السلعة هي الشيء الأعظم، ومن ثم تصبح عملية تبادل السلع هي النموذج الكامن في رؤية الإنسان للكون ولذاته ولعلاقاته مع الآخر والمجتمع. وإذا كانت السلعة هي مركز السوق والمحور الذي يدور حوله، فإن التسلع يعني تحول العالم إلى حالة السوق. ويرى الإنسان نفسه باعتباره سلعة ويرى الآخرين باعتبارهم سلعاً...
بقلم: عبدالوهاب المسيري
"التشيؤ" ترجمة للكلمة الإنجليزية "رييفيكيشن Reification " وهو مصطلح صكه الناقد المجري الماركسي جورج لوكاتش "استناداً إلى مصطلح ماركس عن توثن السلع"، وهو يعني تحول العلاقات بين البشر إلى مايشبه العلاقات بين الأشياء "علاقات آلية غير شخصية" ومعاملة الناس باعتبارهم موضعاً للتبادل.
وسبب التشيؤ "في الأدبيات الماركسية الإنسانية" اقتصادي، إذ تذهب هذه الأدبيات إلى أن تقسيم العمل الموغل في التخصص هو الذي يؤدي إلى تجزؤ الإنسان وابتعاده عن الإحساس بالكل. كما أن الاستغلال في المجتمع والملكية الفردية لأدوات الإنتاج وآليات المجتمع الرأسمالي "حيث يبيع العامل عمله ويفقد ثمرته" تؤدي إلى أن يعامل الإنسان عمله وكأنه شيء غريب عنه، ولايجد فيه إبداعاً أو تحقيقاً للذات. وقد طور لوكاتش المفهوم وأخرجه من المجال الاقتصادي إلى المجال الحضاري، فذهب إلى أن الفكر البورجوازي ككل يقوم بعزل لحظات متفرقة من حياة الإنسان عن كليتها المركبة وينسب إليها صفات الأشياء.
ولكن علم الاجتماع الغربي أخرج المفهوم من نطاقه الاقتصادي أو الحضاري الضيق ورأى أنه مفهوم يصلح لوصف المجتمع الحديث ككل وكثير من الصفات السلبية فيه مثل التنميط والتجريد والتي حلت محل حلم التحديث الإنساني الهيوماني القديم الخاص بإعلاء إرادة الإنسان على الطبيعة وتزايد معرفته حتى يمكنه التحكم الكامل في ذاته وفي بيئته وفي قوانين الضرورة حتى يخرج من عالم الضرورة ويدخل عالم الحرية. وفيما يلي بعض الأسباب المؤدية إلى التشيؤ كما يراها علماء الاجتماع الغربيون:
1 ـ يصبح الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث في الغرب مجرد عنصر واحد وجزء ضئيل من جهاز الإنتاج الهائل المكون من عدة عناصر، وهو جهاز يصعب فهمه أو الإحاطة بشبكته المعقدة أو القوى التي تمسك بخيوطه وتحركها.
2 ـ بل ويرى البعض أن إيقاع الحياة الحديثة ذاتها هو إيقاع آلي يفرض ضرباً من التفكير الآلي على الإنسان.
3 ـ المجتمع الاستهلاكي مجتمع مغرق بالسلع. ومع هذا، تخلق عند الإنسان الحاجة إلى المزيد من السلع فيعمل ويكد ويسعى للحصول على شيء هو لايريده وليس في حاجة إليه، وهذا شكل من أشكال التشيؤ.
4 ـ ظهرت البيروقراطيات الحديثة ولها مقدرات هائلة على القمع والإغواء وأحكمت قبضتها على الإنسان حتى صبغت حياته بصبغة بيروقراطية رشيدة، وهذا شكل من أشكال التشيؤ.
5 ـ ساعدت وسائل الإعلام "وصناعات اللذة"، بما لها من مقدرات هائلة، على زيادة التحكم في الإنسان وضبطه من الداخل والخارج، أي أنها ساعدت على تشيئه.
6 ـ التشيؤ هو نتيجة ظهور علوم مختلفة تقسم الإنسان إلى أجزاء مستقلة، ويدرس كل علم أحد الأقسام بمعزل عن الإنسان ككل، أي أن الإنسان الكلي يضيع ويذوب وينقسم إلى أجزاء ذرية لايربطها رابط.
