يتجلى سلوك عقلية الضحية الجماعية على اكثر من مستوى في عالمنا الراهن كلما كان هناك استعصاء لحل أزمة مستدامة لعقود، وفي ذلك ما يشير إلى أهمية الانتباه من الأثر النفسي للحروب والأزمات في صناعة أجيال من حاملي عقلية الضحية، الذين سيكونون سببا لدورات من العنف والتوتر والصراع حينما يغيب العدل والإنصاف...
يميز الباحثون بين سلوك الضحية الموضوعية وبين سلوك عقلية الضحية، الأولى تعرضت إلى الظلم والعدوان أو الصدمة الناشئة من أفعال الآخرين الشريرة، هؤلاء يبحثون عن الانصاف والعدل والتعويض ورد الاعتبار ولاتتحول ظلامتهم إلى اضطراب نفسي وعقدة تسكن الشخصية، وتجعلها تتصرف بدوافع الانتقام والثأر والاستعلاء والاعتماد المبالغ به إلى حد العجز، عقلية الضحية مفهوم سيكولوجي يصف أولئك الذين يدركون ذواتهم على الدوام بأنهم ضحايا لمجتمع أو أمة أو جماعة بشرية، تعرضوا يوما ما أو خلال مدة زمنية إلى معاملة قاسية جعلتهم يفتقدون السيطرة على الأمور والأحداث المتعلقة بمصيرهم وحيواتهم، ويشعرون بعجزهم عن تغيير واقعهم فيستسلمون له وينتظرون أن ينوب عنهم الآخرون في تحصيل ما يظنون أنها حقوق ضاعت منهم.
عقلية الضحية الفردية تكون ممكنة العلاج وإعادة التأهيل عبر تغيير تدريجي للقناعات وإعادة الثقة للفرد بإمكانية التحكم بالعالم الخارجي المحيط به وتغييره، وانه ليس قدرا محتوما.
الصعوبة تكمن في ما لو شعرت جماعة أو فئة أو عرقية أو أثنية بأنها ضحية واقع سياسي تمييزي أو إجحاف قانوني أو عمليات قتل وإبادة وتهجير واستعباد واستدمجت أجيالها ذلك الشعور بهويتها الاجتماعية والسياسية وبقيت الاجيال تعيش وتتكسب من حالة الضحية بدعوى أن العالم لم ينصفهم وأن عليه أن ينتصر لهم في كل الأحوال.
إن العيش بعقلية الضحية واستحضار الذاكرة تأتي أحيانا على شكل توظيف مقصود لغرض ضمان التلاحم والوحدة الداخلية وانسجام هوية الجماعة، وتأتي خارجيا لغرض ابتزاز الآخرين عاطفيا وقانونيا وماليا.
هذا النمط السلوكي الاستغلالي ينتج عنه تعقيدًا للنزاعات والصراعات وتجعلها مستعصية على الحل، فالريبة والشك وعدم التسامح ورفض التسويات والتنازلات، والتصلب المسكون بالعناد هي المظاهر السلوكية التي تتجسد عمليا، تزيدها تعقيدا مشاعر التفوق والمناقبية والتميز التي تشعر بها شخصية عقلية الضحية، فهي تتغذى نفسيا باستمرار من كونها ذات شأن رفيع وأنها لا تستحق ما تعرضت له وعلى الاخرين تعويض ذلك والاعتراف بالذنب.
إن استمرار هذه التصورات واستذكار الوقائع العصيبة وتكريسها هوية دائمة، يسهم في صناعة خطوط انفصال بين الجماعات، تعمق العداء والحواجز النفسية، وتمنع صناعة مصير مشترك يقوم على التعاون والثقة، بل تزداد سياسات الهوية تطرفا وخطورة، حينما يتم التركيز المنهجي على المظلومية لتشمل فضاءات ثقافية وسياسية واقتصادية تتحول بمرور الوقت إلى ابتزاز وتسلط واستهانة بالآخر والتقليل من قيمته الوجودية.
نظرة سريعة على الصراعات الكبرى في العالم خلال القرنين الاخيرين تعطي استنتاجا بأن هناك جماعات شعرت في لحظة زمنية بانها كانت ضحية عمليات إبادة وأنها ما زالت تعاني في استحصال الاعتراف بسبب رفض الطرف الاخر، إن أجيال هذه الجماعات لم تعان حاضرا من عمليات إبادة، وهي ليست ضحية في واقعها الراهن، لكنها تستديم مشاعر مؤلمة لأحداث تاريخية مختزنة في الذاكرة الجماعية، فتعيد الحديث عن ذكرياتها في سياق اجتماعي - ثقافي لشحذ الهوية وتطوير المشروع السياسي الحلم.
قد يكون الأرمن المثال الآخر غير النموذج الصهيوني، الذي يصلح للاستدلال على عقلية الضحية، اذ ترفض الغالبية الأرمنية القبول بمحاولات بعض السياسيين للخروج من (عقلية الضحية)، وما زالت المواقف المتشددة على تصلبها متخذة من أحداث عام 1915 داخل الدولة العثمانية (الإبادة الأرمنية)، مدخلا نفسيا وحسيا للسلوك السياسي الأرمني.
تتعدد الأمثلة عندما تشعر أقلية قومية بالاضطهاد من أكثرية قومية أو أكثرية طائفية من أقلية أو العكس.
يتجلى سلوك عقلية الضحية الجماعية على اكثر من مستوى في عالمنا الراهن كلما كان هناك استعصاء لحل أزمة مستدامة لعقود، وفي ذلك ما يشير إلى أهمية الانتباه من الأثر النفسي للحروب والأزمات في صناعة أجيال من حاملي عقلية الضحية، الذين سيكونون سببا لدورات من العنف والتوتر والصراع حينما يغيب العدل والإنصاف في معالجة هذه الأزمات.
اضف تعليق