بعضا. وهي تدل على رسملة الموارد وعلى تراكمها وتحريكها، وعلى نمو القوى المنتجة، وزيادة إنتاجية العمل، مثلما تدل أيضا على تمركز السلطات السياسية المتمركزة، وعلى تشكيل الهويات الوطنية والثقافية. (يورغن هبرماس - الخطاب الفلسفي في الحداثة).
فالثورة الصناعية الغربية، وما رافقها من تطورات ومتغيرات هائلة على مختلف الصعد، أنتج طفرة أو قفزة في حركة التطور الاجتماعي والاقتصادي، بحيث توسعت قوى الإنتاج وتطور العلم والتقنية تطورا واسعا، حيث إن التقنية جعلت الإنسان سيد الطبيعة ومالكها. وبهذا دخل العالم المتقدم في طور جديد من التقدم، ميزته الأساسية تحول نمط العلاقة بين العلم والتقنية.
بمعنى أن الأهمية المتعاظمة التي تمثلها الأعراض التقنية في العالم، بحيث لم يعد هناك إنسان وطبيعة، بل هناك أنا والعالم.
وأن هذا الأنا متضمن في بيئة إنسانية - تقنية على حد تعبير(إبراهام مول). وحسب الفيلسوف الألماني فردريك هيغل (1770- 1831م) فالحداثة بدأت مع عصر الأنوار بفعل أولئك الذين أظهروا وعيا وبصيرة باعتبار أن هذا العصر هو حد فاصل ومرحلة نهائية من التاريخ.
في هذا العالم الذي هو عالمنا وحاضرنا يفهم على أنه قيمومة الزمن الحاضر انطلاقا من أفق الأزمنة الجديدة التي تشكل تجددا مستمرا..
وقد استخدم هيغل مفهوم الحداثة، ضمن أطر وسياقات تاريخية للدلالة على الأزمنة الحديثة. وهو مفهوم زمني يعبر عن القناعة بالمستقبل الذي سبق وبدأ والزمن المعاش، المرهون بالمستقبل، والمنفتح على الجديد الآتي.
أما (أوزفالد شبغلر) (1880- 1936م) فقد صاغ في كتابه (انحطاط الغرب) مفهوما للحداثة أطلق عليه حضارة الرجل الفاوستي [نسبة إلى فاوست والفاوستية هي محصلة خصائص الإنسان الغربي الحديث أما فاوست فهو العملاق المبدع النهم الذي لا يشبع طموحه وظمأُه إلى المعرفة، ولا يتوقف في البحث عن الحقيقة المطلقة. والنموذج الفاوستي هو عكس النموذج الأبولوني - الديونيزي نسبة إلى الإله أبولو الديونيزي في الأساطير الإغريقية. وفاوست عند الشاعر الألماني (غوته) هو العبقري المغامر دوما وبلا هوادة نحو المعرفة]..
ومن خلال هذا العرض المقتضب، نستطيع أن نقرر أن مفهوم الحداثة يمكننا تعريفه من خلال النقاط التالية:
1- إن الحداثة ليست مجموعة من الشكليات والعناوين ذات المضمون الضحل. وإنما هي مرحلة تبلغها المجتمعات من خلال عملية التراكم التاريخي، والجهود التي يبذلها أبناء المجتمع في سبيل الخروج عن القصور الذي يقترفه الإنسان في حق نفسه، وعجزه عن استخدام عقله وإمكاناته في سبيل البناء.
2- وإن أكثر ما تتطلبه الحداثة للنمو والبروز في أي حركة اجتماعية. الحرية بمعنى الاستخدام العلني للعقل في أمور المجتمع وقضاياه المختلفة. ولهذا نجد في التجربة الأوروبية، أن هناك علاقة طردية، تربط مستوى الحداثة مع انبثاق مبادئ حقوق الإنسان والفلسفة العقلانية وفكرة التقدم الاجتماعي.
