برزت في الأيام الأخيرة دعوات سياسية وشعبية لمقاطعة الانتخابات، وانبرى بعض الخبراء لوصف هذا الفعل السياسي بأنه يقلل من شرعية القوى الحاكمة ويدفع إلى انهيارها، فضلاً عن الضغط على المجتمع الدولي ليكون أكثر استعداداً لأي محاولة لتغيير النظام سواء من الداخل، أو بمساعدة قوة خارجية...
برزت في الأيام الأخيرة دعوات سياسية وشعبية لمقاطعة الانتخابات، وانبرى بعض الخبراء لوصف هذا الفعل السياسي بأنه يقلل من شرعية القوى الحاكمة ويدفع إلى انهيارها، فضلاً عن الضغط على المجتمع الدولي ليكون أكثر استعداداً لأي محاولة لتغيير النظام سواء من الداخل، أو بمساعدة قوة خارجية.
في البدء لنسأل عن مفهوم الشرعية الذي يراد انتزاعه من القوى الحاكمة، أو المهيمنة على الساحة العراقية، ماذا نعني بالشرعية؟ ما هي مصادرها؟
الشرعية بالنسبة لموريس دوفرجيه: يكون النظام السياسي شرعياً عندما يمتثل للإجماع الشعبي، وعلى هذا الأساس يكون النظام الذي يعمل وفق قيمه الخاصة فاقداً للشرعية، لذلك يجب أن يستجيب للتطلعات الشعبية ليكون شرعياً.
وبتعبير مقارب يرى ماكس فيبر أن الشرعية هي علاقة تبادلية بين الحكام والمحكومين، فمقابل طاعة المحكومين للأوامر الصادرة عن السلطة يقوم الحاكم بتقديم دليل على قدرته على خدمة شعبه. كما يرى فيبر أن الشرعية تشير إلى الاعتقاد بـ"الحق في الحكم"، بمعنى آخر، يمكن وصف نظام الحكم بأنه شرعي شريطة أن يكون شعبه مستعدًا للإذعان والطاعة.
جان جاك روسو يعتقد أن الحكومة الشرعية هي تلك الحكومة التي تستند إلى "إرادة العامة".
إذا نظرياً الشرعية علاقة بين الحكام والمحكومين، يقدم فيها الحاكم ومعاونين من وزراء وحتى النواب القدرة والكفاءة في خدمة الشعب، بينما يتنازل الشعب عن بعض حقوقه، ويستجيب لقرارات السلطة التي يمارسها الحكام بأمر الشعب.
وفق المنظور المبسط أعلاه، هل النظام السياسي العراقي يتمتع بالشرعية؟
باستثناء انتخابات 2005 و2006 لأنها جاءت بظروف سياسية خاصة واختلط فيها الديني بالقومي وبثقافة الانتقام بالتشفي وغيرها، فإن انتخابات 2010 وما بعدها تمثل مقياساً جيداً لمدى شرعية مجلس النواب، ومن ثم كل ما يصدر عنه من حكومة ووزراء وقوانين، الشعب لا يقبل بالسلطة الحاكمة، ومن يمارس الانتخابات هم نوعين من الناخبين:
النوع الأول: الناخب المتحزب، وهذا الناخب لا يفتش عن كفاءة المرشحين ولا عن فائدتهم الوطنية لأنه قد حسم قراره مسبقاً عبر اعتماده على الحزب بكون الذي يختار نيابة عنه، وواجبه الأساسي الذهاب إلى المركز الانتخابي يوم الانتخابات والتأشير على الخيار الذي يحدده له الحزب.
هذا النوع من الناخبين مستمر في ممارسة حقه بالانتخاب منذ سقوط النظام الديكتاتوري وحتى آخر انتخابات عام 2021.
النوع الثاني: الناخب الوطني الحر، هو متأرجح، يجرب في كل انتخابات شخصية معينة، ويمكن وصفه بالناخب الحائر أو القلق، لأنه لا يملك خيارات مسبقة، بل يحتاج إلى عمليات بحث وتنقيب وتحقق في كل دورة انتخابية، ويعرض نفسه لعمليات مراجعة ونقد لخياراته، حتى أنه قد يغضب من نفسه لأنه اختار هذه الشخصية دون تلك.
مع الأسف، تتضاءل أعداد الناخبين القلقين مع كل دورة انتخابية بسبب قناعتهم بعدم جدوى الانتخابات وسيطرة نفس الأحزاب والقوى التي تملك جمهوراً منتظماً وثابتاً طوال الدورات الانتخابية السابقة.
اليوم بدأن نسمع عن مقاطعة الانتخابات ليس من الناخبين القلقين الذين يشعرون بعدم جدوى المشاركة، بل من قوى سياسية لم تحقق مرادها في الانتخابات السابقة وتريد –حسب رأيها- نزع الشرعية من القوى السياسية التي أخذت مكانها.
أقول لكل المقاطعين للانتخابات، أن الشرعية التي تتحدثون عنها صحيحة لكنها في داخل بطون الكتب فقط وبعض الحالمين، أمثالي أنا عندما قاطعت الانتخابات لمرة واحدة عام 2018 ووجدت أن المقاطعة فعل سياسي غير فعال مع منظومة سياسية لا تؤمن بالرأي العام ولا بالمعارضة الشعبية ولا بأي شيء.
هذه القوى لا تؤمن بالشرعية، ولا بالقانون، بل تؤمن بالقوة، سواء قوة السلاح أو قوة العدد، وأقصد بقوة العدد، المشاركة الهائلة للناخبين القلقين، فالإحصائيات طوال الدورات الانتخابية أشارات إلى مشاركة ضئيلة في الانتخابات، ومن يشاركون هم جمهور الاحزاب.
تصور أن يجتمع الجمهور القلق على قرار واحد، ويشاركون في الانتخابات، هل نستطيع هزيمتهم في الانتخابات؟ نعم نهزمهم ونجردهم من القوة العددية التي يتمتعون فيها داخل مجلس النواب، ومنها يسطرون على كل مفاصل الدولة العراقية.
لنعترف نحن الجمهور القلق، أننا فشلنا في تنظيم أنفسنا داخل إطار سياسي محدد، وتنقصنا الإرادة اللازمة للمضي قدماً في مواجهة سياسية شاملة ضد الأحزاب المهيمنة على القرار العراقي.
المقاطعة خبر مفرح بالنسبة للقوى المهيمنة وتعطيها أفضلية في كسب مزيد من المقاعد داخل مجالس المحافظات، وسوف تتسبب بخسارة مدوية للقوائم الانتخابية الناشئة، فهل هذا ما تقصدونه بنزع الشرعية؟ هل تقصدون نزع الشرعية من القوائم الانتخابية الناشئة؟
أما الحديث عن شرعية دولية وما شابه ذلك، فليعلم الجميع أن الولايات المتحدة الأميركية لم تبني علاقاتها مع أكبر حليف لها بالشرق الاوسط بسبب شرعيته السياسية، بل لقوته وهيمنته، وأٌقصد هنا السعودية وقطر والإمارات، وحتى كيان الإحتلال الإسرائيلي الذي لا يملك أي نوع من الشرعية ورغم ذلك لديه أقوى علاقات مع النظام الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية.
لنعود إلى رشدنا ونجتمع على رأي واحد وندعم القوائم الانتخابية الناشئة شريطة وجود برنامج سياسي واضح للمرحلة الراهنة والمراحل اللاحقة.
المقاطعة خسارة للجمهور القلق، وربح للأحزاب التقليدية.
اضف تعليق