عَبَثٌ ما حل كاللعنة، بالمفردات الدينية العميقة تحويلها من بيئتها الفيلولوجية الثقافية التوحيدية أو لنقل الإبراهيمية إلى المستنقع السياسي وأقصد "السامية" كبينة ونص ومسألة وجعلها فرصة سياسوية للاقتناص من المعارضين وإعطاء الجلاد فرصة ميتافيزيقية أن يكون ضحية. استغلال القيم الأخلاقية الانسانية للنيل منها عبر معايير جديدة للبذاءات السياسية...
"أشنع ما في الأمر هو أن الفظاعات أصبحت لا تهز نفوسنا هذا التعود على الشر هو ما ينبغي أن نحزن له" ديستييوفسكي رواية الإخوة كرامازوف
الإفلاس الأخلاقي يبدأ من الصدام بين منطقتين معرفيتين وبالمفهوم الفلسفي فضائين إبستيمولوجيين العقل والشرع، الدين والعقل الذي حاول رسم حدوده أمام اللاهوت الفيلسوف التنويري إيمانويل كانط، الذي يعتبر الشر متجذر في البشر كما هو الخير لا يمكن استئصاله بالوصفات الإنسانية ولا المدنية، فالحدود واضحة بين اللاهوت وبين العقل. الرهان على الحرية بمفهوم كانط هو قدرة البشر على تحَمُّل أفعالهم أمام شّر مازال يتجدد تاريخيا ولا يتوقف ويزداد تفاهة بمفهوم حنـــّة أَرِنْـــــدت. "مادام هناك شّر مطلق لابد من حرية مطلقة تعالج بمسؤولية الشّر الجذري[1].
وضْعُ العقل أمام المساءلات الأخلاقية يجعله متفوقا على الدين من الناحية المعرفية ومنضبطا من الناحية الإنسانية فالذين يَقْتُلون ميتافيزيقيا يقترفون الشّر بدواعي ثقافية وأنتروبولوجية وهووية دينية في الوقت الذي يَنْكَبُ العقل على كونية القيم وصلاحيتها التاريخية وتفوق مرجِعياتها الكوسموبوليتيقية.
هؤلاء الذين يمارسون الجهّالة والشّر لا ينتمون إلى أفق الإنسانية ولا إلى أي أفق ديني مرجعي في حدود التصورات الدينية والإبراهيمية والتوحيدية وحتى الغنوصية الإشراقية أو المشرقية الضاربة في القدم.
الحرية هي الوسيلة الوحيدة للتمييز بين الخير والشّر. وحتى لا يمكن وضعها تحت أي مقاربة اغترابية بمعنى لا يمكن تقييدها ولو ميتافيزيقيا حيث تغدو حرية مأزومة غير حرة. راهن كانط على النِيّة والإرادة الطيبة في البشر والتي يمكن أن تكون بديلا لأي دين. أنسنة الفعل الأخلاقي. لكن الشّر المتجذر يقول العكس أن الذين يقترفونه تافهون جدًا إلى درجة الخواء والفراغ الروحي والقيمي.
ما الذي يجعل ميراثا من التنوير والمبادئ والفلسفات القيمية تنْهزِم ولا تصمد أمام امتداد تفاهة الشّر. بعد قرنين من الزمن هدَم النازيون كل مقاربة أخلاقية في البيت التنويري الذي بناه كانط ذاته بل في نفس التربة التي عبثت بها أيادي فلاسفة التنوير وفي نفس الأكسجين الذي استنشقه ليبنيز وكانط و فيخته و هيغل تحوَّل فضاء التنويريين القدامى صناع العقل المركزي إلى أوحال ممزوجة بماء آسن بفعل أحفادهم، في ما بات يسمى جزافا ما بعد الحداثة. تأثرت حنّة أَرِندت بمعلمها هيدغر عندما دافعت عن الحرية كفعل وسلوك.
فكرة الدزاين أو الوجود في الهنالك. الإنسان هو الكائن المختلف الذي يستشعر ويعي وجوده وحدوده ازاء "الهُمْ" بالمفهوم الهيدغيري أو الحشد والقطيع، إذن الحرية هي أن يكتشف الدزاين وجوده في العالم ضد الزيف والاستلاب والتفاهة، يُساءِل حريته التي هي حصنه الكينوني الأخير أمام تنامي الجهالة الثقافية والشّر السياسي.