3 العقلانية: ويمكننا أن ندرك هذه الرؤية السوسيولوجية أيضا في علم الاجتماع النقدي، الذي طرح العلاقة الجدلية المباشرة بين تطور التفكير العقلاني والتطور التكنولوجي، الذي أدى إلى الهيمنة الشاملة على العالم. بحيث لم يعد العالم في ظلها سوى مجال للمراقبة والخداع حيث تحولت مبادئ التنوير والحداثة، إلى ذرائع سياسية متكاملة.
العرب والحداثة
إن الحداثة ليست مجرد التزامن مع الآخر الحضاري في أدواته وتقنياته، بل هي تراكم للخبرة والتطور..
وإن من الأخطاء الحضارية التي وقع فيها الكثير، هو حينما اعتبرت الحداثة مجموعة مظاهر ومنتجات الحضارة. لهذا أصبحت الكثير من شعوب العالم الثالث، تحيا الحداثة بثقافة التخلف وتاريخه. فهو لا ينتمي إلى منظومة فكرية حديثة، وإنما هو يدعي ذلك. لهذا فهو لا ينتج، ولا يعيش الفاعلية الحضارية في حياته، بل يعيش الاستهلاك والتبعية بأحلى صورها وأشكالها.
وهذا من جراء العلاقة الفوقية والمصطنعة التي تربطه والحداثة. فحينما لا تكون العلاقة حقيقية بين المجتمع والحداثة، تتحول الأخيرة إلى وهم كبير، وسراب لا نهاية له لذلك المجتمع. حيث إنه سيعتبر الحداثة، المزيد من اقتناء منتجات الغرب، وتقليده حضاريا، وهو لا يدرك أن هذه العملية تزيده بعدا عن هدفه المنشود، كما تشوه قيم الحداثة الحقيقية.
لهذا يقول (محمد أركون) في كتابه (الإسلام والحداثة): إن الحداثة موقف للروح أمام مشكلة المعرفة، إنها موقف للروح أمام كل المناهج التي يستخدمها العقل للتوصل إلى معرفة ملموسة للواقع. أما التحديث فهو مجرد إدخال للتقنية والمخترعات الحديثة (بالمعنى الزمني للكلمة) إلى الساحة العربية أو الإسلامية.
نقصد إدخال آخر المخترعات الأوروبية الاستهلاكية، وإجراء تحديث شكلي أو خارجي، لا يرافقه أي تغير جذري في موقف العربي المسلم للكون وللعالم.
وبفعل هذه العلاقة المصطنعة مع الحداثة وقيمها، تحول التحديث إلى عملية قسرية. وقد أدى هذا النوع من التحديث إلى انكفاء المجتمع على نفسه والبحث عن أسلوبه الخاص في استيعاب الحداثة والتحديث.
فالتحديث ليس جملة المؤشرات الكمية في المسيرة المجتمعية.
وإنما هو صيرورة تاريخية-اجتماعية، تلامس بالدرجة الأولى البنى الأساسية والجوهرية في العملية الاجتماعية بأسرها.
وتثبت الأسس العقلية للتحديث المجتمعي، أن الثبات على النموذج الغربي أو المعاصر في التحديث أمر موهوم؛ لأن التحديث لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يستعار..
فأسس التحديث المجتمعي، لا تستورد من الخارج الثقافي والحضاري، وإنما تنبثق انبثاقا من الذات والواقع المجتمعي. والاستعارة الفوضوية لأشكال التحديث الاقتصادية والاجتماعية من الخارج، هي التي تؤسس لواقع موضوعي، يكون مناقضا حقيقيا لمفهوم الحداثة السليم.
كما أن مشاريع التحديث الفوقية، تصطحب معها المزيد من الانهيار الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وتهميش لدور الجمهور في عملية البناء والتطوير، والابتعاد عن مصادر قوتها الذاتية، وعوامل إرادتها الحياتية في ثقافاتها وتجاربها الحضارية.
وأضحت الحياة العربية، تتراوح بين دورة تنتج التحديث، وتنتج في آن موتها الداخلي، قبل أن تكتمل، ثم تعيد إنتاج التحديث غير المكتمل لا لشيء إلا لتقضي عليه من جديد. وبهذا يصبح المجتمع - على حد تعبير (هشام شرابي) - مجتمع بطركي حديث.
