الابتلاء بالتغرب هو مجموعة من الأعراض التي تطرأ على حياتنا، في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية، من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، وبدون أن يكون دخولها تدريجيا، يسمح بالاستعداد لها، وإنما تداهمنا دفعة واحدة، لتقول لنا: أنا هدية الآلة إليكم...
في سنة 1962م أصدر الناقد والأديب الإيراني جلال آل أحمد (1923-1969م)، كتابا لافتا في عنوانه، ناحتا به مصطلحا حديثا ومثيرا، سرعان ما أخذ طريقه إلى المجال التداولي في الأدب الفارسي أولا، ثم في الأدب العربي تاليا، وبقي هذا المصطلح يتواتر ويتردد إلى اليوم، نتيجة لبلاغته البيانية من جهة، وطبيعته النقدية من جهة أخرى، والعنوان هو (الابتلاء بالتغرب).
ومادة الكتاب في الأصل، كانت عبارة عن تقرير أعده صاحبه إلى وزارة التربية والتعليم، وتحديدا إلى مجلس الهدف من التعليم في إيران، وكان ذلك سنة 1961م، وبعد أن تحفظ المجلس على هذا التقرير، وامتنع عن نشره، بسبب طابعه النقدي الصريح والصارم، جرى تداوله على نطاق خاص بين زملاء المؤلف وأصدقائه، الذين أبدوا عليه بعض الملاحظات بقصد التهذيب والتنقيح، وبعد زيادة وحذف قام بها المؤلف، فصدر هذا التقرير في كتاب يحمل العنوان نفسه (الابتلاء بالتغرب).
وعند التحضير للطبعة الثانية، أضاف له المؤلف بعض الزيادات، لكن الكتاب تمت مصادرته وهو تحت الطبع، وتعرضت دار النشر التي قامت بطباعته إلى الإفلاس، وبعد عشرين سنة صدرت الترجمة الإنجليزية للكتاب سنة 1982م، وتأخرت الترجمة العربية ما يزيد على ثلاثة عقود، وصدرت إحداها في القاهرة سنة 1999م، أنجزها أستاذ ورئيس قسم اللغات الشرقية بجامعة القاهرة الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا.
وبحسب جلال آل أحمد فإنه ليس أول من نحت تسمية الابتلاء بالتغرب، وإنما أخذها من التعبيرات الشفوية للدكتور أحمد فرديد الذي كان عضوا في مجلس هدف التعليم، وحصلت بينهما مناقشات في هذا الشأن، وجد فيها آل أحمد أن الدكتور فرديد كانت لديه أقوال وأراء تحت نفس هذه التسمية، وهي جديرة في نظره بالسماع إلى حد كبير، وكان يتأمل أن يجرأ قلمه على كتابتها.
مع ذلك فإن شهرة هذه التسمية، وصداها الواسع، ترجع بدرجة رئيسية إلى آل أحمد وكتابه الذائع الصيت، الذي اعتبره مترجم الكتاب الدكتور الدسوقي شتا بأنه يقف وحده على قمة ضمن الأعمال الفكرية الإيرانية التي أثارت الجدل.
ولولا هذا الكتاب، ومنزلة مؤلفه، لما وصلت هذه التسمية إلى ما وصلت إليه من معرفة وشهرة، ليس هذا فحسب، بل يمكن القول بأن ميلاد هذه التسمية بات يؤرخ له مع صدور هذا الكتاب، الذي حدد صورة هذه التسمية مبنى ومعنى، فكسا عظامها لحما، وأنشأها خلقا آخر، فاستوت على سوقها تعجب بعض الناظرين، وتفزع آخرين.
وحين استعمل آل أحمد هذه التسمية، كان يعلم أنه أمام تسمية لها منزلة المصطلح، وأعطاها صفة المصطلح، في إشارة منه إلى أهمية وقيمة هذه التسمية، ولما لها من أبعاد تفسيرية ونقدية على الصعيدين النظري والتطبيقي.
والتسمية بالفارسية كما وردت في الكتاب، هي (غرب زدكي)، وتعددت ترجمتها إلى العربية، وبالعودة إلى المؤلفات التي تحدثت عن هذا الكتاب، وقفت على سبع ترجمات هي: (الابتلاء بالتغرب، نزعة التغريب، وباء التغرب، الإصابة بالتغرب، التسمم بالغرب، صدمة التغرب، لوثة الغرب)، والتسمية التي اعتمدتها هي التي اختارها الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا في ترجمته للكتاب وهي (الابتلاء بالتغرب).
ومع تعدد هذه الترجمات، إلا أنها جاءت متفقة من جهة التعريف، وتحديد طبيعة المحتوى والمضمون، الذي حدده وكشف عنه المؤلف نفسه، فقطع الطريق على التأويلات المتعارضة، وعلى التفسيرات والتحليلات المتباينة، القريبة والبعيدة، المأتلفة والمختلفة، القابضة والباسطة.
وقد حدد المؤلف تعريف التسمية بطريقتين، الطريقة الأولى هي أقرب إلى التشبيه والتمثيل، والطريقة الثانية هي أقرب إلى الضبط والتحديد البياني، وأشار إلى هاتين الطريقتين في مكانين مختلفين من الكتاب.
بشأن الطريقة الأولى، يقول المؤلف: تعريف الابتلاء بالتغرب: هو مرض مثل الابتلاء بالوباء، وإذا لم يوافق هذا التعبير الذوق -حسب قوله- فإنه كالتعرض للفحة حر أو نزلة برد، أو إنه على الأقل أشبه بمرض التقدم في العمر، مشبها له حين يتعفن القمح من الداخل ويكون القشر سليما وفي مكانه، لكنه قشر فحسب، مع ذلك فالحديث عن مرض ما، عارض جاء من الخارج، واستفحل في بيئة مستعدة للمرض.
وبشأن الطريقة الثانية، يقول المؤلف: الابتلاء بالتغرب هو مجموعة من الأعراض التي تطرأ على حياتنا، في جوانبها الثقافية والحضارية والفكرية، من دون أن يكون لها أية جذور في التراث، أو أي عمق في التاريخ، وبدون أن يكون دخولها تدريجيا، يسمح بالاستعداد لها، وإنما تداهمنا دفعة واحدة، لتقول لنا: أنا هدية الآلة إليكم، أو قل إنها الممهدة للآلة.
* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org
اضف تعليق