العولمة ما هي إلا سياسة استعمارية بقفازات تكنولوجية، تسعى إلى فرض نمط واحد في العيش والتفكير، في تسليع الإنسان وتحويله إلى سلعة فاقدة لجوهرها الإنساني، وضاربة الفطرة الإلهية وكل ما يمتّ بصلة إلى كُنْهِ الإنسان، كروح وجسد، إذ عملت هذه السياسة الاستعمارية الجديدة على تكريس صورة منمّطة للإنسان وللحياة...
بقلم: صالح لبريني
ما يشهده العالَم، في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ الإنسان، يُعزى إلى ما وقع من اختلالات مسّت جوهر الإنسان وعمق القيم النبيلة، هذه الأخيرة تتعرّض لانهيار مُهول وخطير ستكون تداعياته وخيمة على كينونة الفرد داخل منظومة عولماتية مختلة، ستنعكس سلبًا على كل المناحي والمجالات. هذا المناخ الملوّث يُحتّم على البشرية أن تفتح النقاش والتداول في هذا المصير الملتبس للإنسان والحياة في هذا الملكوت للتفكير في الحلول الناجعة والقادرة على إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
الإنسان هذا الكائن من دم ولحم، من جسد وروح، الجامع في داخله النقيض، حيث تتجاذبه ثنائيات مفارقة ومتناقضة، تفرض النظر في هذا الموجود وإعادة طرح السؤال المتعلّق بحقيقته وجدواه في الوجود، خصوصًا أنه يجمع بين المفرد والمتعدّد، بين الحب والكراهية، بين الخير والشر، بين الجموح والكبح، بين الطاعة والعصيان، بين الحس والرغبة، بين الغريزي والمكبوت. هذه التجاذبات والتقاطعات المتباينة تعرّي الضعف والوهن الذي يعتور هذا الإنسان المتسلط والمتهور، الحامل لجينات حيوانية، تجعله أحيانًا بعيدًا كل البعد عن إنسانيته، مناقضًا جوهره باعتباره أسمى الكائنات التي منحها الخالق المكانة اللائقة، لكن ميولاته نحو الهدم وتحويل الجميل إلى قبيح من مظاهر ممارساته التي تتنافى مع جوهر كينونته. ولا غرابة في الأمر مادام هذا الإنسان المغرور بقدرته على التحكّم في مصائر الكون، والمخطط لخرابه بيده وفنائه، وجنونه الذي سيحمله إلى الهاوية والزوال إذا هو تمادى في حمقه وتهوره.
إن الإنسان المعاصر يعتقد أن الأرض ملك له وباستطاعته القيام بكل الأفعال والممارسات التي بإمكانها السيطرة عليها، وتحويلها إلى مجال للتجارب المقيتة والمنافية للسلم والسلام والحفاظ على التوازن الطبيعي، كل هذا يكشف عن عنجهيته وحماقته وغرابته، ولعل ما بلغته البشرية من تطور وعصرنة وتقدّم في مجال التصنيع والطفرة النوعية في جوانب التقنية زاد من خَبَله، وأعمى بصيرته، وأصبح مدمّر ذاته بنفسه، ومخرّبا للعلاقة التي تربطه بالكون، والتي كانت موسومة بأن وجوده متعلق بالعمل والسعي على الحفاظ عليه، بسنّ سياسة واستراتيجية تمتلك القدرة على تحقيق المرغوب فيه، المتمثل في الدفاع عن الأرض بكل ما يملك من رغبة وإرادة.
فالتمادي في هذا التغوّل والاستبداد في حق الطبيعة، حيث معالم النهاية بدت ظاهرة للعيان تفرض تغيير السلوكات وتجديد عقد جديد بالطبيعة.
الذات ورعب الآخر
إن طبيعة الإنسان ميزتها تكمن في القدرة على الإضمار بدل الإظهار، تسرّ أكثر مما تُعلن، تضع الأقنعة المتقنّعة بالشرّ والتّصنع، بالبراءة والتواضع، فتسقط الإنسانية في فخّ التعالي والاختيال كآليات لإخفاء الجوانب الشرّانية في الذوات وحجب المسكوت عنه في كيانات مفخخة بسوء النيات، ودائمة الحذر من الآخر، ولعلّ هذا من أسباب التطاحنات السرّية والجهرية القائمة بين الإنسان وأخيه الإنسان، ومنذ وجود الإنسان على هذه الأرض وهو يحارب ذاته بذاته، يحوّلها إلى ذات مكدّسة بالعقد والأمراض الخفية والمدفونة في اللاوعي، ذات تعاني من النقص والاعتلال العقلي والحسّي، ذات تتوهم أعداء يحاربونها، لذلك تجدها دائمًا تميل إلى الاحتيال من خلال التعامل السيئ مع الذات الأخرى، مما زاد من تعقّد هذه الذات ورعبها من الآخر.