وبالإضافة إلى ذلك يفك التحديث العلاقة الداخلية التي تربط الحداثة بالاستمرارية التاريخية للعقلانية الغربية..
فإذا كانت الحداثة مرتبطة بمعقولية تأسست مع نشوء الغرب الحضاري، أي إذا كانت الحداثة وعي العالم الغربي بغربيته وبكونيته، فإن التحديث، من خلال ارتباطه بالأنموذج وبالواقع المتعدد والمتنوع سيفك الحداثة من الغرب، وسيجعل منها عنصرا عاما وكونيا..
فبسبب العلاقة المصطنعة مع الحداثة، والمساوقة بين مفاهيمها والنموذج الغربي، تم الإخفاق الجزئي أو الكلي لأغلب مشاريع التحديث في العالم العربي والإسلامي..
وحتى لا تكون علاقتنا كعرب علاقة مصطنعة مع الحداثة، من الضروري الاهتمام بتطوير أوضاعنا التعليمية والثقافية والاجتماعية.. لأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يقبض على أسباب الحداثة ويستوعب ميكانيزماتها الخاصة، بدون عملية تحول نوعي وجوهري تطال العملية التربوية والثقافية في المجتمع.. وتعلمنا التجارب الإنسانية المختلفة، إن المجتمعات التي انخرطت في مشروعات الحداثة على نحو حقيقي، هي تلك المجتمعات التي أعادت صياغة مناهجها التعليمية، وأعلت من شأن حرية البحث العلمي، ووفرت كل أسباب النجاح لكل أركان العملية التعليمية..
فالحداثة ليست مقولة تقدمية مجردة، تلوكها الألسن، وتدبج بها المقالات، وإنما هي وقائع اجتماعية وثقافية وسياسية وتعليمية وصناعية..
ومن يتطلع إليها، فعليه أن يكون مشاركا فعالا في مشروع التغيير والتطوير والإصلاح للأوضاع التعليمية والتربوية والثقافية في المجتمع.. فهي البوابة الواسعة، لخلق علاقة حقيقية مع الحداثة بكل مستوياتها وآفاقها..
وعليه فإن الحداثة لا تساوي التفلت من القيم أو محاسن العادات والأعراف، وإنما تعني صياغة علاقة منتجة ومبدعة مع هذه القيم والعادات، حتى تتوفر الإمكانية الفعلية لدينا للإضافة على المنجز التاريخي والحضاري.. فليس من الحداثة العيش على أمجاد وانتصارات الماضين.. وإنما الفعل الحداثي الصميم، هو الذي يدفع نحو مواصلة المنجز والإضافة عليه.. وهذا لا يمكن أن يتحقق على الصعيد الواقعي، بدون علاقة نقدية مع مقولات الراهن.. فالعلاقة النقدية التي تبحث دوما عن الممكنات، وتوفر الإرادة الإنسانية لإنجاز هذه الممكنات، هي سبيلنا لنسج علاقات حقيقية مع مفاهيم الحداثة ومقتضياتها المتعددة..
وتبقى الحداثة كما يشير (يورغن هابرماس) مشروعاً ما زال قيد الإنجاز.. أي ليس لها سقف محدد أو شكل معين.. وإنما هي مشروع مفتوح لمبادرات الأمم والشعوب وإبداعاتهم وحراكهم المتعدد الأبعاد، الذي يستهدف تشكيل نظام عام للحياة للأفراد والجماعات معا، أقرب إلى مبادئ العدالة والحرية والمساواة، وأبعد من كل قيم التخلف والانحطاط وعلى رأسها الاستبداد والاستئثار والجمود..
