q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

إدارة الاهداف بمنهج الزهد

مفهوم الزهد والاستهلاك في نهج الإمام علي (ع) (9)

الزهد كطريقة تفكير، وليس أسلوب حياة فقط، عندما يكون لديه طريقة تفكير واضحة في التعامل مع الأشياء المادية، الزهد ينضّج الإنسان ويرفع نوعية تفكيره في التعامل مع الأشياء المادية باعتبارها مجرد وسيلة وليست هدفا، فيُخرِج التفكير من حالة قصر النظر والتقولب الأعمى والجامد والسلبي والأناني ويكون ضيّق التفكير...

كيف يمكن لمفهوم الزهد في نهج الإمام علي (عليه السلام) أن يغيّر طريقة حياتنا المادية، ويحسن من طبيعة حياتنا المعنوية والنفسية، وينقلنا إلى مرحلة أخرى من مراحل التقدم، ويخلصنا من التخلف الذي نعيشه.

إحدى أهم النقاط في عملية بناء الزهد هو نوعية الأهداف في الحياة، فكل إنسان له أهداف معينة، وهذه الأهداف تختلف من إنسان إلى آخر، بعض الأهداف تكون قصيرة المدى، وبعضها متوسطة المدى، والبعض الآخر بعيدة المدى، وبعض الأهداف تكون مادية، وبعضها تكون معنوية محضة، أو تكون مادية ومعنوية مشتركة.

هنا سوف تختلف طريقة التفكير عند الإنسان، من خلال رؤيته للحياة، فأسلوب التفكير عند الإنسان يجعله يفكر بطريقة ما، منها باتجاه الأشياء الخارجية، أو باتجاه ذاته ونفسه، أو باتجاه الآخرين، واتجاه المجتمع، واتجاه تعاملاته مع الآخرين، لذلك فإن طريقة التفكير لها دور اساسي في عملية اختيار الأهداف المناسبة، وبناء أسلوب الحياة الذي يحتاجه حتى يتعامل مع كل القضايا والمسائل والمشتركات مع الآخرين.

هناك بعض الناس تكون أهدافهم مادية محضة، فهو يريد أن يحصل على المادة بأية طريقة كانت، ولكي يكسب بعض الأموال فإنه يضطر إلى ترك التعليم، وبذلك يصبح مورد رزقه خارج التعليم، فيترك الدراسة بناء مهارة مهمة وبعيدة المدى من أجل مهنة سهلة المنال، من اجل جني الأموال بشكل سريع.

في حين هناك البعض يتركون التعليم، أو بناء مهارة معينة وهم في نصف الطريق، مثل الإنسان الذي يداوم في المدرسة ثم يترك التعليم لا يزال في المرحلة الابتدائية، أو في المرحلة المتوسطة، وبعض يستكمل تعليمه إلى الإعدادية، وبعضهم يستمر في التعليم الجامعي، وبعضهم يواصل دراسته حتى الماجستير والدكتوراه.

كلما يرتفع مستوى أهداف الإنسان، تنفتح له الآفاق بشكل أوسع وأفضل، وكلما تقل رؤية الإنسان، وينشغل بالقضايا المادية وتكون أهدافه قصيرة وضيقة ومحدودة أيضا، لذلك فإن هذه الأهداف مهمة، وعندما نتحدث عن الزهد فهو عبارة عن طريقة تفكير في الحياة، تجاه عالم الأشياء وتجاه عالم المادة، أو بعبارة اخرى كيف نتعامل مع الأشياء.

التطور المعنوي الموازي

فالإنسان تارة يكون تفكيره تجاه المادة ماديا محضا، أي يعيش في عالم الماديات فقط، وهذا يعني أن حياته قامت وتقوم وتستمر حتى الموت من أجل المادة، فلا يوجد لديه مبدأ أو رسالة إنسانية أو معنوية في هذه الحياة، مع ان بناء الحياة الصحيحة، يعتمد في الأساس على صناعة الحياة العميقة القائمة على التطور المعنوي، وليس التطور المادي فقط.

