في فيديو قصير لا يزيد عن 22 ثانية، يظهر فيه طفل فلسطيني يبدو عمره ثلاث سنوات، شعره غير مصفف، لأن أمه ميتة في غارة إسرائيلية، يجلس في المستشفى ممدداً قدميه، وممسكاً بيديه بعضها لبعض، وكأنه يريد تعويض حنان والديه المفقودين، يريد صناعة حالة الإمساك باليد التي يقوم بها أحد والديه بشكل يومي حينما يتعرض للخطر...
في فيديو قصير لا يزيد عن 22 ثانية، يظهر فيه طفل فلسطيني يبدو عمره ثلاث سنوات، شعره غير مصفف، لأن أمه ميتة في غارة إسرائيلية، يجلس في المستشفى ممدداً قدميه، وممسكاً بيديه بعضها لبعض، وكأنه يريد تعويض حنان والديه المفقودين، يريد صناعة حالة الإمساك باليد التي يقوم بها أحد والديه بشكل يومي حينما يتعرض للخطر، فالطفل إنسان بريء بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ومشاعره رقيقة وملائكية.
الجروح تنتشر على قدميه الممددتين ويديه الممسكتين ببعضهما، ووجهه المرتعب، والتراب يغطي الجزء الأكبر من جلده وملابسه، ينظر يميناً وشمالاً، ويرتجف، إنه خائف، يشعر بالرعب، فقد ضربت منزله غارة إسرائيلية لتوها، وأخرجته فرق الإنقاذ من تحت الأنقاض، أي إنسان يتحمل صوت القذائف حين تنفجر، وأي إنسان يمكنه استيعاب سقف البيت حينما ينهار على ساكنيه.
رجفة الطفل اللاإرادية تعبر عن أقصى درجات الخوف التي يشعر بها، تصور أن أطفالنا يرتعبون من صوت الرعد الذي لا يمسهم بشيء، إنه مجرد صوت، لكنهم يلتحفون بأحضان والديهم خوفاً من هذا الصوت، فما بال هذا الطفل الذي لم يجد من يحتضنه، ولا البيت الذي يؤويه، ولا الأم التي يلجأ إليها لحظات الفزع، فجأة يكتشف أن العالم مرعب، وجعلنا نصدق كل فلسفات البريطاني توماس هوبز الذي قال بعداوة الإنسان لأخيه الإنسان، وصراع القوة وحرب الجميع ضد الجميع، وأن أكثر شيء مفقود في هذا الكوكب هو الأمان.
لماذا نفتقد الأمان؟ لأن حياتنا لا تحكمها قواعد أخلاقية أو عقلية واضحة، إنما تسود شريعة الغاب، أي أن القوي يفعل ما يشاء من أجل تحقيق مصالحه، وأي وسيلة تحقق غايته في التفوق لا بأس بها، على الطريقة الميكافيلية المشهورة "الغاية تبرر الوسيلة"، فإذا كان خلق الرعب في هذا الطفل الفسطيني أو حتى تقطيع جسده إلى أجزاء صغيرة يحقق غاية إسرائيلية معينة فلا بأس بالقيام بهذا العمل.
لقد حضرت فلسفة توماس هوبز بقوة خلال الثلاثين يوماً الماضية، وجعلت من السهل تفسير حرب الإبادة الجماعية من منطق القوة، مستفيدة من فكر نيقولا ميكافيلي التبريرية التي لا تأبه بالوسيلة إنما بالغايات، وأي وسيلة توصل للغاية فهي مباحة، حتى وإن كانت إبادة الشعب الفلسطيني بقنبلة نووية استجابة لمقترح وزير التراث الصهيوني عميحاي الياهو.
وفي طريق البحث بين الركام الإنساني تحت انقاض منازل الفلسطينيين في قطاع غزة يظهر لنا الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة، لا يهتم الرجل بما يعانيه الطفل المرتجف، فهو ضعيف مع أسرته، وبما أن القوي قادر على إبادتهم فلا بأس بذلك، لم لا، هؤلاء زوائد بشرية لا تحقق فائدة للجنس البشري، وكوكب الأرض بحاجة إلى أناس أقوياء يستطيعون القيام بعمليات القتل دون أن يتعرضوا هم للقتل.
وإذا ما تعرض أحد هؤلاء الفلسطينيين ومن بينهم الطفل المرتجف إلى إعاقة جسدية، فالواجب على القوي أن يقتلهم ويخلص الكوكب من أي إنسان ضعيف.
انتقد نيتشة نظام الأخلاق، واعتبره جزءاً من قيم العبيد والضعفاء إذ يعتقد أن الغريزة هي المحرك الأساسي للإنسان، ولا يمكن للأخلاق أن تكون مقيداً للقوي، وكل شيء يسهم في تحقيق غاية القوي أو تبرير أفعاله، يمكن القيام به.
تم وضع تطبيق درامي لفلسفة نيتشة في مسلسل صراع العروش، الذي يبرز فعل القوة المهيمن على حياة الإنسان وكيف يحقق كل فرد ذاته ويبني مملكته الخاصة، ففي لعبة العروش إما أن تفوز أو تموت "يوجد داخل كل رجل وحش، ويظهر هذا الوحش عندما يمتلك الرجل سيفاً". جوراه مورمونت.