7 ـ ويرى البعض أن التشيؤ هو أن يرى الإنسان الشيء المجرد "مثل المفاهيم" باعتباره شيئاً حقيقياً. والشيء المجرد "النماذج التحليلية على سبيل المثال" هي تبسيط للواقع، وتصور الإنسان أن النموذج البسيط هو الواقع ذاته هو خلط بين الواقع والشيء. وبهذا المعنى، فإن الحياة الحديثة "بما فيها من تجريد" تؤدي إلى تشيؤ الإنسان.
مجردات مطلقة
ويمكن القول ببساطة شديدة إن التشيؤ هو أن يتحول الإنسان إلى شيء ـ تتمركز أحلامه حول الأشياء فلا يتجاوز السطح المادي وعالم الأشياء. والإنسان المتشيىء هو إنسان ذو بعد واحد قادر على التعامل مع الأشياء بكفاءة غير عادية من خلال نماذج اختزالية بسيطة، ولكنه يفشل في التعامل مع البشر بسبب تركيبتهم. والإنسان المتشيىء إنسان قادر على الإذعان للمجردات المطلقة وأن يتوحد بها ويتصرف في هديها.
وهكذا بدلا من ظهور الإنسان الطبيعي الرشيد القادر على أن يستمد معياريته من الطبيعة أو من عقله أو من كليهما، ظهر الإنسان المدجن المذعن الذي ينصت بعناية شديدة لما يأتيه من "رسائل" من الخارج "إعلانات ـ برامج تليفزيونية ـ بيانات سياسية" ويصوغ حياته في إطارها، فهو إنسان مفرغ تماما من الداخل، يرى أن خلاصه هو في البحث الدائم عن اللذة المباشرة، ومن ثم فالسلعة هي أيقونته الكبرى، وهكذا يترجم التشيؤ نفسه إلى تسلع.
و"التسلع" ترجمة للكلمة الإنجليزية "كوموديفيكيشن Commodification " وهو مصطلح يشير إلى أن السلعة هي الشيء الأعظم، ومن ثم تصبح عملية تبادل السلع هي النموذج الكامن في رؤية الإنسان للكون ولذاته ولعلاقاته مع الآخر والمجتمع. وإذا كانت السلعة هي مركز السوق والمحور الذي يدور حوله، فإن التسلع يعني تحول العالم إلى حالة السوق.
ويرى الإنسان نفسه باعتباره سلعة ويرى الآخرين باعتبارهم سلعاً ويرى حركة الحياة كما لو كانت هي ذاتها حركة السوق أو المصنع. ويمكن أن نورد بعض الصفات الأساسية والجوهرية للسلعة وكيف تمتد إلى المجالات الإنسانية باعتبارها النموذج الكامن:
1 ـ السلعة تشير إلى ذاتها ولاترد إلى مرجعية خارجها. والتسلع يعني أن كل إنسان يصبح مرجعية ذاته، يدور في إطار عقله الذاتي ومصلحته الذاتية "العقل الأداتي الذاتي". بل إن الإحساس بكلية المجتمع ذاتها تختفي ويتفتت المجتمع إلى أجزاء متفرقة وعمليات منفصلة متخصصة فنية، يصبح كل منها مستقلاً بذاته.
2 ـ السلعة تشبه الحقائق المادية الصلبة في انفصالها عن الإطار الكلي، والتسلع يعني أن الإنسان يدرك الواقع باعتباره حقائق جزئية منفصلة عن أي كليات مركبة، مادية أو غير مادية متجاوزة "البرجماتية ـ الوضعية".
3 ـ السلعة هي معيار ذاتها، ولهذا لايمكن في العالم المتسلع والمتشيىء التوصل إلى أي معايير "النسبية الأخلاقية". وتزايد التسلع يعني استيعاب أي معايير نقدية أو ثورية متجاوزة، ولذا فإن التسلع يعني تزايد تكيف الإنسان مع واقعه والقضاء المستمر على أي معايير ثورية.
4 ـ السلعة منفصلة عن العمل الإنساني الذي أنتجها، ولذا فهي لاعلاقة لها بأي غائيات إنسانية، فالسلعة معطى مادي نهائي، مستقلة عن القبول والرفض الإنساني، والتسلع يؤدي إلى تحييد العالم ورؤيته باعتباره كياناً مادياً استعمالياً لايوجد أي غاية إنسانية من وجوده، بل إن أحلام الإنسان تصبح متمركزة حول السلعة.
