جاك دريدا كاتب كبير نشر مقالا في جريدة (لوموند ديبلوماتيك)، كانون الثاني،2003"، أعاد السؤال آنذاك من جديد حول هوية او معنى دولة مارقة. متسائلا ماهي دلالة او معنى "دولة مارقة".. انه يتجاوز في مقاله عن هوية الدولة المارقة ما اعتادت عليه السياسات والخطابات الاميركية التي تركز من وجهة نظره على ان الولايات المتحدة راعية القانون الدولي وهو ما يمنحها ممارسة دور الشرطي أو وظيفته في نشر الامن الموكول اليها، وهنا الولايات المتحدة باعتبارها تملك القوة لكي تفعل، لكن هذه الولايات المتحدة بما هي ذات سيادة، وهو يقصد على ما يبدو السيادة الحقيقية لهذه الدولة العظمى بعد ان فقدت او تأثرت السيادة في دول العالم على اثر ظهور نظام القطب الواحد الذي تمثله الولايات المتحدة، فان التعسف في استخدام السلطة صار "عنصر مكون من عناصر السيادة " بالنسبة لها وبالتالي فان السيادة تبرر لها المروق، لكن المروق هنا هو خرق القانون الدولي والخرق هو ما يعنيه دريدا في وصف التعسف بانه عنصر مكون من عناصر السيادة الاميركية، فالسيد فوق القانون وهو تقليد بشري قديم طالما حاربته مبادئ العدالة، لكنه يعود دوما للإفلات ويعاود الظهور من جديد بصورة اخرى.
هكذا الولايات المتحدة تكون دولة مارقة بعد ان مارست التعسف في استخدام السلطة، وليس التعسف في استخدام الحق او القانون الدولي استنتاجا عن دريدا، بل في رأي دريدا ان هذا التعسف صار قانونا بذاته بالنسبة للولايات المتحدة. وفي تحليل بنيوي للتعسف المرتبط بالسيادة فانه يشترط غياب منافس اخر في تقاسم السيادة، وفي تحليل تاريخي فان غياب الاتحاد السوفيتي او انهياره هو الذي مهد الى ممارسة السيادة بلا شريك من جانب الولايات المتحدة. وهو مايشدد عليه دريدا معتبرا اياها دولة بدأت تنزع نحو الهيمنة الإمبراطورية من خلال التعسف في استخدام سلطتها النابعة من قوتها.
المروق دورة ارتدادات
اذا كان المروق يرتبط بالقوة بالمحصلة الاخيرة والتي تضعها بالنتيجة فوق القانون الدولي فان هناك من وجهة نظر دريدا اكثر من دولة مارقة، مما يعني ان هناك ارتدادات كثيرة في تسمية الدول المارقة لذا فهو يقترح "حصر حقبتها والحد من اللجوء المتمادي والمتكرر والقسري لها من قبل الولايات المتحدة وحلفاؤها" أما الحقبة لهذا المروق الذي يصفه بالتمادي والتكرار والقسر والتي يريد دريدا حصرها تاريخيا، فهي بدأت في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، لكن دريدا يعقد علاقة مركبة بين انهيار التوازن الدولي –السياسي وإنهيار برجي التجارة في نيويورك في الحادي عشر من ايلول، بل ان دريدا يؤكد ان نهاية الحرب الباردة جاءت ليس على شكل بلاغ او بيان بل إعلان عن تلك النهاية بشكل عملي في حادث مأساوي في تفجيرات نيويورك الدامية.
وتبدو أهمية هذا الحدث في علاقته المركبة بحدث دولي سابق هو انهيار نظام القطبين العالمي، فهو وفق دريدا حدث متفوق بشكل عام وهو حدث عام وسياسي لأنه شمل العالم في آثاره مما يدعه عند دريدا حدث غير قابل لانطباق أي مفهوم عليه، فقد انهار عالم ونطاق بكامله مع انهيار برجي مركز التجارة العالمي انه يقول "انهارت كل العدة المنطقية والدلالية والبلاغية الحقوقية والسياسية لذلك العالم " وقد إختفت مفاهيم ومصطلحات كانت تشكل عدتنا المنطقية والسياسية في عالمنا العربي والاسلامي او عموم ما كان يسمى العالم الثالث في أعقاب انهيار التوازن الدولي السياسي والذي كان من نتائج او سياسات توازن الرعب النووي في عالم نظام القطبين الذي هو الحدث السابق. وكان التنديد من وجهة نظر دريدا بالدول المارقة تطمينا واطمئنانا يبعثه النظام الدولي النووي –الحدث السابق – الى العالم وبذلك لم يكن العالم يحتاج الى اعلان حرب، وتمت سيطرة دولية على حالات اعلان حرب رغم ان دول في العالم اعلنت حرب لكنها أقل من حقب سابقة وأقل فوضى في حقب لاحقة.