لأن التطور المادي الذي يُبنى بلا تطور معنوي موازٍ له، سيكون بناء ناقصا وعقيما وغير سليم وغير مكتمل، البناء المادي يأتي في مرحلة ما بعد البناء المعنوي، أو في مرحلة يتكامل فيها مع البناء المعنوي تكاملا مستمرا ومتصاعدا في بناء مشترك متّسق ومتوازن.

لذلك فإن نوعية انتخاب الأفكار تعتمد على نوعية التوجيه الذي يحصل عليه الإنسان، أو على نوعية الثقافة السائدة الموجودة في المجتمع، هناك في بعض المجتمعات اليوم يقول الناس نذهب لنتعلم حتى نحصل على مردود مادي، إذن ليس هناك هدف علمي أو معرفي أو معنوي للإنسان في عملية التعليم بهذه الطريقة من التفكير.

الزهد طريقة تفكير

لذا فإن هذه النوعية من التفكير تتحقق من نوعية الأفكار التي يسير الإنسان على ضوئها في حياته، والإنسان الذي يستطيع أن ينتخب أهدافه الناجحة في الحياة، هو الذي يحصل على التوجيه والترشيد الحكيم الذي يضعه في الطريق الصحيح نحو الأهداف الجيدة المناسبة في حياته.

ومن ذلك الزهد كطريقة تفكير، وليس أسلوب حياة فقط، نعم هو أسلوب حياة للإنسان عندما يكون لديه طريقة تفكير واضحة في التعامل مع الأشياء المادية، الزهد ينضّج الإنسان ويرفع نوعية تفكيره في التعامل مع الأشياء المادية باعتبارها مجرد وسيلة وليست هدفا، فيُخرِج التفكير من حالة قصر النظر والتقولب الأعمى والجامد والسلبي والأناني، فهو عندما يفكر بطريقة مادية بالأشياء يكون ضيّق التفكير، وتسيطر عليه الرؤية المادية المحضة، وبالتالي يكون جامدا كونه يفتقد للنضج المعنوي في ذاته الذي هو جوهر تطور الانسان، حيث لا يهتم بالمعرفة كجانب أساسي في بناء نفسه، ولا يهتم بالدين والأخلاق والفضيلة، كأركان عضوية في عملية التربية والتنمية المعنوية.

 لذلك فإن الزهد كطريقة تفكير واسلوب ومنهج حياة، يرسم الأهداف المطلوبة للإنسان ويوصله إلى الحياة الحقيقية التي يحتاجها بالفعل، هناك بعض الناس يعيشون في عملية القولبة المادية العمياء المحضة، تراه يصل إلى عمر معين وحينئذ يفهم بأنه لم يصل إلى شيء في حياته، وضاعت حياته هدرا أو سدى، هناك خلوّ أو فراغ معنوي في داخله، وهناك فقدان للمضمون، وهناك عدم جدوائية في حياته، وهذا يعني أن غاياته وأهدافه كانت وهمية ولم يحصل على الغايات الحقيقية التي حجبتها الطموحات المادية.

الإنسان الظاهري الشكلاني

الزهد يجعل الإنسان يسير في بعد أعمق وأكثر ادراكا، حيث يقوده نحو الغايات الحقيقية والعميقة وليست الظاهرية السطحية، فبعض الناس يريد أن يرتب حياته، فيكون عنده بيت جميل وأثاث فخم وتحفيات فاخرة، والأشياء التي تدور حوله فخمة، هذا الإنسان ظاهري تسيطر عليه الشكلانية في حياته وهو فاقد للمضمون، ولا يوجد لديه عمق في الرؤية ولا في التفكير.

أما الزهد فإنه يساعد الإنسان في ان يتحرر من شكلانيته وسطحيته، فيكون عميقا في تفكيره وفي رؤيته وفي بصره وبصيرته للأشياء، فعندما يكون متحررا من قيود المادة، وأغلال الشكلانية الظاهرية، يكون متطورا ناميا ناضجا وسائرا نحو الغايات الحقيقية في الحياة، كذلك يوجّه الزهد الإنسان بالذهاب نحو الأشياء النافعة، وليس وراء الأشياء المضرّة.