لهذا تتسم العلاقات الإنسانية بصفات التباعد والتنافر، واتخاذ الاحتياطات اللازمة من المختلف، بينما المؤتلف يزيد الوضع أكثر تشرذمًا وتشظيًا. الأمر الذي يعيد الإنسان إلى العهود البدائية، بالانزواء تارة وبخوض الحروب وإشعال الصراعات لإثبات الكينونة إما بالقوة أو الفعل. هذه الوضعية الغامضة تثير العديد من التساؤلات حول الازدواجية؛ التي تنوجد عليها الإنسانية، وهي أشياء قد تؤكّد على أن الإنسان عدواني، أصله الشر، وحتى وإن ادّعى هذا الإنسان العلم وتغليب العقل والتصنيع والابتكار؛ فإن العدوانية متأصلة ومتجذرة في اللاوعي، ومستوطنة الرغبات والأهواء. وهذا من بين العوامل التي تؤكّد على أن الإنسان عالم ملتبس ومعقد وأكثر حيرة وغرابة.
وقد يكون مؤشّرًا على أن الإنسان عبارة عن مشفى متعدد التخصصات، إذ فيه تجتمع الأمراض كلها نفسية وعضوية، من عقد دفينة وأعضاء مصابة بعلل كثيرة وعديدة، ومن حمق وجنون، من تهور واستهتار، من وضوح والتباس. وهذه الصورة تكشف عن جوهر الكائن البشري المتخفي خلف الفكر والعمارة والسلوك، وتعرّي حقيقته التي تبقى مطمورة في الخوافي والباطن، وتخرجها إلى العلن مثيرات الانفعال والغضب والعنف، وما الحروب إلا تجسيد واضح وفاضح لهذا الشّرّ الذي يسكن الإنسان.
آليات التّحكّم وترويض الإنسان
فالعنف مظهر من مظاهر الشّرّ الكامن في بني آدم، وله تجليات رمزية ومادية، ذلك أنه تعبير عما تخفيه النّفس من مشاعر البغض والكره تجاه الآخر، باعتباره عدوًّا يروم إلى وضع الحدّ للرغبات؛ التي تحفّز الذات لتواصل الطريق نحو الاكتمال، والعنف في جوهره هووي (من الأهواء) ينطلق من رغبة الإنسان في التملّك والسّيطرة وممارسة السلطة المخولة له، وآلية من آليات التحكم وهذا ما تنهجه الدول المستبدة الطاغية، اعتقادا منها أنه (العنف) يكبح جماح الرّعية، ومن ثم يتم ترويضها وفق ما ترسمه لها من حدود لا ينبغي لها تجاوزها أو خرقها، وإلا اعتبرته - الأنظمة المستبدّة - تحدّيًا وتمرّدًا وعصيانًا ضد الإرادة السلطوية، وهذه الطباع الاستبدادية التسلطية تعبير عن كون السلطة تنزع هذا المنزع للحفاظ على كيانها السلطوي وعلى الاستمرارية، بل ويمكن اعتبار العنف، الذي يمارسه بنو الإنسان كشف عما يعتور الذات من نواقص، وبالتالي فهو سلوك تعويضي عن هذه الاختلالات الداخلية، والأكثر من هذا يبقى العنف صورة لحقيقة الشر في الإنسان.
وتاريخ البشرية يعبّر عن وقائع العنف في شتى صوره وتجلياته، التي تعرّي زيف العقل ودوره في كبح هذه الأهواء السلبية في الإنسان، ذلك أن فترات عصيبة مرّت منها البشرية بسبب العنف والعنف المضاد، وما المذابح والمجازر التي مازال التاريخ يصدح بها؛ إلا تجسيد لهذا القبح الباطني المتحكم في الذات الإنسانية، وما حدث في جل الحروب والصراعات؛ إلا دليلًا على تهوّر هذا العقل وجنونه، فالطبع غلب التطبع في مسار الوجود الإنساني، وقد تجسدت ملامح هذا العنف في الجريمة الأولى التي شهدها الملكوت عندما قتل قابيل هابيل، لهذا كان الطرد من النعيم لآدم وحواء تعبيرًا عن كون الإنسان عدوّ أخيه الإنسان، ويحيل هذا الواقع إلى أن السلوك الشنيع المتمثل في العنف له جذوره الضاربة في الذاكرة الإنسانية.