5 ـ السلعة شيء مجرد للغاية، قيمتها التبادلية المجردة "وليس نفعها المتعين" هي أهم سماتها، ولذا فإن التسلع يعني أن العلاقات بين البشر تصبح آلية مجردة مثل علاقات البيع والشراء، تتجاوز وصفهم العياني، ويصبح التبادل بينهم مثل تبادل السلع بالنقود وتحل العلاقات التعاقدية اللاشخصية الصارمة محل العلاقات التراحمية المبهمة.
6 ـ السلعة لها قيمة مجردة، ولذا يمكن توحيد السلع كلها تبعاً لمقاييس مجردة للغاية ليست كامنة فيها مثل السعر أو الحجم، كما يمكن تصنيف السلع على أساس تصنيفي بسيط. والتسلع هو هيمنة هذا المبدأ التصنيفي والتفسيري البسيط على العالم، بحيث إن كل ماهو فريد وخاص يصبح لاقيمة له ويستبعد ماهو كيفي وتلقائي، وبذا يزداد تنميط المجتمع وتختفي الفردية الحقة ويكتسب الإنسان هويته مما هو سائد ومألوف ومحـدد اجتماعياً بشكل مسبق.
7 ـ السلعة "لأن قيمتها مجردة" يمكن حساب ثمنها بدقة بالغة، والتسلع يعني انتشار الحسابات الرشيدة "المادية" والنماذج الرياضية في العالم.
8 ـ السلعة شيء ملموس، ومن ثم فإن التسلع هو أن يتحول الإنسان والطبيعة إلى شيء ملموس يستخدم ويوظف، يباع ويشترى، بحيث يصبح كل شيء له ثمن، ولايوجد شيء له قيمة "الحوسلة".
9 ـ السلعة لها دينامية مستقلة عن التحكم الإنساني وعن أي هدف إنساني من إنتاجها حتى يصبح إنتاجها "الوسيلة" هو الغاية، والتسلع يعني أن السلع تستقل عن الحاجات الإنسانية وتتراكم وتتحرك دون أي تحكم إنساني هادف، مثلما تستقل قواعد الترشيد عن مضمون الترشيد وفكرة التقدم عن أي مضمون إنساني للتقدم.
10 ـ السلعة، في نهاية الأمر، تصبح هي الحقيقة "المعرفة" وموضع الرغبة "الأخلاق" ومصدر الجمال "الجمال" أي أنها هي الكيان الوحيد الذي يمارس الإنسان من خلاله إنسانيته المتكاملة على جميع المستويات، فهي تصبح الكل المادي المتجاوز متجسداً في حياتنا اليومية.
بديل مطروح
وهكذا أصبحت السلعة، هذا الشيء الأعظم، هي النموذج الأساسي الذي أزاح الإنسان عن مركزه في الكون وحل محله. وهكذا قضى تماما على الحلم الإنساني الهيوماني القديم الخاص بسيطرة الإنسان على الطبيعة وعلى ذاته، وهو الحلم الذي يشكل الأساس المعرفي والأخلاقي للفن الغربي منذ عصر النهضة الغربية حتى نهاية القرن التاسع عشر "وهو مانسميه عصر المادية والتحديث البطولي".
ومع نهاية الحلم ومع تزايد هيمنة السلع والبيروقراطيات وصناعات اللذة على الإنسان يظهر الفن الحداثي Modernist الذي يحاول أن يفر من قبضة التشيؤ والتسلع، خصوصا أن السلعة لم تعد تهدد الإنسان وحسب، وإنما بدأت تطرح نفسها كبديل للفن وللأعمال الفنية وللنشاط الفني. فالسلعة لم تعد تتحرك في عالم السطح البراني "السوق والمصنع" وإنما بدأت تتغلغل في عالمه الجواني، عقله وقلبه وروحه. بحيث أصبحت مركز أحلامه وأشواقه وتطلعاته "الروحية"! كما تم ربط السلعة بالدوافع الجنسية للإنسان، فبدلا من أن تكون الرغبة الجنسية رغبة بروميثية ثورية تحطم الحدود وتدفع الإنسان لتجاوز واقعه أصبحت ذات مضمون رجعي إذ يمكن تحقيق هذه الرغبات وإشباعها من خلال شراء المزيد من السلع.