فعندما يتعامل مع الأشياء والملذّات والماديات والمتع، باعتبارها مجرد وسيلة وليست هدفا، هنا سوف يختار النافع في حياته، على سبيل المثال، فإن الناس الذين يأكلون كثيرا ويتناولون الطعام بنهمٍ وشراهة كما ذكرنا سابقا، هؤلاء هدفهم الأكل وتناول الطعام باستمرار، فيكون هذا الطعام وبالا عليهم ومضرّا وليس نافعا لهم. على الإنسان أن يأكل الطعام بقدر حاجته، فيكون نافعا له في عملية بناء جسده، بناءً صحيحا سليما معافى، وخاليا من الأمراض، لذلك فإن الزهد يمنهج عملية بناء الأهداف النافعة في الحياة، بعيدا عن الأشياء التي تُلحق به الضرر.

الزهد يعزّز الهوية والانتماء

 كذلك فإن الزهد يساعد الإنسان على الذهاب وراء الأهداف الشاملة، أي التي تشمل جميع الجوانب في حياته، فهو يستفيد وينتفع مع الآخرين كلهم، ولا يصحّ ولا يمكن أن ينتفع وحده.

إن الأهداف المادية تجعل الإنسان أنانيا، محصورا في ذاته، ومن يعيش منعزلا في ذاته فإنه يعيش الاغتراب، ويعيش فقدان التواصل مع الآخرين، وفقدان الانتماء للمجتمع، وبالتالي يفتقد للهوية المشتركة مع الآخرين، بل ليس لديه هوية أصلا، لأن الهوية هي عملية انبثاق للتعامل والتعاون والمشاركة مع الآخرين، فلذلك فإن الزهد يمنح الإنسان خاصية التعاون المعنوي الإنساني الفطري مع الآخرين. بالتالي فهذا يساعد الإنسان على الخروج من عملية الحسابات المادية في التعامل مع الآخرين.

كذلك الزهد يحقق للإنسان الغايات الناجحة في حياته، فمعظم الذين فشلوا في حياتهم، حدث هذا بسبب اقتصارهم على البعد المادي في حياتهم، فهو يربح الأموال بشكل مستمر وتتراكم عنده الأموال ولكن إلى أين سيصل، وماذا حقق في حياته؟، وماذا حقق لنفسه العقلانية، ونفسه الحرة، لذاته المتعاونة مع الآخرين ومكانته الاجتماعية، الجواب لم يحقق شيئا وهذا هو الفشل.

أما النجاح فهو القدرة على أن يسير في هذه الحياة ويحقق ذاته، ويحقق نفسه وروحه ووجوده الغالي المعنوي في الحياة، فالنجاح يرتبط بعملية التفكير التي تنبثق من منهج الزهد.

عن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (الزهد تقصير الآمال، وإخلاص الأعمال).(1)

ما معنى الآمال؟

الآمال هي جمع أمل، والأمل هو الحرص على الدنيا والإقبال عليها والحب لها والإعراض عن الآخرة، بمعنى تكون اهداف الإنسان وآماله في الحياة هي ماذا يكسب من الدنيا فقط، ولا تهمه النتائج، ولا يهمه الحساب والكتاب، ولا تهمه الآخرة، فالمهم ما يحصل عليه في الدنيا، لذلك فإن الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة ولا يعمل لها، فهذا الإنسان لا توجد عنده حدود، وليس لديه قواعد في الحياة، ولا توجد عنده حدود إنسانية يرسم ويوجه حياتها في ضوئها.