استطاع مسلسل صراع العروش دهس الأخلاق وجعل فكرة التوحش الإنساني أقرب للتطبيق على أرض الواقع، ثم جاء الكيان الإسرائيلي المحتل ليقدم لنا تطبيقاً عملياً لهذه الفكرة، فقد استباح قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول وحتى لحظة كتابة المقال يوم الخامس من نوفمبر تشرين الثاني 2023.
قصف الكيان المحتل مستشفى المعمداني في قطاع غزة وقتل أكثر من 470 مدنياً أغلبهم مثل حالة الطفل المرتجف الذي تحدثنا عنه في مقدمة المقال، لقد جاء هؤلاء للعلاج الجسدي والنفسي بعد أن تعرضت منازلهم للدمار، ولأنهم ضعفاء لا حول لهم ولا قوة، كان من الواجب قتلهم أو من المبرر قتلهم وفق المنطق النيتشيوي اللاأخلاقي.
وإذا ما استطاع بعضهم البقاء في مخيم جباليا فلا بأس بقتلهم أيضا وإيقاع 400 شهيد آخر، هؤلاء ضعفاء ومن واجب الضعيف أن يكون ضحية للقوي. لا بأس بقتل وجرء أكثر من 40 ألف إنسان ضعيف جلهم من النساء والأطفال الفلسطينيين وحالة الأربعين ألفاً لا تختلف عن حالة الطفل المرتجف المتداول عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
أليس سكان أميركا الأصليين ضعفاء؟ ألم نسمع عن الطرق المروعة لقتلهم، وكيف تمت إبادتهم عن بكرة أبيهم، أليست أفريقيا كانت وما زالت ضعيفة، وكيف شاهدنا وقرأنها عن أساليب الغرب الأوروبي في قتلهم واقتياد الملايين منهم واستخدامهم كعبيد، أو التفرج عليهم كحيوانات بشرية.
نعم كانوا يعتبرون الأفريقي حيواناً بشرياً أقل مرتبة من الإنسان الأوروبي، والحيوان البشري طور من أطوار تطور الإنسان وفق فلسفة التطور للفيلسوف ريتشارد دوكينز، التي كانت تنبع من عمق العنصرية الغربية تجاه غير الغربيين، هؤلاء الذين ينظرون للإنسان على أنه غير متساوٍ ولا يمكن القناعة بأن الناس سواسية، وما يقوله الفكر الفرنسي جان جاك روسو بأن الناس سواسية لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع، بل الناس مستويات وأنواع، بعضهم أوروبي أبيض مسيحي يؤمن بالرأسمالية المتوحشة، وهذا هو إنسان العالم الأول، وإنسان أقل مرتبة يأتي من العالم الثاني، ثم يأتي إنسان العالم الثالث.
نختم هنا بأشد أعداء الصهيونية واليهود الألماني النازي كارل شميت، الذي ارتمى بأحضان الحزب الإشتراكي أو الحزب النازي فيما بعد، فقد اعتبر أن العدل يرسمه المنتصر، لذلك هو يعرف السياسة بثنائية العدو والصديق، استناداً إلى فكر توماس هوبز الذي فسر العلاقات بين البشر بأنها صراع الكل ضد الكل، وبما أن الحياة قائمة على هذا النحو، فالسياسة في جوهرها تعبر عن حالة توازن القوى المنبثق عن الصراع، وهذا التوازن لا يمكن استمراره أو شحذه إلا من خلال الحرب ونزعة السطوة والهيمنة.
وفق الأفكار المقتضبة التي استعرضتها، وتطبيقاتها التي تجرى على الواقع الفلسطيني من حرب إبادة جماعية لا تحتاج إلى مزيد من الشرح، يمكن القول أن الكيان الصهيوني ومعه أميركا والدول الغربية الأوروبية قد انتصرة لفكرة القوة على حساب القواعد القانونية والأخلاقية، وبذلك فهي تطبق عملياً الفكر النازي بكل تجلياته.
وإذا كانت أوروبا وأميركا قد انشأت محاكمة لكارل شميت بتهمة التأسيس الفكري للنازية، فأوروبا نفسها تطبق كل ما قاله شميت، وتزيد عليه من ميكافيلي وهوبز وحتى دوكينز.
واستمرار حرب الإبادة الجماعية في فلسطين بهذا النسق تعني أنها ستكون نتيجتها الحتمية تحقيق أوروبا انتصاراً قوياً للنازية واستعادة لفكرها الذي وضعت قواعده من جديد، وبانتظار حدوث هزات متوحشة في العالم خلال السنوات المقبلة كنتيجة طبيعية لموازين القوى المحلية والإقليمية والدولية.
أما الطفل المرتجف وأخوته الفلسطينيين الأبرياء، فلا طريق لهم إلا القبول بالأمر الواقع والموت ذلاً، أو الإمساك بسلاحهم وتحمل كل توصيفات الإرهاب غير المنصفة، هكذا تضعهم أوروبا بين خيارات صعبة لا تجعل من مهمة هذا الطفل للذهاب إلى المدرسة إلا ترفاً، والإنضمام إلى الجماعات المقاومة هي الواجب الذي لا مناص منه، هكذا هو الواقع وهو مؤلم وغير منصف وغير ودود.
اضف تعليق