العولمة فخّ البربرية المعاصرة
إنّ العولمة ما هي إلا سياسة استعمارية بقفازات تكنولوجية، تسعى إلى فرض نمط واحد في العيش والتفكير، في تسليع الإنسان وتحويله إلى سلعة فاقدة لجوهرها الإنساني، وضاربة الفطرة الإلهية وكل ما يمتّ بصلة إلى كُنْهِ الإنسان، كروح وجسد، إذ عملت هذه السياسة الاستعمارية الجديدة على تكريس صورة منمّطة للإنسان وللحياة والوجود، ولم تعد الإنسانية تفكّر فيما ينقذها من الزوال والامّحاق، بقدر ما عملت على تسفيه القيم وإشاعة اللامعنى في كل مناحي الحياة. فأصبح الإنسان فارغ الروح عبْدًا للجسد، وللتقنية الحديثة المجتهدة في استنبات كائن همّه الأساس تلبية حاجاته الغريزية من أكل وعناية بالمظهر، من خلال إيلاء الأهمية لثقافة الجسد وما يرتبط به من سلوكات تبعد الإنسان عن إنسانيته، وتقرّبه من جوانبه الحيوانية، وفي هذا ضرب لما جُبِل عليه، ودعوة مبطّنة للتّعليب والتحويل إلى أمر خارج عن سنن الكون.
وما تعيشه الإنسانية من ارتكاسة حضارية في مجالات العدالة والمساواة والحقوق، وهيمنة سلطة القمع والعنف إلا جواب عن هذه الأزمة الحضارية، ودق ناقوس الخطر لما ينتظر الإنسان من أوضاع كارثية ستشمل النطاق البيئي، والمجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ وما التفاهة والتسطيح والعمل من لَدُنِ الشركات العملاقة على جعل العالم بلا ثقافة إلا تعبير صريح عن معاناة البشرية ومكابدتها فيما سيأتي من أعوام. فالعالَم، اليوم، يمرّ من وضعٍ مثير للقلق حول ما تتعرّض له الحضارة الإنسانية من زلزلة لكل الثوابت المدنية ذات السمة العقلانية، والحاملة لبذور إنسانية الإنسان كما سنّتها الأديان السماوية والفكر الفلسفي والعلوم الإنسانية والحقة، ومن تدمير لصروح تاريخ الإنسان الشاهقة سموًّا ورقيًّا؛ ليغدو الإنسان، في ظلّ العولمة، مجرّد عبْد وقع في فخّ البربرية المعاصرة.
فخّ يهدّد الوجود وكينونة الموجود، ويطرح إشكالات عميقة متعلّقة بدور الموجود في هذا الوجود. ومن مظاهر مقاومة فخّ العولمة رفض العقل الإنساني لما يخطط له من مخططات جهنمية لم يعرفها التاريخ الإنساني، باسم التقنية المقيتة وتحطيم الحدود بين الأمم، وإعطاء الحرية للقيم المتنافية مع روح الإنسان وفطرته، وناموس الملكوت، وذلك من خلال تشكيل حلف المناصرين للمناخ والإنسان، وبالرغم من هذه المقاومة إلا أن العولمة اكتست بقاع العالَم متحدّية كل الأعراف والخصوصيات لتمنح للشر البربري أن يتحوّل إلى أخطبوط قاهر لجوهر الروح وقاس على العقل الذي وقف عاجزًا أمام هذا المدّ الجارف، لتدخل الإنسانية وحضارتها وإرثها ووجودها وكائناتها وموجوداتها النفق المسدود، مما يتطلب إعادة النظر في كلّ ما أنتجته هذه الإنسانية، لإيجاد مخرج حقيقيّ لهذا الوضع الحضاري المأزوم، والغامض الأفق. فالتحدّي الكبير والعظيم الذي يفرض على الإنسان حضوره يكمن في الكيفية التي بإمكانها إنقاذ البشرية من الرعب القادم والبربرية الجديدة.
على سبيل الختْم
نخلص إلى أن البربرية المعاصرة بما تحمله من واقع إنساني ينذر بالكوارث على الحياة الإنسانية جمعاء؛ أفضت إلى إحداث خلخلة في منظومة العقلانية، ومتجاوزة السرديات الكبرى، شارعة لسردية عولمة تسرد محنة الوجود والموجود بلسان ينقّط مرارة ويأسًا وقنوطًا؛ من حال إنساني مضطرب ويفضي إلى الجنون، نظرًا لما أصاب الحياة المعاصرة من ارتجاجات وتوترات وانقلابات في الفكر الإنساني العقلاني. ولما ينتظر الإنسان من مآلات أكثر التباسًا وكارثية بالمعنى الحقيقي، وأكثر إثارة للخوف من المجهول.
اضف تعليق