فآماله كلها معلّقة على الدنيا، مثل هؤلاء الذين يبحثون عن السلطة بأي ثمن، ويبحثون عن المال بأي ثمن، وبأية طريقة كانت، ويكونون انتهازيين، يسلكون طريق الفساد وطريق الاستبداد، هؤلاء لا يؤمنون بالآخرة ولا يعملون من أجل الفوز بها، فتكون أعمالهم معلقة بالدنيا فقط، هذا العمل كله وهذا الحرص على الدنيا هو مجرد وهم يعيشه الإنسان.

فالإنسان الذي تكون آماله معلقة في الدنيا فقط يفقد المضمون الفطري الوجودي في نفسه، الذي خُلِق له في الحياة وهو الابتلاء والامتحان والسير نحو الله سبحانه وتعالى ونحو الآخرة، وعندما يخرج الإنسان عن ماهيته وفلسفة وجوده، فهو بالنتيجة سيعيش في حياة ضيقة وتكون له الدنيا سجن، والمادة أغلال وقيود تجعله منغمسا في عالم منحط متسافل ليس فيه أي مضمون أو أية جدوى في الحياة.

الآمال الفاشلة والعمل الناجح

إن الزهد منهج لعملية بناء للإنسان في التعامل مع الآمال والأهداف، فتصوغ الآمال والأهداف بطريقة أشمل وأفضل وأكثر معنى ومضمونا، وتعتمد عملية الزهد ليس على الأمل وإنما على العمل، أي أن الزهد يقود الإنسان من أجل العمل، لأن العمل عندما يكون هو الاستراتيجية للوصول إلى الغايات الأساسية يكون هذا العمل قيّما، فالقيمة بالعمل وليس بالأمل وليس بالمال والمادة، بل العمل هو الذي يعطي قيمة للمادة.

عن الامام علي (ع): (من أيقن أنه يفارق الأحباب، ويسكن التراب، ويواجه الحساب، ويستغني عما خلف، ويفتقر إلى ما قدم، وكان حريا بقصر الأمل، وطول العمل).(2)

عمل الإنسان ونوعيته وأسلوبه هو الذي يعطي للإنسان قيمة حقيقية، فالزهد هو لتقصير الآمال ولتحجيمها، وتحديدها، والسيطرة عليها لكي لا تكون غولا يسيطر على الإنسان وعلى شخصيته، ويسحبه من عالم المعنى إلى عالم المادة، ويسجنه في عالم المادة، فالزهد يتحكم بالآمال ويوجهها نحو الخير والصلاح.

فالزهد هو إخلاص الأعمال بما يؤدي الى مخرجات صالحة وسليمة، وعن الامام علي (عليه السلام): (الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ)(3)، أي تقصير الآمال الصغيرة الوهمية، والانفتاح على الآمال العظيمة والأهداف الكبيرة التي يخلقها الزهد عندما يخرج الإنسان من عالم المادة إلى عالم المعنى، ويكون التركيز على العمل الجيد والهادف والصحيح والسليم الذي يعطي قيمة حقيقية وخالصة للإنسان في حياته غير ملوثة بالأهواء والامزجة.

قيمة الإنسان تكمن في عمله المخلص الجيد النزيه الطاهر النظيف، الذي يقوده نحو التقدم والنجاح، أما الأمل فهي أمنيات وهمية تجعل الناس يعيشون في الكسل والاسترخاء في انتظار تحقق أمنيات بلا عمل، وهكذا يتم خلق الفشل.

وعن الامام علي (عليه السلام): (مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ)(4)

الزهد وقيمة العمر

إن أهم ما يحققه لزهد هو أنه يعطي قيمة كبيرة لحياة الإنسان، فعندما يكون الإنسان غارقا في المادة، تكون قيمته قليلة ضعيفة وغير جيدة، أما الزهد فيعطيه بعدا أشمل وأعظم ويعطي زمنا أكبر، وتفكيرا أفضل، وحزما أوسع لهذا الإنسان في حياته.

يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) البقرة 96. هذه الآية تبيّن معنى الزمن عند الإنسان، فالذي يكون حريصا على الحياة وحريصا على الدنيا وبعيدا عن الآخرة ولا يهتم بها، فإنه سوف تكون حياته قصيرة حتى وإن عمَّر لألف سنة، لأن الإنسان الذي يعيش الآمال الدنيوية لا قيمة لحياته.

