فالهوية عبارة عن تلك القيم المطلقة، التي تحتاج الى جهد إنساني متواصل، لتزيلها إلى حقائق اجتماعية وحضارية، ولذلك فإن الهوية باعتبارها قيماً مطلقة. ليست حلاً سحرياً لمشكلات العالم العربي والإسلامي، وإنما هي بمثابة الوعاء الضروري، الذي ينبغي أن تنطلق منه الاجتهادات والجهود، من أجل ترجمة هذه القيم المطلقة...
لعل من الأخطاء الشائعة، والتي تحتاج إلى إعادة نظر وفحص، هو التعامل مع هوية الأمة وكأنها بنية مغلقة ـ سكونية ـ ثابتة، وبالتالي اعطائها مفاهيم ومعاني لا تتعدى البنية الثابتة. وبهذا التعامل نخسر الكثير من الإمكانات التي توفرها هوية الأمة إلى حاضرها وراهنها. ولا نعدو الصواب حين القول، انه بفعل هذا التعامل الجاف مع مقولة الهوية، برزت في جسم الأمة العديد من الإشكاليات والثنائيات التي لحد الآن لم تجد لها حلولاً عملية وذات جدوى حقيقية. لذلك فإن الضرورة ملحة. لبلورة منهجية حضارية في طريقة التعامل مع الهوية بما يثري واقع الأمة ويعزز من خياراتها الحضارية الكبرى. وبالتالي فإن كل مساءلة للهوية، هو بنحو من الأنحاء مساهمة في تجدد الهوية وحيويتها.
وهنا ينبغي أن نميز بين عناصر الهوية القابلة للتغير والأخرى غير القابلة للتغير. والعناصر الثابتة في الهوية هي مسائل العقيدة والتوحيد، ودون ذلك من الكسب الإنساني والاجتهاد البشري فهي قابلة للتجدد والتغير.
وحديثنا يتجه الى طريقة فهم كلا العنصرين، ووسائل التعامل معهما.
وقد عرّف الجرجاني (الهوية) في كتابه التعريفات بأنها: هي الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق.
أما مجمع اللغة العربية فيعرفها بأنها: حقيقة الشيء الشخصي المطلقة. المشتملة على صفاته الجوهرية، وليست أي صفات والتي تميزه عن غيره.
فالهوية عبارة عن تلك القيم المطلقة، التي تحتاج الى جهد إنساني متواصل، لتزيلها إلى حقائق اجتماعية وحضارية، ولذلك فإن الهوية باعتبارها قيماً مطلقة. ليست حلاً سحرياً لمشكلات العالم العربي والإسلامي، وإنما هي بمثابة الوعاء الضروري، الذي ينبغي أن تنطلق منه الاجتهادات والجهود، من أجل ترجمة هذه القيم المطلقة والخالدة والتي نصطلح على تسميتها بـ "الهوية" إلى وقائع وحقائق وبرامج تعالج مشكلات الإنسان، وتجيب على تساؤلاته وإشكالياته المعاصرة.
فلا يكفي أن نرفع لواء الهوية، حتى نحقق تطلعات الإنسان العربي المعاصر، وإنما نحن بحاجة الى اجتهاد حكيم ومعرفة عميقة، ووعي وإرادة مستديمة لكي نستفيد من هذه الثروة في راهننا.
لهذا فإننا ينبغي أن نقرأ مفهوم "الهوية" قراءة متوازنة ومدركة لقوانين التطور والتغير، وطبيعة العلائق القائمة بين الظواهر المعاصرة والتاريخ والقيم المطلقة المتعالية على الزمان والمكان. ولاشك ان حضور القيم المطلقة في مشروعات الأمة المعاصرة مسألة ضرورية وحيوية، وتفاعل الراهن مع العمق الحضاري والتاريخي ترتبط بحيوية علاقة الإنسان المعاصر مع تلك القيم وعناصر العمق الحضاري.
وعلى هدى هذا نقول: إننا لا ننكر أهمية وضرورة حضور القيم المطلقة في عمليات الفعل الحضاري الراهنة، ولكننا في نفس الوقت نقول إن هذه العملية لا تتحقق بشكل سليم وحيوي إلا بعلاقة حضارية ينسجها الإنسان المعاصر بعقلية حضارية ووعي ومعرفة عميقة مع تلك القيم المطلقة.
هذه العلاقة بهذا المستوى هو الدخل الضروري لتوظيف الثروة الحضارية "الهوية" في تطوير واقعنا وراهننا. وبدون ذلك ستبقى هذه الثروة وكأنها يافطة شكلية لا دور فعلي لها في حاضر الأمة ومستقبلها.