على العكس من كانط التنويري تعتقد حنّة أن الخير هو الذي يملك العمق الأصيل وليس الشّر. تفاهة الأشرار أنهم لا يفكرون هم مُنْفلتون من ضوابطهم العقلانية. التجديف في النية يحيلها إلى مجرد ظاهرة قيمية ذوقية. لا يمكنها أن تحل محل التفكير. الذي بإمكانه تفكيك منظومة الشر. هذا الأخير هو خطاب متكامل الأركان يتداخل فيه النفسي والديني والاجتماعي وحتى التاريخي.
يبدأ العمل السياسي التافه من الانخراط في شبكة معقدة من التبريرات المنظمة والمنهجية تمر باستغلال البعد الهووي والديني لتحقيق مكاسب سياسية عُنْفية. فالعنف المشروع يتحول إلى قوة ميتافيزيقية تضرب الخصوم. أضحى القتل ميكانيزم سلطوي شرير ناتج عن الاستخدام السيئ للسلطة لكن بتنفيذ دولتي ترعاه الدولة الشريرة بدواعي دينية، نحن أمام تحول توليتاري شوفيني ترعى فيه الدولة اللائكية والعلمانية شَرْعنة التدمير الشرير للأرواح بمباركة هووية ودينية.
الشّر خارج دائرة التفكير والذين يمارسونه غير مؤهلين للتفكير، فهم أقرب إلى الرداءة والتفاهة la banalité الإنسانية والفقر المفاهيمي للإنسانية. الشرير لا يفكر كإنسان بل كوحش بربري منزوع القيم. محاولة كانط العقلانية المُجرّدة هي انتزاع الشّر من حضوره الميتافيزيقي. فهو لا يستحق هذا الفضاء النبيل للموجودات التي تتمتع بالكرامة الإنسانية. عزل الشر بتحويله إلى تكرار مفهوم الخطيئة الأولى. الشّر لا يفكر أبدا فهو نزعة ونزوع طبيعي متوحش. حين تغيب النيّة الخيرة وتغيب أي قاعدة فكرية تنتمي إلى حقل ملكات الحكم.
حنّة أرِنْدت كانت تميز بين مواقفها الثقافية والفكرية كفيلسوفة ومفكرة وصحفية وبين شخصيتها وانتمائها الهووي الذي يمتد إلى اليهودية الاشكينازية. لما حضرت محاكمات إيخمان الكولونيل النازي الذي تم خطفه من طرف الموساد من الأرجنتين ونقله إلى القدس ومحاكماته سنة 1961 وإعدامه. بعد محاكمات ماراطونية. درست شخصية هذا الأخير الذي انضوى تحت القوات الخاصة السرية للنازية وترقى في رتب ومناصب لا يستحقها. لأنه لم يكن يملك شهادات وكفاءات تؤهله. بل لم ينجح حتى كميكانيكي سيارات. وتسلق إلى أن وصل إلى مرتبة كبير المخططين الاستراتيجيين للسجن اللعين "اوشفيتز" ومهندس سحق المعارضة وإقامة الهولوكوست. وهو مجرد موظف عسكري متواطئ لا يهمه مصائر الآخرين بالقدر ما يهمه حضوره ومصالحه.
هذا الأخير كان يسحق كل من يقف أمامه ويعترض مساراته للحفاظ على منصبه ومزاياه كالراتب والعضوية الراقية في الحزب النازي. ترى فيه حنة آرِنــــــْدت رغم أنه قتل عائلتها في المحرقة مجرد رجل عادي بيروقراطي، تفاهته تنبع من إطاعته الأوامر وسلوكه الإداري. فهو لم يكن يفكر أبدا وهو ينفذ الأوامر القاتلة. وهو ديدن التافهين والبروقراطيين والمتسلقين فهم يتكررون كنماذج فاشلة في كل الفضاءات والتواريخ وهم يعيدون انتاج الخطيئة الأولى ببله وحماقة ميتافيزيقية.