من أجل نقد علمي لمفهوم الحداثة الغربية
لا شك أن من السمات الأساسية التي يمكن أن نطلقها على العصر الذي نعيشه، هو أنه عصر تعميم وتوسيع دائرة النموذج الغربي لعملية التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بحيث تشمل العالم بأسره.. وقد انعكست هذه العقلية المركزية الغربية في جميع مرافق ومجالات الحياة. فالايدلوجية الرأسمالية يزعم أقطابها أنها تقوم على حقائق أبدية خالدة، حقائق تتجاوز حدود التطور التاريخي، لتصب في إطار نموذج على الجميع أن يهتدي به ويقلده.. وهكذا أصبحت التجربة الخاصة للتطور في المجتمعات الغربية هي القاعدة العامة والقانون الأساسي لعملية التحليل النفسي والاجتماعي وعلى ضوء هذا أصبحت الثقافة العربية بشقيها الفرنكفوني والانكلوسكسوني، هي مركز الثقافات والمحور الذي تدور حوله بقية الثقافات والحضارات ودونها من الثقافات تابعة - هامشية وذات دور ثانوي في صياغة المسيرة الإنسانية وفي هذا الإطار «إطار العمل على تعميم النموذج الغربي واعتباره النموذج الوحيد الذي ينبغي أن يسود في العالم» جاءت مفاهيم التقدم والتخلف، والتحضر والبربرية، والتمدن والتوحش وغيرها من الشعارات والمقولات التي تعكس معايير ومقاييس الغرب في النظر والتحلل.
ومن هنا فإن الثقافة الغربية (على حد تعبير الكاتب التونسي محسن الميلمي) تساوي بين الزمن والقيمة. فالجديد «زمنياً» هو المتقدم، والقديم «زمنياً» هو المتخلف.. وفي هذا السياق الحضاري صفق «هيجل» لما سماه بانتصار الروح الأوروبية وعودتها إلى مجدها عند احتلال فرنسا لدولة الجزائر واعتبر ماركس وانجلز الاستعمار الفرنسي للجزائر خطوة تقدمية سترتقي بالجزائر من دور الإنتاج الاقطاعي إلى الطور الرأسمالي، كما أن زعيم المدرسة الوضعية الحديثة «أوغست كونت» يرى أن التفكير البدائي كان في مرحلته الصبيانية وهمياً يعتمد الأساطير والأديان، ثم جاء اليونان فولد العقل المجرد ثم تطور إلى التجريب مع عصر النهضة الأوروبية ليبلغ المرحلة الوضعية في هذا العصر وهي المرحلة النهائية.. وقد اعتبر «هيجل» القارة الافريقية خارج التاريخ وعلى عتبة التاريخ وأنها لم تعرف العقل، وأن المقدار القليل من التحضر الذي عرفه شمال افريقيا يرجع إلى صلته بأوروبا، كما أن «لوشان باي» قد حدد مفهوم التنمية السياسية عن طريق استخدام عشرة مؤشرات استقاها من النموذج الغربي للتحديث.. وفي نفس المجال قام «جبرائيل الموند» و«ح. باول» بتصنيف النظام الليبرالي الأمريكي يقع على رأس قائمة النظم السياسية الأكثر تطوراً. وبكلمة أن سمة التعميم والمركزية الشديدة في العقلية الغربية عموماً انتجت ثقافة السيطرة ونزعة النفي، والهيمنة والاقصاء في العقل الغربي.
وقد انتقد المفكر الفرنسي «روجيه غارودي» هذه النزعة بقوله (الغرب عرض طارئ، وثقافة شوهاء، فليس الغرب إلا طوراً من أطوار الحضارة، ليس أحسنها ولا أفضلها ولا أكثرها إنسانية وتقدمية) وقد اعتبر «كارداي فاكس» أن تقدم المسلمين المعرفي في مختلف المجالات كان سبباً رئيسياً ومباشراً وراء تحفيز القدرات الأوروبية على استقاء المعرفة والنهوض بها في عهد النهضة الأوروبية، أي أن الحضارة الغربية لم تتطور من العدم وإنما اعتمد الغربيون في تشكيلها على سابقاتها من الحضارات حيث نهلوا منها نتاج تراكم المعرفة الإنسانية، وما أدت إليه من تنام في قدرة الإنسان على التحكم بالبيئة فكانت لهم الأساس الذي شيدوا عليها لبنات حضاراتهم الرائدة الحالية.
