بدأت ملامح الغروب تلف المدينة، وراح الظلام يحتضن المصابيح فتبدو أضواؤها أكثر لمعانا وإشعاعا، إلا أن روحي كانت خائفة، والقلق يلتفّ حولي كأفعى كبيرة، فأنا لا أحمل معي فلسًا واحدا، حتى وثيقة الأحوال المدنية لم أجلبها معي، واصلتُ تجوالي في الأزقة، أدور على المطاعم، لكن جميع من سألتهم لم يستجيبوا...
الماء يغلي والفقاعات تنفجر تباعا والبخار يعلو باتجاه السقف، (كِتْلي الشاي) كان مليئا بالماء المغلي، يستقر فوق عين الطباخ والنار تحتهُ بلهيب أزرق متأجج، فجأة يتعالى صراخ أبي وزعيقه، ثم تمتد يده في حركة غاضبة لتمسك بـ (كتلي الشاي المغلي) وفي لحظة خاطفة قذف به وهو مليء بالسائل الساخن نحو رأس أمي، فانطلق كالسهم وأصاب رأس أمي، شقَّ جبينها، فانحنت نحو الأرض، وأخذ نزيف الدم يتساقط من جبينها.
هذا ما حدث لأمي كما أخبرتني بذلك أختي زهرة، إذن صحَّ ما توقعته بأنَّ أبي هو من فعل ذلك بأمي وأسقط الدم من هامتها وشجَّ جبينها، أتذكر ذلك الشعور المرير الذي هيمن على روحي حين انتهت أختي زهرة من كلامها، لم أستطع الكلام في حينها، كما أنني لم أستطع حتى البكاء تنفيسا عن غضبي وشعوري بالظلم الذي لحق بأمي.
أتذكر في وقتها أنني بحثت عن مكان خالٍ أنفرد فيه إلى نفسي، صعدتُ إلى سطح البيت، جلستُ وحيدا مصدوما، نظرتُ إلى السماء، كانت واسعة وفيها قطع غيوم متفرقة هنا وهناك، ورأيت طيورا تمرح في الفضاء القريب، تسبح بمرح يتناقض مع ما عشته في تلك اللحظات من ألم وقهر نفسي لا يوصف، شعرتُ بأنني ولدٌ يتيم، مات أبوه فجأة، لم يعد أبي في تلك اللحظات حيّا، تخيّلته ميتا ولم أبكِ عليه، لم أحزن أيضا، هكذا تصورتُ نفسي بلا أب.
نزلتُ من السطح، خرجتُ نحو باب البيت، لم أرَ أمي ولا أختي زهرة رغم وجودهما في البيت، ولم أرَ أي كائن آخر وأنا في طريقي للخروج، ربما فقدتُ بصري في تلك اللحظات، كنتُ ناقما على كل شيء، أتذكر هذا الشعور جيدا، تركتُ بيتنا خلف ظهري وكنتُ أرتدي (دشداشة مقلَّمة قديمة) فيها جيب عند الصدر كان مثقوبا وخاليا من أي شيء، وفي جانب الدشداشة كان هناك جيب آخر فارغ أيضا.
أخذتني أقدامي نحو قلب المدينة، قرّرتُ ترك البيت إلى الأبد، أعرف أن عائلتي (أمي وأخوتي) ليس لهم ذنب فيما حدث، لكن الذي الاعتداء الذي قام به أبي على أمي، أجبرني على ترك البيت، لم أفكر بالذهاب إلى أحد الأقارب، مركز المدينة كان وجهتي الوحيدة، وصلتُ عصرا، كانت الشوارع تغصّ بالناس، حركة نشيطة وكثيفة لأجساد من كل الأعمار، بدأتُ ألف شوارع وأزقة المدينة، كان هدفي العثور على عمل في أحد المطاعم أو الدكاكين، هذا هو تفكيري الأول، فصرتُ أتجول على المطاعم والدكاكين علّ أحدهم يقبلني عاملا فيه.
بدأت ملامح الغروب تلف المدينة، وراح الظلام يحتضن المصابيح فتبدو أضواؤها أكثر لمعانا وإشعاعا، إلا أن روحي كانت خائفة، والقلق يلتفّ حولي كأفعى كبيرة، فأنا لا أحمل معي فلسًا واحدا، حتى وثيقة الأحوال المدنية لم أجلبها معي، واصلتُ تجوالي في الأزقة، أدور على المطاعم، لكن جميع من سألتهم لم يستجيبوا، لم أفكر بالطعام وكيف أحصل عليه.
لم أكن أشعر بالجوع وهذا شيء جيد، لكن همّي الأول كان العثور على عمل، عسى أن يقبل بي أحدهم عاملا حتى أنام ليلتي الأولى في المطعم أو الدكان الذي أعمل فيه، كنتُ أرى الناس تتجول في شوارع المدينة، وكانوا يتوجهون نحو المنائر المضيئة يقصدون المراقد، كي يزوروا ضريح الحسين وأخيه العباس، لاحظت الأطفال والمراهقين الذين كانوا يرافقون آباءهم وأمهاتهم، معظمهم كانوا يرتدون ملابس جديدة كأنّهم زوار من مدن أخرى، وكانوا يحملون معهم هدايا وبعضهم حلوى وآخرون رأيتهم يحملون دمىً وكرات قدم ملونة وعربات صغيرة بألوان مختلفة، كان الفرح يشع في وجوههم، والأهم هو الأمان الذي يشعرون به، فيما كان القلق يأكلني والخوف يفترسني مع قدوم الظلام.
