اللافت للنظر أن ما يحدث اليوم في فلسطين من مجازر يمارسها الإسرائيليون بحق أهل فلسطين وغزّة بالذات، وتغاضي الغرب وأمريكا عن هذه المجازر، ودفاعهم عن الإسرائيليين المغتصبين للأرض في الحياة، ونكرانهم لحق أهل الأرض (الفلسطينيين) بحياة تليق بهم كبشر شُردوا واغتصبت أرضهم، يبدو أنهم يكتبون نهاية عصر التنوير والحداثة ويمهدون لأفول حضارتهم ونكوصها...
على الرغم من أن فيلسوف التاريخ “شينجلر” قد تنبأ بـ”تدهور الحضارة الغربية” في كتابه، الذي يحمل العنوان ذاته، بعد حربين عالميتين أكلتا الأخضر واليابس، بل أكلتا القيم الحضارية والمدنية في المجتمع البشري.كتب توماس هوبز من قبل مقولته الشهيرة “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان”، ويبدو لي أن “شبنجلر” تمكن من تفسيرها وفهم مآلاتها، فكتب لنا عن تدهور الحضارة الغربية وأسباب هذا التدهور، الذي سبقه فيه ابن خلدون، حينما كتب عن أسباب تدهور الحضارة العربية والإسلامية بوصفها أنموذجًا جليا عنده لفهم مراحل التدهور الحضاري.
تُبنى الحضارة وفق تبني لرؤية عقائدية ما تُشكل للجماعة “عصبية” كأن تكون عصبية الدم أو عصبية القبيلة، ولكنها تتحول لعصبية الدين عند من يقصدون صناعة التاريخ، ومثلما كانت “العصبية” سلاحهم لصناعة الدولة ستكون في يوم ما أداة للقضاء عليها وفق رؤية ابن خلدون.
يزداد قُبح العالم كلما تمسكنا بنزعتنا الدوغمائية، وينجلي وجهه كلما اجتهدنا في تمكننا من توظيف كل معطيات الفكر والفلسفة والدين، من أجل فك أسيجة هذه الحقيقة لفضاء أرحب..
انتصرت قيم الجمال والحرية، حينما غادر العرب والمسلمون هوس امتلاك الحقيقة المطلقة، فصنعوا حضارتهم التي امتد تأثيرها لكل بقاع الأرض.
تقدم المجتمع الغربي الذي صنع حداثته، حينما تمكن رجالات الفكر فيه وفلاسفته من صناعة الأنسنة ونزعة التنوير، التي كانت بمثابة الشعلة لبداية لحياة جديدة بعيدة عن سطوة العقيدة ودوغمائيتها، تمثلت في الثورة الفرنسية والثورة الأمريكيَّة والثورة الروسيَّة وإعلان حقوق الإنسان، ومن ثم الثورة الصناعيَّة، التي خلقت عالمًا جديدًا في تقدير قيمة العقل الإنساني وقدرته الخلّاقة في أن يكون هو الفاعل في صناعة حياة أفضل..
يبدو أن لنظرية ابن خلدون في تفسير التاريخ مصداقَا في أن التاريخ يمر بدور، ويعني بهذا الدور أن الحضارة تبدأ بمرحلة الصبا ومن ثم الشباب فالكهولة أو الشيخوخة، وبعيدًا عن حساب هذا الدور الذي وضع ابن خلدون للحضارة وعمرها الافتراضي، يزيد أو ينقص، ولكنه كما يبدو يدخل في توقعات ما طرحه فلاسفة (الحتمية التاريخية)، بمعنى أن كل حضارة لها عمر تتقدم فيه، وهناك عمر آخر تأ كل الحضارة فيه نفسها وتقتل تقدمها بأدوات كانت فاعلة في تقدمها..
بعيدًا عن نظرية (المؤامرة)، التي لا يمكن نفي وجودها بالكامل، ولكن هناك حضارات كانت متقدمة، بل كانت هي شعلة التقدم والتنوير الحضاري لباقي الأمم، ولكنها أفلت بفعل عوامل خارجية وأخرى داخلية، والداخلية كانت أمرَّ وأشدَّ على حضارتنا العربية والإسلامية، فرغم تقدمها في العلوم الطبيعية وفي الفلسفة إلا أنها أظهرت قدرة على رفض المغاير في الثقافة والعلم والفلسفة، بعد أن شاركت في صناعة أفضل ما فيه وشرحه وتطويره، كما حصل مع علوم وفلسفية اليونان، التي كان العرب والمسلون هم من أفاضوا في توضيحها وتوظيفها وفق النسق الحضاري الإسلامي ليُعيدوا إنتاجها بصورة أبهى، فكان منهم المعلم الثاني (الفارابي) ومنهم (الشارح الأكبر) ابن رشد، ولا يقل عنهما الكندي الذي بدأ معه تاريخ الفلسفة في الإسلام..
لا يخفى على أحد ما قدمته الحضارة العربية والإسلامية للغرب بعد انتقال علومها وفلسفتها لمدارسهم! فكانت هناك مدارس سينوية ورشدية لاتينية كغيرها في العلوم الأخرى مثل: الطب والرياضيات وعلوم الطبيعة والبصريات وغيرها، وقد أكدت المستشرقة الألمانية “”زيغريد هونكه” في كتابها ذائع الصيت “شمس العرب تسطع على الغرب”، الكشف عن حجم تأثير الحضارة العربية والإسلامية على أوروبا والغرب عمومًا، بتفصيل يستحق أن يطلع عليه كل عربي ومسلم، في مجالات العلوم الطبيعيَّة والطبيَّة والفلسفيَّة والجغرافيَّة والصناعية والرياضيات والهندسة والملاحة والأرصاد الجوية.
لكن ما أحدثته نزعة التكفي التي قادها الغزالي والشهرزوري، ومن ثم نكبة ابن رشد كان لها فعلها في أول الحضارة العربية الإسلامية، لتنتقل بكل الوهج الذي فيها فتكون عاملًا مساعدًا في نهضة الغرب وأوروبا.
تمكنت أوروبا وبعدها أمريكا من خلق مفاهيم مثل (الحرية الفردية) و(حق التملك) و(المساواة في الحقوق والواجبات) و(الدفاع عن حقوق الإنسان)، وكما يبدو أنهم تمكنوا من زرعها في مجتمعاتهم، وهي حق طبيعي لمواطنيهم، ولكنها ليست حقًا لأبناء جنسهم في مجتمعات أخرى تتضاد معهم في الرؤية وتختلف عنهم في المعتقد!.
اللافت للنظر أن ما يحدث اليوم في فلسطين من مجازر يمارسها الإسرائيليون بحق أهل فلسطين وغزّة بالذات، وتغاضي الغرب وأمريكا عن هذه المجازر، ودفاعهم عن الإسرائيليين المغتصبين للأرض في الحياة، ونكرانهم لحق أهل الأرض (الفلسطينيين) بحياة تليق بهم كبشر شُردوا واغتصبت أرضهم، يبدو أنهم يكتبون نهاية عصر التنوير والحداثة ويمهدون لأفول حضارتهم ونكوصها، بعد أن تخلت عن مهمتها في الدفاع عن حق الإنسان في ممارسة حريته في الحياة والعيش في أرضه والدفاع عنها، لتمهد لأفول الحضارة الغربية بطابعها الأنسني المعروف، لتكشف عن وجهها القبيح.
اضف تعليق