وفي مقابل هذا السعي الحثيث لتعميم نموذج الحضارة الغربية على العالم بأسره، هناك كفاح مستميت تقوم به كل الشعوب والأمم الرافضة لمسعى تعميم النموذج التحديثي الغربي.. وعلى رأس هذه الشعوب والأمم، الأمة العربية الإسلامية حيث ان الإسلام بعقيدته وقيمه وتعاليمه ونظمه وأخيراً بحضارته يشكل نموذجاً حضارياً بديلاً لنموذج التحديث الغربي.. وأمام هذا التجاذب والاستقطاب الحضاريين نشأ في العالم العربي والإسلامي تياران يحاول كل منهما أن يبشر بنموذج حضاري معين بعد محاولة وممارسة عملية النقد الغربي لعملية التحديث، والذي يهمنا في هذا الإطار هو مناقشة آلية عملية النقد التي قام بها هذان التياران.
أولاً - تيار التغريب والتذبذب الحضاري: ويضم هذا التيار مجموع القوى والشخصيات التي انطلقت في عملها الفكري أو الاجتماعي أو السياسي من منطلق عقدي أو فكري ينتمي حضارياً للغرب فهو يضم كل المنبهرين بالحضارة الغربية الذين ربطوا مصيرهم بمصير الغرب سياسياً وحضارياً ولكي تتضح عملية النقذ التي قام بها هذا التيار نقول: انه مع بداية استقلال بلدان العالم العربي والإسلامي بدأت الدوائر الأكاديمية الغربية في تطوير حل أكاديمي جديد هو حقل التحديث والتنمية.. وتهدف هذه الدوائر الغربية في هذا الإطار بتطوير مجموعة من النظريات والمناهج التي تتعلق بعملية التحديث للمجتمع والدولة.. وخلاصة هذه المناهج والنظريات يمكننا أن نختصرها في المقولة التالية:
إن تحقيق التنمية والتحديث في البلدان العربية والإسلامية لا يمكن أن يتأتى أو يتحقق إلا إذا حذت هذه الدول حذو الدول الغربية واتبعت نموذجها التحديثي... وبتعبير آخر: أن النهج الوحيد للدخول في عالم التحديث هو الالحاق والتبعية السياسية والثقافية والاقتصادية للغرب.. فالغربنة هي شرط التحديث وطريقه.
ومن هنا نجد أن مفكري العالم الغربي هم الذين نظروا إلى العالم الثالث وهم الذين حاولوا تشخيص مأساته، واستند جهدهم التحليلي والنظري إلى الاطار المرجعي الغربي وهو اطار يعني التحيز أو التمركز حول الذات الأوروبية ودائماً كان التفكير في مأساة العالم الثالث تفكيراً بالوكالة.. فالفهم الذي قدمه الأدب التنموي لطبيعة العالم الثالث فهم مشوه.. ولقد كان من نتائج هذا التشخيص الخاطئ أن نسبت أسباب التخلف إلى الأوضاع البنيوية والاجتماعية والحضارية لهذا العالم. بل وصلت بهم الجرأة أن قالوا ان الظاهرة الاستعمارية ذاتها لعبت دوراً رئيسياً في تطوير العالم الثالث وتحديثه وتنمية هياكله الأساسية. فالدول الغربية تحاول الابقاء على الدول النامية، نامية إلى الأبد حيث تعتمد في تحديث هياكل الدولة ومؤسسات المجتمع على النموذج الغربي.. يجعل ويربط مصير هذه العملية بما تمنحها هذه إلا بالقدر الذي يحافظ على تبعيتها والحاقها الحضاري بها.
ويشير إلى هذه المسألة (س. ايزنستادت) بقوله إن عملية التحديث هي التغير نحو تلك الأشكال من الأنماط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطور في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية منذ القرن التاسع عشر حين ابتدأت عندئذ بالامتداد إلى البلدان الأوروبية الأخرى.