تذكرتُ جبين أمي ورأسها الذي يقطرُ دما، وكيف انحنت نحو الأرض وأختي زهرة تصبّ الماء الدافئ فوق رأسها كي يتوقف النزف، شعرتُ بأنني أخطأت بما قمتُ به، كيف أترك أمي وهي في هذه الحال، حتى أخوتي الصغار هم بحاجة لي، واصلتُ تجوالي في المناطق القريبة من الضريحين، ثم دخلت في شارع معروف اسمه (شارع العلقمي)، هذا الشارع أخذ هذه التسمية من اسم النهر المعروف في واقعة الطف (نهر العلقمي)، وهو النهر الذي قصده سيدنا العباس كي يجلب الماء للنساء والأطفال بعد أن استبد بهم العطش.
في هذا الشارع شعرتُ بالعطش فعلا، ولم أشعر بالجوع، إلا أن مركز مدينتي كان عبارة عن صنابير من الماء لا حدود لها، وكان السقّاؤون يحملون على ظهورهم (السقايات المصنوعة من الفخار)، ويجولون في شوارع المدينة (يسبّلون الماء) ويقدّمونه للزوار والمارّة مجانا، فجأة لمحتُ شيخا ذا ذقن غارق في البياض يقف خلف موقد (منقلة) لشيّ (الكباب)، إنه مطعم صغير لرجل أشيب، لم يكن داخل المطعم أي زبون، تقربتُ من الرجل المسنّ وسلّمتُ عليه، فأجاب بوجهٍ بشوش ورحبّ بي وقال:
تفضّل اجلس في داخل المطعم، لحظات ويكون الطعام بين يديك.
فقلتُ له: لا أريد طعاما.
قال: ماذا تريد إذن؟
قلت: أريد أن أعمل معك، وأكون عاملا في مطعمك.
نظر في وجهي بلطف وعمق، ثم نظر إلى الطاولات والكراسي الفارغة، وسألني:
- هل عندك خبرة بالعمل في المطاعم، أين اشتغلت سابقا في أي مطعم؟
أجبته بلا تردّد:
- نعم عندي خبرة، سبق أن اشتغلت عاملا في مطعم حجي علي.
لم يعقّب على كلامي، ولم يسألني أين مكان هذا المطعم أو متى عملت فيه، بل تبسّم في وجهي وقال:
- تعال غدا مع صلاة الفجر، لا تنس أن تجلب معك جنسيتك (بطاقة الأحوال المدنية).
شكرتهُ وفي نفس الوقت شعرتُ بالجوع يسحق بطني، هبّتْ رائحة الشواء على أنفي، وملأت صدري، وأخذ الجوع ينهشني نهشا، لم أغادر مكاني، بقيتُ واقفا أنظر إلى الرجل ذي اللحية البيضاء، فسألني إذا كنتُ محتاجا لشيء ما؟، تعثّر الكلام في فمي، وأصِبتُ بالخرس، كرّر صاحب المطعم سؤاله، لكنني انسحبتُ، أدرتُ ظهري وحملتُ جسدي بصعوبة مبتعدا عن رائحة الشواء التي طوّقتني من كل الجهات.
بدأت أفكر من اين أجلب له الجنسية في فجر غد، ثم هجمت عليَّ حاجة المبيت هذه الليلة، فأين أنام ليلتي؟، هكذا سألتُ نفسي، و وبّختها، لماذا لم أطلب المبيت في مطعم الرجل المسنّ، وفجأة قرّرتُ العودة إلى المطعم وأطلب منه المبيت فيه، وحين وصلتُ المطعم وجدتهُ مغلقا، شعرتُ بإحباط شديد، واحاطت بي غربة ثقيلة، وكدتُ أبكي أو ربما بكيت دونما صوت، قطرات من الدموع الصامتة تدحرجت فوق وجهي، مسحتها وأسندتُ ظهري إلى باب المطعم، ثم خطرت فكرة في ذهني أن أنام هنا عند باب المطعم، بحثت عن ورق مقوّى هنا وهناك وعثرت على بعضه، فرشته ومددتُ جسدي فوقه ووضعتُ قبضة يدي اليمين وسادة تحت رأسي، توقعتُ أنني سأنام سريعا بسبب التعب الشديد الذي أنهك جسدي من أثر السير والتجوال.
ما حدث مع أول دقائق نمتها في باب المطعم، لم يكن يخطر في بالي، كانت رائحة شواء (لحم الكباب) تتدفق من أسفل باب المطعم، نحو أنفي، تملأ صدري، وتستفزّ بطني، لكن معدتي هدأت بالفعل، كنتُ نائما حالمًا أو في اليقظة، أمضغ الطعام اللذيذ، حدث هذا في الصحو أو المنام لا أدري بالضبط، كان الجوع قد تبخّر بطريقة عجيبة، وهيمن على جسدي نوم عميق، ومع ذلك مرّ بي طيف أمي ورأسها المدمّى، رأيتُ دمها يقطر على الأرض، ودمعها الساخن ينهمر، ورأيت وجه أختي زهرة وهي تتوسل أن أعود من أجل أمي، ذهب الجوع كله حين رأيت وجه أمي، لم ينتهِ هذا الألم الغريب إلا حين شعرت بصوت حنون هادئ أخذ يُطلقه صاحب المطعم قريبا من سمعي، فتحتُ عيوني، رأيت لحيته البيضاء، وبدأ يومي الأول عاملا في مطعم الكباب الصغير.
اضف تعليق