فحتى لو عاش ألف سنة أو ألفين أو ثلاثة آلاف سنة بهذه الطريقة، فإنه لا يستفيد شيئا من حياته، وكأنه عاش سنة أو أقل من سنة، بينما الإنسان الذي يعيش في طريق الآخرة وطريق الزهد، ويكون حرصه على الآخرة وليس على الدنيا فإنه إذا عاش سنة واحدة فسوف تُقدَّر بألف سنة.

معيار ومفهوم الزمن

ان الإنسان الذي تكون آماله كبيرة وأهدافه عظيمة يكون حجمه عظيم وكبير في الحياة، وبهذا فهو يعمِّر عمرانا حقيقيا، لأن أهدافه عظيمة، ونأتي هنا بمثال حول قيمة الزمن وقيمة الإنسان بعمله، وقيمة الآمال، والأمثال تُضرَب ولا تقاس، فمثلا أحدهم يريد أن يربح مليون دينار، هذا هو هدفه مثلا، فهذا الإنسان من الممكن أن يربح مئة ألف أو مئتيّ ألف دينار، لأنه هدفه صغير وضيّق.

ويوجد إنسان يريد أن يربح مئة مليون دينار، فقدي يربح هذا الإنسان عشرين أو ثلاثين مليون دينار لأنه سوف يعمل ويتحرك ضمن أهدافه، فالهدف هو الذي يحرّك الإنسان، وهو الذي يحفّزه ويدفعه نحو الغايات، فإذا كانت الأهداف محصورة بالمادة سوف تكون النتائج مادية، أما إذا كانت الأهداف معنوية كبيرة، فيكون الناتج أكبر وأعظم في الخيرات وعمل الخيرات، والعمل الصالح، وهذا هو العمران الحقيقي، ونقصد به العمران المعنوي.

حيث يعطي العمران المعنوي للإنسان ولعمره ولزمنه قمة كبيرة، وهذا هو المهم في الحياة، فإذا فكرنا بهذه الطريقة وهي طريقة الزاهدين ومنهجهم، فستكون لأعمارنا قيمة كبيرة وستكون عظيمة، فالإنسان الذي يتعامل مع الزمن بهذه الطريقة يكون إنسانا منتجا، نافعا، مستثمرا لعمره بطريقة حسنة، وعندما ينتهي، سوف ينتهي مستمرا وصالحا في حياته.

عن الامام علي (عليه السلام): (وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَ تَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ).(5)

سمات الأهداف الدنيوية

وحتى نعرف أنفسنا وأين نضعها، وكيف نستثمر حياتنا وأعمارنا، لابد ان نعرف ما هو الفرق بين الأهداف الدنيوية، والأهداف الأخروية، فمن سمات الأهداف الدنيوية:

1- إنها فانية وليس باقية:

والبناء على الفناء عقيم قصير العمر، ومحدود التفكير، فهذا الذي يبني على الفناء يكون فاشلا، مثال على ذلك بعض الأشخاص عندما يبني بيتا لا يهتم بقيمة هذا البناء لأكثر من عشر سنوات، وفعلا حين يتجاوز هذا البيت من عمره عشر سنوات سوف يكون متضعضعا وغير قابل للسكن، لأن صاحبه بناه ليصلح لمدة عشر سنوات لا أكثر، وهذا الإنسان سوف يكون حائرا ولا يعرف ماذا يفعل؟

كذلك بالنسبة للإنسان الذي يريد أن يبقى ويعمّر عليه أن يفكر في بناء بيت عمره خمسين 50 سنة أو ستين 60 سنة، بعد ثلاثين أو أربعين سنة سوف يكون بيته جيدا، وهذا ينطبق على البناء في الدنيا والآخرة، فالإنسان الذي يبني للدنيا سيكون معرضا للفناء، وبمجرد أن ينتهي بناؤه سوف ينتهي عمره.