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين امتدت إلى بلدان أمريكية جنوبية وآسيوية وأفريقية فيقدم لنا «ايزنستادت» وغيره مثالاً جلياً على عدم وجود تمييز واضح عند الكثير من خبراء التحديث والتنمية الغربيين أن النخبة السياسية والثقافية التي مارست عملية النقد والاقتباس استعارت ذات أدوات البحث والتحليل الغربية، بمعنى أن المجهود الفكري والثقافي والتحليلي الذي بذلته هذه النخبة كان يكرس عملية التبعية والخضوع للغرب ولم يكن هذا المجهود في اتجاه التحرر والانعتاق من السيطرة الغربية ولهذا نجد أن النخب المتغربة هي صدى للتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية في العلم الغربي، ففي عالمنا الغربي والإسلامي هناك امتداد لتطورية داروين ووضعية كانت ونشوئية سبنسر وحتمية انجلر وماركس المادية وفرويد الجنسية ودور كهايم الاجتماعية ووجودية سارتر وهيدكير وعبثيتهما وبنيوية ميشيل فوكو وصنمية الإنسان عند جوليان هكسلي ونيتشة ورسل.. إنها صورة فسيفسائية لواقع النخب المتغربة في عالمنا العربي والاسلامي وينبغي التأكيد في هذا الاطار: أن الخطيئة الحضارية الكبرى التي وقع فيها الغرب أنه قام بعملية الربط والالتقاء بين تقدمه وتطوره كعمليتين تاريخيتين منفصلتين فالعمليتان بالنسبة لهم تشكلان عملية واحدة وحسب، وقد تناسى هذا وأمثاله أن عملية التفاعل بين الكائن البشري والطبيعة ابتدأت منذ وجود الإنسان على وجه هذه المعمورة وأن ما نعايشه الآن قدرة هائلة في التحكم والسيطرة في شؤون الطبيعة المحيطة به، ولنا ملاحظتان على عملية النقد والاقتباس التي مارسها هذا التيار وهي:
- التقني والمادي وتقدمه في مجال القيم والأخلاق والسلوك لذلك فهو يصدر تكنولوجيته مع قيمه وتطوره الأخلاقي ونمط معيشته.
- إن عملية التحديث تعتمد اعتماداً كلياً على تفعيل القدرات الذاتية للمجتمع. ولا تعتمد علمية التحديث على مبدأ التقليد الأعمى المفرغ من عملية الاستيعاب والإبداع كما أن عملية الحديث ليست عملية ميكانيكية بحتة حتى نجعل مؤشرات ومتغيرات كمية من قبيل الرفاه الاجتماعي ونسبة سكان المدن للريف وعدد المدن الذي يزيد عدد سكانها عن ومن هنا نجد أن غالبية نماذج التحديث التي تأتي من الخارج يلازمها استبداد سياسي وكبح لقوى المجتمع الذاتية حد معين ونسبة العمال الصناعيين للعدد الاجمالي للقوى العاملة ومستوى دخل الفرد وما أشبه. بل ان عملية التحديث يجب أن تكون ديناميكية، تعتمد على أسس راسخة وعوالم ثابتة في المجتمع لعملية النهوض والتحديث.
وأن عملية التحديث السياسية لا تبدأ بالمظاهر والمؤشرات الكمية. وإنما تبدأ بالمضمون والجوهر هو الانسان فبدون أن يتغير الإنسان في ثقافته وقيمه ونظرته إلى الذات والآخر تبقى عملية التحديث ظاهرية - مزيفة ولا تعكس الواقع بأمانة... (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فمربط الفرس في عملية التحديث هو الإنسان والنظام القيمي الذي يتحكم فيه على المستوى الشخصي والاجتماعي، وبكلمة فإن هذا التيار في اطاره العام يأمل بالانعتاق السياسي والاستقلال الاقتصادي، ولكن في ذات الوقت يدعو للسير في الركب الحضاري الغربي بمنطلقات مغايرة للخصائص العقدية والتاريخية لواقعنا العربي والإسلامي.
لا شك أن العالم العربي والإسلامي، أصيب بأزمة حادة ومتعددة الجوانب والحقول من جراء السيطرة الغربية وسعيها الحثيث للقضاء على كل مقومات البناء الذاتي للمجتمع، لكي يبقى هذا المجتمع رهيناً وأسيراً للقوة الغربية..