حنــّـــة وهي تفكر في الحرية والفعل المسؤول لم تكن تعمل إلا على التوفيق بين مواضعات إيمانويل كانط وأطروحة هيدغر الذي أراد إنقاذ الدزاين أو الوجود في الهناك من أزمة ميتافيزيقية محققة حيث يستحيل الحكم وتقرير الفعل خاصة عندما يكون سلوكا بدائيا شرير وحشيا.. لأنه لا يمكن التمييز بين ملكة الحكم وملكة التفكير [2].
الشر مهما كان مصدره وأصله يجعل الذوات والأجساد لحوما ميتافيزيقية تقتات عليها ضعاف النفوس لأن اللؤم الأيديولوجي لا يمكن أن يهْزـِم المكْر الميتافيزيقي لأن هذا الأخير يتحول إلى استحقاق أخلاقي تاريخي عابر. الشّر ازداد عمقا ووطأة وصلفا وتهورا منذ ظهور الكاهن، استعادة الحرية والتفكير رهان عظيم وقتال مستمر يقول فتحي المسكيني "كيف نعيد للحيوان البشري قدرته "الحربية" على الحرية البدائية الصلفة المتهورة؟ تلك التي أصبحت فجأة في خطر منذ ظهور الكائن واختراع معجم "العبودية" [3].
يبدو أن الكاهن تلقَفَ الخطيئة البدائية واستثمر فيها ردحا طويلا من الزمن ليتخطفها منه السياسي ليعبث بالدولة ويجعلها نظاما مستحيلا يمارس الشر باسم علمنة الفعل الاخلاقي الديني. كل مرة يتأخر الكهان في صياغة الأحداث الجسام هم لا يصنعون مجدهم هم يدقون آخر المسامير في الحقيقة. هم يعملون على تأجيل الفعل الاخلاقي المؤنسن بإحالة مواضعاتهم وشرعنتها سياسيا وهو أخطر ما في المسألة. بل الأخطر أن الكاهن تحَوّل إلى سياسي بربطة عنق زرقاء ومعطف أزرق وقبعة باريسية يضع الكاباه القابلية عند الحاجة اللاهوتية.
فشَلُ العقل المركزي الاخلاقي هو عدم قدرته على التخلص من كهانته من نماذج الخطيئة التقليدية لم يعد الاعتراف وثقافته الواهنة التي باتت كبيت العنكبوت تسعفه في إعادة تنشيط ذاكرته الإنسانية بل حتى اليسوعية. عليه أن يكتشف من جديد مصادر تسميم عقله العملي الكانطي.
الإنسانية اليوم تحتاج إلى رثاء وتأبين ميتافيزيقي جليل كون أن غِلاً عابراً ترسَّبَ في اللاوعي التاريخي وبدأ يؤجج مفعوله وسمومه في أفق نشوب أي حروب هووية ووطنية لا يمكن تسميم العقل الانساني وتفويض لعنات جديدة تطفو كالطحالب الميتافيزيقية مثل إعلان الحرب على السامية. أضحت هذه التهمة البذيئة استنساخا لمكر كهنوتي تقليدي يستنفره السياسي الشرير كلما سنحت له الفرصة ليحول الشّر المتجذر إلى رأسمال ثقافي وقيمي جديد. ثمة حدث لاهوتي رهيب هو أقرب إلى التجاسر القيمي الماكر. عَبَثٌ ما حل كاللعنة، بالمفردات الدينية العميقة تحويلها من بيئتها الفيلولوجية الثقافية التوحيدية أو لنقل الإبراهيمية إلى المستنقع السياسي وأقصد "السامية" كبينة ونص ومسألة وجعلها فرصة سياسوية للاقتناص من المعارضين وإعطاء الجلاد فرصة ميتافيزيقية أن يكون ضحية. استغلال القيم الأخلاقية الانسانية للنيل منها عبر معايير جديدة للبذاءات السياسية.
العقل الأخلاقي فقد بوصلته الإنسانية والأحداث الأخيرة في غزة أوضحت بما لا يدع مجالا للشك أنه تخلص نهائيا من أي محاولة يائسة إلى أنسنته واحترامه لمبادئ قيمية وحتى دينية بالمعنى الكهنوتي المعتدل هو يحتاج إلى أن يتسول من جديد جينالوجيا أخلاقية نقدية.
اضف تعليق