الفن المضاد
بل إن البعد الجمالي للسلعة بدأ يتعمق إذ يتم تغليفها بعناية حتى يصبح شكلها في أهمية فائدتها ومضمونها "وهذه هي إحدى أهم سمات العمل الفني". واقتناء السلعة أصبح هو مصدر الهوية في العالم المتسلع "والفن، هو مايتعامل مع الخاص والمحدد والعياني". كل هذا يعني أن السلعة أصبحت هي اللوجوس والتيلوس "المطلق والغاية"، فحلت محل الدين بدلاً من الفن الذي كان يطمح لأن يشغل هذه المنزلة مع تصاعد معدلات العلمنة في المجتمعات الغربية.
والفنان الحداثي يشعر بالاغتراب العميق في عالم التسلع والتشيؤ والتوثن هنا، فيبتعد عنه ويدير ظهره له ويهرب منه، ويحاول أن يبدع أعمالاً فنية فريدة لاتحاكي أي واقع خارجي متسلع تافه سطحي لامع، لايستحق المحاكاة، ومن هنا الإصرار المتوتر على الإبداع بدلاً من التواصل، وعلى التجريد المستمر باعتبار أن العمل الفني يدير ظهره للعالم المتسلع، وكلا العنصرين يسقط الجانب الاجتماعي والإنساني.
ومن هنا الاتجاه نحو الاهتمام بأنواع فنية "ضدية" فيقال "الفن المضاد" "أنتي آرت Anti -art" و "الرواية المضادة" "أنتي نوفيل Anti-Novel" و "الحضارة المضادة" "أنتي كلتشر Anti-Culture" فكأن الفنان الحداثي ينتج وثناً فنياً مكتفياً بذاته لايشير إلى أي واقع ولايحتوي على أي غاية، حتى يسبب الكدر لهؤلاء البورجوازيين القادرين على شراء كل شيء بما في ذلك الأعمال الفنية الجميلة. ولذا يحاول الفنان الحداثي أن ينتج أعمالاً فنية تسبب القلق ولاتدخل الراحة على قلب أحد. إنها محاولة من جانبه أن يذكر الجميع بعصر التحديث البطولي، ولكنها محاولة مأساوية لأن الفنان الحداثي يعرف تماما أن عصر البطولة قد ولى، وجاء عصر التسلع والتشيؤ.
وقد أثبتت البورجوازية أنها مرنة قادرة على التكيف، فتقبلت هذه المحاولة الحداثية اليائسة بصدر رحب، وأصبحت الأعمال الفنية الحداثية المقلقة سلعا ثمينة، بل وأصبحت من أغلى السلع على الإطلاق، أي أنه تم استيعاب الثورة الحداثية المأساوية البائسة فظهرت مابعد الحداثة. ففنان مابعد الحداثة متكيف تماما مع الواقع المتسلع المتشيىء من حوله، فهو لايمارس أي إحساس بالاغتراب أو الرغبة في التمرد فالاغتراب هو اغتراب ذات واعية، لها إرادة قادرة على الاختيار والتمييز بين العدل والظلم والخير والشر، تؤمن بوجود ثوابت وراء عالم السطح المتغير.
ومابعد الحداثة تنكر وجود أي ثبات وأي ذات وأي وعي وأي مقدرة على الاختيار، إذ لايمكن التمييز بين الخير والشر والعدل والظلم والحقيقة والزيف، فكل الأمور، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، نسبية متساوية. ولذا لاضير في أن نترك عالم البطولة وأحلام البطولة ونتكيف مع عالم التشيؤ والتسلع ولنسقط الحدود بين العمل الفني والسلعة، فيصبح العمل الفني سلعة، والسلعة عملاً فنيا "فكل الأمور نسبية متساوية". والتسلع والتشيؤ، أي هيمنة الأشياء على عالم الإنسان، وأسبقية السلعة والآلة على الإنسان المستهلك، هو في واقع الأمر أساس حديث فناني مابعد الحداثة عن أسبقية الدال على المدلول، واللغة على الوعي، والحقائق على القيمة، وكذلك انفصال كل حد في هذه الثنائية.
اضف تعليق