وحالة الصدام والمواجهة التي جرت بين بلدان العالم العربي والإسلامي، والحركة الاستعمارية الغربية.. خلقت مجموعة دوافع وحوافز لدى أبناء هذه البلدان، للعمل على نقد النموذج التحديثي الذي حاولت الحركة الاستعمارية وبالخصوص في الحقبة الأخيرة من استعمارها المباشر، وتكريمه في الواقع العربي والإسلامي.
ومن هنا تبلور التيار الثاني الذي يبشر بنموذج حضاري معين ويمارس عملية النقد للنموذج الغربي وأنماطه التحديثية.. وهو التيار التقليدي «الكلاسيكي» وأهم ما يمكن أن نلاحظه في عملية النقد التي تنطلق من الأرضية التقليدية هو التأكيد على المسألة الأخلاقية في تحديد واستشراف مستقبل هذا النموذج التحديثي وقد تكون خلفية هذا الموقف هو حالة الانهيار التي أصابت قطاعاً واسعاً من المجتمعات العربية والإسلامية.. حتى أن بعض علماء الأمة وزعمائها بدأوا يحاولون تكييف قيم الإسلام ونظمه، مع المؤسسات والهياكل والأطر التي أوجدها النموذج التحديثي في الأمة.
وينبغي التأكيد في هذا المجال أن عنصر الأخلاق لوحده لا يصنع حضارة، كما أن الانحرافات الخلقية والجرائم الاجتماعية المختلفة، تشكل مظهراً لخلل كامن على الصعيد العقدي والفكري والاجتماعي في ذلك البلد.. فحينما نرى هناك ازدياداً هائلاً في معدل الجريمة وارتكاب الموبقات، وتناول المخدرات، هذا يكشف لنا عن خلل جذري يعيشه هذا المجتمع.
فالإسلاميون التقليديون في عملية نقدهم للنموذج التحديثي في الأمة وقفوا فقط أمام هذه الانحرافات دون سبر لأغوار المشكلة، وبدون التعرف على النظام والهيكل الذي انتج هذه المشكلات والانحرافات، بينما عملية النقد المثلى هي التي تتجه إلى النظام الداخلي ونمط وهيكلة الدولة والمؤسسات، التي يعتمد عليها النظام السياسي والاقتصادي في تسيير أموره وقضاياه.. لا انتقاد مظاهر عمل هذه الدوائر فقط، فإن الانحرافات الخلقية، وازدياد الجريمة، وتعاظم نسبة تعاطي المخدرات والكحول لا شك أن لها تأثيراً في الاندثار والسقوط بينما المطلوب هو إيجاد مؤشرات جديدة لقياس عملية الحداثة وتكون ذات دلالة جوهرية ومفصلية في مسيرة المجتمع وعملية النقد المطلوبة، هي التي تبدأ بالأساس والقاعدة لا النتائج والظاهر وحسب. وبكلمة واحدة فإن التيار التقليدي حاول فقط أن ينقد القيم المادية التي يعتمد عليها الغرب ويستمد منها تصوراته واستراتيجياته في الداخل والخارج ويمكن أن نلاحظ على هذه العملية التي قام بها هذا التيار تجاه نمط الحداثة الغربية الأمور التالية:
- من المسائل الأساسية التي ينبغي أن يدركها الجميع إن عنصر الأخلاق وحده لا يصنع حضارة.. صحيح أن العنصر الأخلاقي ركن أساسي في عملية البناء والتطور. لكن لا يمكننا أن نستغني عن العوامل المادية والفنية التي تشارك في التقدم والازدهار الحضاري. واقتصار النقد على الجوانب الخلقية أو الاستقلالية للشعوب الأخرى أو المظالم العالمية المختلفة يحصر الحديث حول بديل فاضل خلقياً، وعادل عالمياً، ثم يبقى الباب مفتوحاً للانهيار بمؤسسات الحضارة الغربية من الدولة إلى البنوك إلى الشركات والجمعيات المختلفة وابتلاعها مع بعض التحويرات الفوقية والشكلية مما قد يحمل البديل الإسلامي بذور خرابه وانحرافه، لأن تلك المؤسسات ليست مجرد آلات صماء لا قبل لها على فعل شيء إلا وفقاً لما تعطاه من أوامر. وإنما هي مقومات قاعدية وهيكلية لنظام متكامل ولها آلياتها وأحكامها ومن ثم يؤثر في راكبها ربما أكثر مما يؤثر هو فيها حتى لو حمل أخلاقاً غير تلك التي حملها راكبها السابق من أهل الحضارة الغربية.