التنظير الاميركي للمروق
يناقش دريدا جملة اقوال او تفسيرات لسياسيين وقادة أمريكان ويحدد حقبة ثانية لبداية المروق للدولة الاميركية فهو يلفت الانتباه الى تاريخ اخر في ميدان استخدام التعسف مع كلنتون في العام 1993م حين صرح " وعلى مسامع الامم المتحدة " ان بلاده ستستخدم على النحو الذي تراه مناسبا البند الاستثنائي "البند 51" وان الولايات المتحدة" سوف تعمل مع الاطراف الاخرى إذا أمكن ذلك وعلى نحو منفرد اذا أقتضى الامر".
ويؤكد هذه السياسة في تبني الولايات المتحدة لها تكرار تلك التصريحات على لسان مادلين اولبرايت مندوبة الولايات المتحدة في الامم المتحدة او على لسان وليم كوهين وزير الدفاع، بل يذهب كوهين الى اكثر من هذا في اصراره على تدخل الولايات المتحدة ومن دون موافقة الامم المتحدة او مجلس الامن، معللا ذلك بإمكانية تهديد مصالحها الحيوية.
ويشير دريدا الى صورة من صور التعسف الذي تمارسه الولايات المتحدة هو احتكارها مبدأ تحديد مصالحها الحيوية بطريقة ان يرى الاميركيون بانه "سبب كاف ووجيه بشن هجوم او زعزعة استقرار او تدمير أي دولة تنتهج سياسة متعارضة مع هذه المصلحة " ويصف دريدا هذه السياسة بالتفرد السياسي او الاستئثار السيادي ويتعاظم هذا التعسف في تجاوزات على القانون الدولي حين تحدد الدولة المارقة بانها " الدولة التي تنعتها الولايات المتحدة الاميركية بهذا النعت".
مشكلة ذات بعد اخر
ظهرت مشكلة جديدة في أعقاب انهيار نظام التوازن الدولي، فالدولة المارقة يمكن التعامل مع خطرها. ووفق دريدا بانها كانت مدعاة للاطمئنان من جانب الولايات المتحدة (ليس هناك سلطة سوفيتية تمارس فيها على نحو بيروقراطي وجمعي) تصريح رئيس مجلس النواب الاميركي في العام 1998م " او كما يقول دريدا على نحو غير انتحاري فنظام التوازن الدولي لا يسمح بالانتحار.
المشكلة ذات البعد الجديد هي امكانية تسلل تلك الاسلحة الرهيبة الى مجموعات غير دولتية من "الدولة" وامكانية استخدامها، مما يجعل الولايات المتحدة تعيش حالة مستفزة من الخوف مع توقعات اميركية باستهداف نووي او كيمياوي او جرثومي "دريدا".
يؤكد على ذلك الهاجس الاميركي المقلق بالنسبة لاستراتيجيات الحماية الاميركية من خلال ما كان يوضحه أعضاء الكونغرس الاميركي وبعد مضي أقل من شهر على 11 ايلول، بان هناك تدابير أمنية – تقنية للحيلولة دون أي اعتداء على البيت الابيض وما يحمله من رمزية تمثيله لجهاز الدولة وكل ما يمثل دولة القانون. لقد تم هذا بمعزل عن خطر دولتي من "الدولة" أي دولة مارقة او محور شر. وتكمن الخطورة بالنسبة للولايات المتحدة في كيفية احتواء خطر غير دولتي خطر، جماعات منتشرة ومتحركة بحرية لأنها ليست دولة محددة بمكان معين، لكن قد تكون تنتشر في جغرافيا سياسية معينة لكن من الصعب احتوائها – نموذج القاعدة- التي ضربت الولايات المتحدة في قعر دارها وهو مالم تفعله دولة مارقة ومعادية.
تسمية تاريخية
نتيجة تاريخية هذا الاسم الدولة المارقة او مفهوم الدولة المارقة ذات التأطير الاميركي الخاص، فانه بدأ ينضب او يكون اكثر خواء في اداء مهمته المرتبطة بالمصالح الاميركية في المنطقة وعلى حد قول دريدا فانه مفهوم "قد بلغ حده ونهاية حقبته" والان تسعى الادارة الاميركية الى التخلي عنه. ويستشهد دريدا بعبارة مادلين او لبرايت "ان وزارة الخارجية ما عادت ترى ان تسمية "المارقة" ملائمة وسوف تعتمد من الان تسمية اكثر حيادا واعتدالا"، وتوقع دريدا آنذاك ان تبقى وصف او مفهوم دولة مارقة لبعض الوقت بعد زوالها...
اضف تعليق