آراء وافكار - مقالات الكتاب

الأدب المفجوع والفلسفة البائسة فرانس كافكا نموذجا

هل أسس كافكا لوجودية الإحباط والمأساة؟

كافكا ناضل على مستوى شخصي محدود، أدبه شبيه بنمط من التذاوت غير المعلن ربما كان هذا الهارب الخجول يُمعن في تعذيب إنيته بالكتابة تحت أفق هواجسه ومرضه المزمن حتى باتت الحشرات رفيقة له في وحدته فخياله مسرح للأرواح الشريرة لمخلوقات تعيش الظلمة للخنافس حتى، فهو يصف مرة خنفساء...

"بالنسبة للأموات المملكة لا قيمة لها فقد نالوا قداستهم وأبديتهم "رواية ماكبيت مقتبس من مسلسل the house of cards

"أقل ما يمكن أن ينصفك به التاريخ هو أن يضع صورتك على عملة نقدية" مثل أمريكي

كتب فرانز كافكا 1883/1924 براغ. قصته التي اختلف النقاد في تجنيسها "المسخ " في ثمان ساعات، بدأها على الساعة العاشرة وأنهاها السادسة صباحا ولم يتوقف قلمه عن ضخ الحبر الأسود فوق الأوراق إلا بعدما أنهك مخيلته الجبارة، حين يمتزج الحبر بالعواطف المأساوية والقلقة والمتعبة.

الكتابة بالنسبة لهذا الشاب التشيكي اليهودي نوع من الاحتجاج ومحصلة للإحباط الدائم. إنهاك مستمر للذات والجسد. لا يوجد أديب عانى من الغثيان والتأفف والانتكاسات الارتكاسية مثل كافكا. الكتابة هي تجوال في خرابات اللامعنى وكأنك تتسكع في مدينة من الأطلال التي دمرتها الحروب تلو الحروب.

كل هذا تجلى بعد وفاته، فالتاريخ الحقيقي للمؤلف والمفكر الفذ يأتي بعد معاناته، الحياة الحقيقية للكاتب تبدأ بعد وفاته الدرامية. قد يتساءل سائل كيف لحياة مضطربة وأوجاع سببُها الجسد المنهك بالسل والفوضى المالية والصراع مع الوالد الفظ وصفحات من الحبر المسكوب على الأوراق التي بلغت ثلاثة ألاف وأربعمائة صفحة (1) أن تؤسس لأدب العبثية والفاجعة.

أمين سر أدب وسيرة كافكا هو الكاتب اليهودي التشيكي ماكس برود 1884/1968 الذي أخرج كافكا من قمقمه رغم التماس ووصية كافكا بإحراق كتبه ورسائله الغرامية بعد رحيله. الأدب الجيد والحصيف هو الذي لم يُكتب له رؤية النور أبدا. لولا الخيانة الناعمة لهذا المُؤتمن على السر الكافكاوي لما شهدنا أجمل وأروع المذاهب الوجودية. تلك التي ترى الكتابة جزءً من العبث تشبه نواح ثكلى فوق عتبات الثقافة والقلم والتأليف.

أدب كافكا تَم خيانته مرتين حين تم الإعلان عن رسائله ونشر خصوصياته الحميمة مع ميلينا سينيسكا 1896/1944 الصحافية التشيكية وإعطاء الناس فسحة قراءة واستشعار ألم قصصه ورواياته كالقلعة والمسخ والمحاكمة والملجأ ومستعمرة العقاب. إنبثاقية أدب وجودي ينشد العدمية لآلبير كامي وجون بول سارتر. اللذان يبدوان تلميذين صغيرين في مدرسة كافكا الكبرى.