- إن نموذج التحديث الغربي قد غزا العالم بأسره وأصبح متغلغلاً في داخلنا وبيوتنا ومدارسنا ومصانعنا، في عقول شبابنا وفتياتنا، في نمط الإدارة والحكم، في مؤسسات القطاع العام والخاص، في النظام التعليمي والاقتصادي والإعلامي وما أشبه ذلك لا يمكننا أن نواجه هذا الغول بمنطق المتصوفين والمهزومين في الحياة أو بحقل من حقول معرفتنا ونظامنا الفكري المرجعي وإنما ينبغي أن نواجه التحديثي بأصالتنا العقدية على أساس شموليتها وقدرتها على المواجهة الحضارية مع نمط الحداثة الغربية.
من المؤكد أن عملية التحديث هي عملية إنسانية مستمرة ودائمة ترتبط ارتباطاً مباشراً باستخدام وتطوير الإنسان الدائم للجانب المادي والفني من المعرفة البشرية التراكمية واستغلاله في تفاعله مع البيئة المحيطة بهدف تطويعها واستخدامها ايجابياً لتحقيق التقدم البشري بصورة دائمة.. فالحداثة بالدرجة الأولى مفهوم نسبي يعكس قدرة الإنسان الفرد والمجتمع على التفاعل واستخدام الطبيعة بصورة حسنة.
لذلك ينبغي أن لا نغفل عن المجهود الإنساني المستمر عبر التاريخ، الذي صنع عبر التراكم الايجابي هذا التطور الهائل الذي يعيشه إنسان هذا العصر.. وفي رأينا إن كلا التيارين لم يوفرا الأسس المطلوبة للفهم والمعرفة العلمية والعصرية الدقيقة للحضارة الغربية لذلك فإن أغلب الجهود الفكرية والمعرفية التي بذلت في نقد الحضارة الغربية، لا ترقى إلى مستوى التحليل العلمي الرصين والموضوعي في ذات الوقت.. بمعنى أن تلك الجهود قدمت لنا الغرب باعتباره غابة من كل الانحرافات والمشاكل المستعصية عن الحل، وكان محورها حالة الفراغ الروحي الذي يعيشه المواطن الغربي.. مما بسط المسألة واعتبر العالم بمثابة ساحة فارغة من الإرادات العقدية والسياسية.. وقد أشار إلى هذه المسألة الدكتور عبدالله النفيسي بقوله: «والذي يتأمل نتاج المطبعة الإسلامية وفكر الدعوة إذ جاز التعبير، يلحظ بعض التصورات الخاطئة المبثوثة بين الإسلاميين ومنها أن هذا العالم يعيش في حالة (الفراغ) فكري وروحي وقيمي وحضاري وأن الحركة الإسلامية جاءت لتملأ هذا الفراغ وتسده». وأغفلت هذه الجهود بشكل أو بآخر، نقاط القوة التي اتكأت عليها الحضارة الغربية في تقدمها ومدنيتها المعاصرة.
وجماع القول في هذه المسألة: ان الموقف المطلوب في عملية التحديث والعصرنة.. هو موقف الاستيعاب والتجاوز.. استيعاب ما لدى المجتمع المتفوق من تراكم معرفي، ومقدرة على التحكم في شؤون البيئة والطبيعة، واستيعاب أسرار التقنية الحديثة، وتجاوز لكل عناصر النموذج التحديثي الأخرى.
اضف تعليق