أما الذي يبني للآخرة يكون بناؤه باقيا إلى الأبد، وهذا هو الفرق بين البقاء والفناء، فالأهداف الدنيوية معرّضة للفناء، أما الأهداف الأخروية فهي للبقاء، فالذي تكون أهدافه أخروية سوف يربح الدنيا والآخرة، كالإنسان الذي بنى بيته لكي يبقى خمسين سنة، وهو بقيَ قائما وصالحا للسكن فعلا، واستفاد منه في حياته، فالمعادلة تسير هكذا، فالإنسان الذي يحرك نفسه ويمنهج نفسه نحو الأهداف الأخروية العظيمة سيكون باقيا.

وفي الآية القرآنية: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) الأعلى 17. والآخرة هي الخير وهي الأبقى، والإنسان الذي يؤثِر الدنيا، سوف يعيش النقص والعقم والفشل في حياته، أما البقاء فهو للآخرة.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (وَالدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ وَلِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ وَهِيَ حُلْوَةٌ خَضْرَاءُ وَقَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ وَالْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ وَلَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ وَلَا تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغِ)(6)، فالدنيا دار فناء، وعمر الإنسان ينقضي بسرعة.

الجمال الحقيقي في الجمال المعنوي

عندما ينظر الإنسان إلى صوره في المرآة، أو ينظر إلى صوره القديمة في ألبومه الخاص فيرى نفسه كان صغيرا ثم شابّا وماذا أصبح الآن؟، فهذه عملية فناء العمر حتى يصل إلى مرحلة اليقين، ومرحلة الانتقال إلى الآخرة، هذا هو الفناء، لذلك فإن الإنسان عليه أن لا ينخدع بالدنيا الجميلة الخضراء، ولا ينخدع بالماديات.

وعليه أن لا يرسّخ حب الدنيا في قلبه ويتعلق بالدنيا والملذات باعتبارها جميلة، الجمال الحقيقي هو الجمال المعنوي الذي يربط الإنسان بالله وبقيم الله سبحانه وتعالى، ويربطه بالآخرة، (فارتحِلوا) عندما تسافر إلى مكان ما، عليك أن تسافر وأنت تمتلك كل الأشياء التي تجعلك مكتفيا بنفسك في رحلة الآخرة، لا تذهب وأنت تعاني من نقص معين، لأنه لا يمكن لك أن تعثر على ما يكمّل نقصك في الآخرة، لأنك لا تستطيع ان تعوض في الآخرة ما خسرته من عمرك في الدنيا، والحقيبة التي تسافر بها فارغة.

(من الزاد)، الزاد يعني العمل الصالح، فتزوَّدوا بالعمل الصالح مهما استطعتم، فهو الكنز الثمين وهو الذخيرة الحقيقية.

(ولا تطلبوا منها أكثر من بلاغ)، أكثر مما يقودكم من الدنيا ويوصلكم إلى الآخرة، وهذا هو المعنى الحقيقي للإنسان الذي يبحث في حياته عن رحلة كريمة صحيحة تقوده نحو الارتقاء والازدهار في حياته، فالإنسان عندما يسافر في رحلة ما فإنه يبحث عن السعادة، وعن الهناء.

لذلك عندما يرتحل الإنسان من الدنيا، عليه أن يرتحل بعمله الصالح، ولا يبقى قلبه متعلقا بالدينا، فيأخذ من الدنيا بقدر ما يكفيه من الماديات، ويأخذ معه الزاد الكثير من الصالحات، حتى يصل إلى مرحلة التكامل المعنوي ويدرك معنى الجمالي الحقيقي.

وللبحث عن سمات الأهداف الدنيوية تتمة...

...................................

(1) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٢١.

(2) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٠ - الصفحة ١٦٧.

(3) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 81. حيث قال (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ وَالشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَالتَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلَا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ وَلَا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ وَ كُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ).

(4) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم 36.

(5) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 147.

(6) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 45.

 

اضف تعليق