كافكا ناضل على مستوى شخصي محدود، أدبه شبيه بنمط من التذاوت غير المعلن ربما كان هذا الهارب الخجول يُمعن في تعذيب إنيته بالكتابة تحت أفق هواجسه ومرضه المزمن حتى باتت الحشرات رفيقة له في وحدته فخياله مسرح للأرواح الشريرة لمخلوقات تعيش الظلمة للخنافس حتى، فهو يصف مرة خنفساء تسقط على ظهرها بحبكة ويجعلها بطلة أحد رسائله الحميمة الكئيبة هذه الحشرة النكرة التي تحاول عبثا استعادة وضعها الطبيعي لتقف على قوائمها البشعة لكنه يضيف إلى مشهدها الحيواني حضوره العدمي، حينها تتحول الحشرة إلى بطلة وكافكا إلى شخصية هامشية ضعيفة.

حالة من اللامعنى وشيكة عن الافصاح عن ذاتها وهي تتماهى مع وجوده المضطرب. تلقف آلبير كامي 1913/1960 نزعته الانتحارية من كافكا هذا الأخير كان ميالا لوضع حد لأوجاعه الانطولوجية. كامي كان وجوديا منضبطا في تحقيب وترتيب أفكاره يترسل في سرد الحوادث مع إيقاع قوي للحضور الإنسانوي لشخصيات رواياته. رواية الغريب هي تنظير لأنطولوجيا خلاصية تهرب من شروط الواقع المرير للارتماء في قوقعة العبث والشخصية المحورية هي الموسيو "ميرسو " اللامبالي الذي يأخذ كينونته إلى موته وإعدامه المحقق.

وضعية الخنفساء المقلوبة التي تشبه إلى حدما صخرة سيزيف هي حياة مقلوبة غير عادلة وليست ذات أفق ومعنى وكل ما هنالك وعي زائف يجعلنا كالحشرات المعذبة نُعدّل من أوضاعنا اعتقادا منا أنها النهايات الخلاصية السعيدة. ما دعا المعجبون بالأدب العبثي التلميح إلى الحضور الكافكاوي في الغريب.

لولا الإنطباعات السوداوية التي تغلف كتابات كافكا فهو ينهي مشاهده بفاجعة ومأساة ونهايات حزينة دائما. يميل إلى المحاكمات الجدل الخفي وكأنه يؤرخ لسيرته كمحامي ومدافع شرس عن موكليه في شركة التأمين التي كان موظفا بها. ألبير كامي لم يكن واضحا في تنصله من الكولونيالية رغم المأزق الاجتماعي والوضع الطبقي الذي عاشه كفرد من أسرة فقيرة تعيش الكفاف فهو لا يدين الإستعمار علنا ويتجنب الانخراط في الصدام مع تاريخه الأسود، في الوقت الذي يعلن كافكا انسحابه من دائرة البشر الفاقدين لإنسانيتهم فهو كاره للصهيونية لا يعيرها اهتماما ككاتب ومؤلف.

قلق وفقدان ثقة مطلق في الآخر وفي المؤسسات الإجتماعية. رفضه الزواج وتدمره من خطيباته الثلاثة اللواتي انفصلن عنه بسبب قراراته الفجائية وغير المتوقعة. كافكا كان أديب القطائع والفواصل. فهو قليل التودد ويحسن التخاطب من بعيد والتواصل من خلال مسافات كبيرة. حبه الذي أسرّه وأخفاه في الأوراق لم يكن واقعيا إلا أياما معدودات بل ربما ساعات حين التقى بميلينا وهي سيدة مجتمع ومتزوجة وأديبة. ومترجمة ولا تقل حياتها ألما وفداحة وانقلابات عن حياة عشيقها الأسطوري البعيد كافكا. حب جمع بين عشق المأساة والتراجيديا السوداء. عشق شذري مُتعب جدا ومكلف من الناحية السيكولوجية وغير مثالي وكل العلاقات التي انتهت بالتمنع والتوقف المفاجئ على مستوى العواطف لا يمكن وصفها إلا بالكافكاوية كما يقول المثل الشعبي "لما يجتمع المتعوس على خائب الرجاء".

