يولد الانسان في الاصل حرا. وهذه هي الحرية الطبيعية. وهي الحق الفطري الذي يملكه الانسان في الحياة، في الاكل والشرب والجنس وتحسين مستوى الحياة والحركة والانتقال وتحصيل الطعام، على سبيل المثال وليس الحصر. الحرية الفطرية من محتويات الفطرة التي تحدث عنها القران ووصفها بالدين القيم، اي القيم على ما سواه...
يولد الانسان في الاصل حرا. وهذه هي الحرية الطبيعية. وهي الحق الفطري الذي يملكه الانسان في الحياة، في الاكل والشرب والجنس وتحسين مستوى الحياة والحركة والانتقال وتحصيل الطعام، على سبيل المثال وليس الحصر. الحرية الفطرية من محتويات الفطرة التي تحدث عنها القران ووصفها بالدين القيم، اي القيم على ما سواه، كما قي الاية:"فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ؛ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ". (الروم 30). يعني اقم وجهك للفطرة والحرية والاجتماع الانساني.
وكما كانت الحرية فطرية، فان الحاجة الى الاجتماع الانساني فطرية ايضا، او بعبارة ابن خلدون "ضروري"، فلا تستقيم حياة الانسان لوحده، لابد من انسان اخر، في الدائرة الاولى للاجتماع الانساني امرأة ورجل، ثم تتوسع الدائرة حتى يقوم المجتمع الانساني الكبير. والاجتماع الانساني يفرض التعاون، والتعايش، وتقسيم العمل، وتنوع المهام، وفوق ذلك كله، وقبل كل شي، التنازل عن الحرية الطبيعية. وهذا التنازل الطوعي عن الحرية الطبيعية مما تفرضه ضرورة الحياة الاجتماعية. فاذا كان الاجتماع الانساني ضروريا، فان التنازل عن الحرية الطبيعية من ضرورات هذا الاجتماع. بهذا التنازل ينتقل الانسان من الحياة البهيمية الحيوانية الى الحياة الانسانية المدنية الحضارية. وبهذا الانتقال تولد الحرية الاجتماعية التي ينظمها القانون. فلا حرية اجتماعية بدون قانون. لان الحرية الاجتماعية تستبطن المسؤولية. والمسؤولية تنظم بقانون.
وبهذا اصبح لدينا نوعان من الحرية: الحرية الطبيعية والحرية الاجتماعية. الحرية الطبيعية هي ما تتيحه الطبيعة للانسان من حرية التصرف، فيما الحرية الاجتماعية هي ما يتيحه المجتمع من حرية التصرف المسؤول وفق القانون.
قلنا ان الحرية الاجتماعية تتطلب التنازل الطوعي عن الحرية الطبيعية. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لمن يتنازل الانسان الحر طوعيا عن حريته الطبيعية؟ والجواب المباشر ان الانسان يتنازل عن حريته الطبيعية الى "المعبود" الذي يسلم له رقبته. وشهد التاريخ انواعا مختلفة من المعبودين والمعبودات تضمنت تنازلات طوعية او قسرية عن حرية الانسان الطبيعية للظواهر الطبيعية المختلفة، او الالهة المتخيلين، او للطغاة والفراعنة والقياصرة والملوك الذين ادعوا الالوهية، او غير ذلك كثير. وكل هذه التنازلات تضمن "عبودية طوعية" لمن لا يستحقها خاصة من البشر الاخرين الذين يستعبدون الانسان. وهنا جاءت دعوات الثوار والمفكرين الاحرار والانبياء برفض هذا النوع من التنازل الطوعي او القسري، فكان الرفض هو نقطة انطلاق الثورات التحررية على طول التاريخ. وهذا ما لخصه الاسلام بكلمة "لا اله الا الله". هنا يبدأ التحرير التوحيدي بالرفض. وهذا معنى كلمة : لا اله الا الله. فقد رفضت هذه الكلمة اي "اله"، حتى قبل ان تثبت وجود الله. فالرفض طاقة ايجابية تصون الانسان من العبودية لغير الله، سواء كان وجوده حقيقيا ام متخيلا.
وهذا ما نجده في السردية الرمزية التي يذكرها القران الكريم حول قصة ايمان النبي ابراهيم عليه السلام . اقرأ معي المقطع القراني التالي:
"وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ .
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا، قَالَ: هَذَا رَبِّي؛ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ: هَذَا رَبِّي؛ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ :لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ: هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ؛فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"
ففي هذه السردية نرى الانسان يرفض العبوديات الاخرى قبل ان يتعرف على الله، فلما ايقن ان لا شيء في الوجود يستحق ان يتنازل له عن حريته يمم وجه صوب الله، وافرده بالعبودية. العبودية هنا تعني التنازل الطوعي عن الحرية الطبيعية لصالح المعبود، الذي سوف يتولى تنظيم الحرية الاجتماعية وفق قانونه. والمعبود هنا هو الله. توحيد الله في العبادة يحفظ حرية الإنسان ويصونه من السقوط في العبوديات الأخرى. من خلال عدة وسائل:
1. الإدراك الحر: يقدم توحيد الله رؤية شاملة وحرة للإله الواحد الذي لا شريك له، مما يمكن الإنسان من اتخاذ قراراته الدينية بحرية ووعي.
2. الوعي الروحي: يساعد توحيد الله في بناء وعي روحي يجعل الإنسان أكثر قدرة على التمييز بين ربّ الكون وبين العبوديات الزائلة والمحدودة.
3. المسؤولية الشخصية: يعزز توحيد الله مفهوم المسؤولية الشخصية أمام الله وحده، وبالتالي يحث الإنسان على اتخاذ القرارات الدينية والحياتية بمسؤولية وحرية.
4. الرفض للعبوديات البشرية: بوصفه توحيدًا صافيًا لله الواحد، ينبغي للإنسان أن يرفض الانحياز لأي عبودية للبشر أو الأشياء الدنيوية، مما يحافظ على حريته واستقلاله الروحي.
باختصار، توحيد الله في العبادة يساهم في تعزيز حرية الإنسان من خلال توجيهه نحو تقدير الإله الواحد والابتعاد عن العبوديات البديلة التي من شأنها أن تحد من حريته وتقييد رؤيته الروحية.
اضف تعليق