فالوظيفة الحضارية للهوية، هي وظيفة التوحيد المعنوي والروحي والعقلي، ودورنا هو العمل على تقوية وتنمية هذه الوظيفة الحضارية، حتى تتحول هذه الثروة الى قدرات فعلية ومؤسسية في سبيل التطوير والتقدم.
لذلك فإن العلاقة مع الهوية، وحتى تكون مصدراً ومنبعاً للفعل الحضاري الإنساني نحن بحاجة إلى التأكيد على الأمور التالية:
1) ضرورة التواصل مع هذه الثروة الحضارية وبذل الجهود العلمية والتاريخية في سبيل تحقيق تواصل علمي فعال مع هذه الثروة الحضارية.
والتواصل هنا لا يعني فقط قراءة كتب التراث وتحقيقها وطباعتها طباعة أنيقة. وإنما هو يعني:
الإدراك العميق والفهم العلمي والموضوعي لجملة القيم والمبادئ الخالدة والجوهرية والتي تعبر عن حقيقة الأمة الحضارية.
إزالة كل الموانع والرواسب، التي تحول دون التواصل العلمي والموضوعي مع هذه القيم والمبادئ.
إن التواصل في أحد معانيه ووجوهه، يعني خلق المنجز الحضاري الراهن، الذي يؤكد على حيوية هذه الثروة وإمكاناتها في البناء والتطور وفق مقاييس العصر.
2) ان علاقة الإنسان، والذي يعيش بطبعه أحوالا نسبية ومتغيرة باستمرار، مع القيم المطلقة والخالدة والقابلة للتنزيل على كل زمان ومكان، هي بذل الجهود الحقيقية لاكتشاف أفضل الطرق وأنجع الأساليب، لتنزيل هذه القيم المطلقة على واقعنا النسبي والمتحول بشكل دائم.
فوعينا وعقليتنا وفهمنا للمحيط والضرورات والأولويات. كلها عوامل أساسية لتحديد طبيعة عملية التنزيل.
لذلك لا يكفي أن نعرف حقيقة القيم المطلقة، وإنما لابد لنا أيضاً من فهم عميق للواقع بضروراته وأولوياته، حتى يتسنى لنا تنزيل دقيق وحكيم للقيم المطلقة على الواقع النسبي.
وبدون تكامل هذين الفهمين (فهم النص) و(فهم الواقع). لن نتمكن من تحقيق اضافة نوعية، في واقعنا انطلاقاً من فهمنا المعاصر لتلك القيم والمبادئ.
ومن خلال هذا المنظور تكون علاقاتنا مع الهوية علاقة اضافة ومصدر من مصادر الفعل الحضاري في الأمة، وعلى ضوء هذا تتجه علاقتنا بمفردات وعناصر الهوية، إلى توفير الشروط المطلوبة لصناعة التفاعل الخلاق بين إنسان هذا العصر، وتلك القيم والمبادئ التي تفاعل معها في يوم من الأيام نفر من الناس، فتحولوا بفضلها من حفاة عراة إلى أسياد العالم، ومن مجتمع جاهلي تسوده شريعة الغاب، إلى مجتمع يسوده الحب والتعاون، وتكتنفه طموحات نبيلة تسع العالم كله.
وإن أخطر مرض يصيب واقعنا، هو حينما نصاب بالاستلاب والهروب من العصر الذي نعيش فيه لأن هذين (الاستلاب والهروب)، يلغيان فعالية كل فكرة، ويمنعان عملية التفاعل الخلاق مع تلك القيم والرؤى التي تعبر عن أصالة الأمة ونموذجها الحضاري.
وإن أخطر أثر يصنعه الهروب من العصر، انه يزيل القدرة الذاتية التي تدافع عن خيارات الأمة الاستراتيجية.
فالهوية ليست واقعاً مجتمعياً ناجزاً، وإنما هي قيم الأمة الجوهرية التي يتجدد فهمها بفعل الإنسان وفهمه وإدراكه وديناميته، وقدرته على تحدي مشكلات عصره.
فالإنسان هو الذي يحدد دور الهوية في واقعه المعاصر، فتقاعسه وترهله وكسله لا يحوّل الهوية الى بديل عنه، وإنما تجعله يفسر قيم الهوية تفسيراً تبريرياً.
والإنسان الفاعل والدينامي. فإنه سيحول هويته الى مصدر ثراء وحيوية وفعل حضاري.
اضف تعليق