مارس كافكا نمطا من التداوي الذاتي بالكتابة كي يهدأ من فورة الغضب والخوف الذي عاشهما يقول في رواية المسخ" كأن الرجل يحاول أن يحطم مرجلا في الجحيم، وسواء حطمه أم لا سيتألم الرجل من هول اللهيب المتدفق عند تحطم المرجل لكن اللهيب سيبقى بكامل مجده "صناعة المجد التي تحف بالقلم والكتابة لا يمكن أن تكون إلا جحيما. الكاتب لا يخلد ذكراه إلا داخل وديان من جهنم الحمراء. كل فكرة أو مؤلف أو قصة تشبه بحرا من الهموم التي يحيط بها وجع جحيمي.

لكل كاتب ساعة الاشراق والإبداع وانفجار فيوضات المخيلة ولا يتأتى ذلك إلا تحت تأثير بواعث ومسوغات تستفزه. ما كان يشجع كافكا ويُسَلِّمه لقلمه جاثيا على ركبتيه هو غضبه الدائم فقدان الشغف والشهية في الانوجاد في محيط القرف والنفاق والمظاهر والإحراجات.

فكر كافكا في الانتحار بعد موجة ضاغطة سببها روتين الملل وكراهية الشغل المقيت و الجحيم الذي فرضته إكراهات الأسرة والسلطة الابوية. حول إنهاء حياته بعد كتابة رواية المحاكمة(2)، تشترك ثلاثة نساء في فضل ذكوري سمح لشخوصهن الإشراق والشهرة الكونية والعالمية هن "ميلينا جينسكا وحنة ارندت وسالومي" الغريب غير المتوقع أن النسوة الثلاثة يعتبرهن الأدب النسائي بطلات في الجندية الجديدة والنسوية التي تود الانفصال والاستقلالية عن عالم الرجال تحت وقع الحقوق والحرية وإثبات الذات المثقلة والمنهكة تاريخيا. لكن ما لم تدركه عمقا هذه الشابات الجميلات اليافعات وحتى ما خلص إليه التأويل الجندري الجديد أن كل من كافكا وهايدغر ونيتشه كانوا سببا في انفراج وكشف صوفي لأدبهن ووجودهن.

كافكا هو مفكر مفجوع وكاتب الإنسحاب والتردد لم يكن فيلسوفا شذريا ومطرقة مزعجا كنيتشه الذي اعتقد أننا في حاجة إلى تكرار عودنا الأبدي. تعويد ذواتنا الحرة على الإفراط في خلودنا الإنسانوي. كافكا كان يؤسس لثقافة غاضبة نصوص مفجوعة. صناعة الإثارة تبدأ من عدم الانشغال بالمعنى إضفاء طابع من التهكم الخفي واللاجدوى على الحقائق كما كان يرى هيدغر "عندما ننسحب فإن هذا الدور سيصبح غاية في حد ذاته نكون متجهين صوبا نحو ما يثيرنا انسحابه.(3)

أعتقد أن الذين يكتبون في ظروف مخملية هؤلاء الذين يتوقون للشهرة بلوغ القمة والنجومية هم يؤرخون لذوات غير حقيقية لا تتمتع بمجد الكتابة بل تسبح في فقاقيع الوهم. أن تكتب هذا يعني أن تكرر مشاهد المأساة وتخترق أنفاق السوداوية. لا يوجد كاتب لامع ونجم بالقدر ما يوجد مؤلف مفجوع ومهموم. الكتابة هي الإبنة الشرعية للألم الذي يجعلنا عظماء.

* كاتب من الجزائر

......................................
هوامـــــــــش
(1) انظر فرانز كافكا الآثار الكاملة مع تفسيرها المحاكمة نقلها إلى العربية ابراهيم وطفي674
(2) نفس المرجع ص 674.
(3) انظر موريس بلانشو كتابة الفاجعة ترجمة عز الدين الشنتوف دار توبقال للنشر ص 36
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق